نشرة “الإنسان والتطور”
25-7-2011
السنة الرابعة
العدد: 1424
تعتعة التحرير:
مشروع الثورة، والوعى الجمْعى الجديد
يا ترى: لماذا مثل هذه الكتابة، وما جدواها؟ وإذا كنت قد سئمت منها كما أدعى، كما سئمت من الكلام سواء بالمشاركة فيما يسمى حوارا أو “توك شو” أو محاضرة أو أى كلام، فلماذا أواصل؟ أشعر هذه الأيام – مثل بعض مرضاى – أن هناك مؤامرة لا تمت إلى التفكير التآمرى بصلة، ولا إلى مجموعة أمراض البارانويا، مؤامرة أغلب الظن أننا مشاركون فى تدبيرها لأنفسنا،
بصراحة: كنت أزهو طول عمرى سرا، أننى أنتمى لهؤلاء الناس “المصريين”، ويتجسد لى هذا الشعور أكثر حين أكون وسط عينة من هؤلاء الذين يسمون “مرضى نفسيين”، فى خبرة العلاج الجمعى مع شباب وشابات يتدربون معى ونحن نكتشف سويا بعض ما هو نحن مع مرضانا. هؤلاء هم الذين علمونى أكثر فأكثر من هم المصريون:
خلال أربعين عاما : أذهب كل أربعاء، كل أربعاء، صيفا وشتاء، إلى قصر العينى، قسم الطب النفسى الذى تجدد بملايين الجنيهات مؤخرا ليخدم الفقراء مجانا (غير”على حساب الدولة”)، ألتقى بالمجموعة الحالية : حوالى عشرة مرضى، وثلاثة طبيبات، عينة عشوائية غير ممثلة بالضروره للثقافة المصرية، لكنهم ناسى وأهلى، نظل معا: مثل كل عام، إثنى عشر شهرا، حوالى خمسين أسبوعا، يتخلّق منا وبنا خلال هذا العام الكامل ما أسميته: “الوعى الجمعى”، ينتقل اهتمامنا من العلاقات الثنائية إلى العلاقة بالزمن عاملا حيا ماثلا حين تصبح الساعة التى تجمعنا “السابعة والنصف صباحا” هى مركز الأسبوع الذى نتمحور حوله: ندور حوله وقبله وبعده، فيستمر لقاءنا حتى بعد افتراقنا، كما تصبح الحجرة التى تضمنا هى منطقة أمان الرعاية والمسئولية والمعية، ورويدا رويدا، نكتشف أننا أصبحنا ننتمى إلى هذا الوعى المشترك، نتعمد ألا نتكلم عنه، ولا يملكه واحد منا دون الآخر، يستمر اللقاء 85 دقيقة، كل أسبوع، كل أسبوع، نعيش “الهنا والآن” طول الوقت، نعيش فى اللحظة الحاضرة جدا، فلا يتحدث أى منا – كما شاع عن العلاج النفسى – عن الماضى أو الأسباب أو العقد أو هذا الكلام الذى يشيعه الأطباء النفسيون، يتعمق “الآن” بنا ونحن نتخلق منه، فيمتد خيالى إلى من هو خارج الحجرة “الرحم”، فيصلنى وقع خطى العاملين بالقسم، من أول عمال النظافة والحراسة إلى رئيس القسم، فأشعر أنهم مصريون كذلك، وجدًّا، لكنهم أبعد عنى من الذين أنتمى إليهم داخل الرحم الجمعى هذا، تنتهى الجلسة تلو الجلسة، فلا تنتهى، لأن الوعى الجمعى الذى تكوّن فيما بيننا يملأ وسط الدائرة أكثر فأكثر، وهو لا ينتهى، بل هو ينمو إذا اقتربنا، وينمو إذا ابتعدنا، إذ كلما ابتعدنا بانتهاء الجلسة، وتواعدنا على لقاء الأسبوع التالى، نجد أن كل واحد منا قد احتوى جزءا من هذا الوعى الجمعى المتشكل أكبر فأكبر، وأرحم فأرحم.
نكتشف أن المسألة ليست هى فى أننا نتذكر بعضنا بعضا أثناء الأسبوع، إذ أن ما ينمو بيننا هو شىء آخر بعْد الذاكرة وقبلها، المسألة تصبح أن “كل واحد منا أصبح يحتوى كل واحد منا” أكثر فأكثر، كلما اقتربنا من بعضنا البعض نخاف أن ننفصل عن مجتمعنا الأوسع مع أننا نتبين اغترابه باضطراد متزايد، نشتغل فى ذلك، فنتعلم كيف أن قربنا يقربنا من هذا المجتمع (المغترب) الأوسع وليس العكس.
ينتهى العام، ولا تنتهى العلاقة، بل لعلها تبدأ بشكل آخر دون أن ندرى، ينصرف كل منا إلى عالمه الخاص السابق بعد أن يتوقف هذا اللقاء الأسبوعى، ينصرف لكنه لا ينصرف فنحن معه، معنا، يتطور هذا الوعى الجمعى الذى تكون فنكتشف أننا: نستطيع أن نحب من لا نعرف، وأن نعرف ما لا نقصد معرفته، وأن نفعل ما كنا نتصور أننا كنا أعجز عن أن نفعله،
ما علاقة كل ذلك بما يجرى فى مصر الآن؟
منذ بدء الأحداث فى 25 يناير، مشروع الثورة، (ربنا يتمم بخير!!)، ناقشنا- معا فى هذه المجموعة: هنا والآن – ما يجرى حولنا وفينا، لعدة أسابيع، لم تكن مناقشة لطرح آراء ووجهات نظر، فهذا ضد قاعدتنا الجوهرية “هنا والآن”، عشنا مشاعرنا معا، كانت معايشة مليئة بفرح مشروع، وحذر أكبر، وألم متصاعد، وأمل ممتد، واستمرار ممكن، لا يعرف أحد من أفراد المجموعة معنى كلمة “الاقتصاد”، ولا حتى ما هو “الدستور”، ولا “نص المادة الثانية”، ولا المراحل التارخية لما هو “ثورة”، ولا ما هى البورصة، لكنه يعرف ثمن كيلو الطماطم، ويسمع عن كلمة “لحمة” بين الحين والحين.
بعد مرور اثنى عشر شهرا يخرج أغلبنا مختلفا، يكتشف انه تغيّر، لا يعلن ذلك بالضرورة، ولا يعرف كيف هو تغيّر فى ماذا، لكن ذلك يصله، يصلنا دون ألفاظ عادة، نكتشف أننا أصبحنا “معا” فنتعرف على قيمة هذا الحرف الجديد “مع“، كما نكتشف – دون توصيف– نبض حروف أخرى وصلتنا بشكل جديد فغيّرتنا مثل حرف “فى“، وخاصة إذا برق فى الوعى وهو يسبق اسم الجلالة، “فى الله“، وإذا بهذا الجار والمجرور لا يميز بين متعلم وجاهل، بين طبيب ومريض، بين غنى وفقير، ونكتشف أيضا القدرة السحرية لحرف “على” الذى كنا نتصور أنه حرف يعنى شيئا “فوق” شىء، وإذا بنا نمارس ما نتعلم منه أننا استعملناه معظم الوقت بمعنى الالتزام، والعهد، نحن نجتمع “على” هذا الوعى، ونفترق “على” هذا الوعى، وإذا بهذا الوعى يصّاعد بنا “إليه”، مفتوحا على مصراعيه ليسعنا طول الوقت، ويسع معنا مثلنا، كلا من موقعه،
الثورة إبداعٌ جماعىَّ مغيّر؟
أفترض أن دوائر الوعى الجمعى الضام من مجموعات مختلفة، يمكن أن تنبض معا فى وعى أكبر فأكبر فأكبر، فيحدث مثل ما يحدث معنا فى العلاج الجمعى، على نطاق أوسع، فأوسع فتكون ثورة. هل هناك وجه شبه بين هذه الخبرة التى عشتها، وأعيشها وسط مصر المصريين منذ سنة 1971 وبين ما بدأ يوم 25 يناير2011؟ ولا أعرف كيف سوف يكتمل، هل يا ترى يتصدع وكأن هذا الوعى الجمعى تخثر بدلا من أن يصّاعد؟
ليست عندى إجابة، ولا أريد إجابة، إذ أخشى أن تكون سلبية
لم أيأس من مصر ولا من المصريين
لكننى أحذر من أمريكا واسرائيل وحتى الصين
ويستمر الوعى، ويمتد الـ “مع”
وتحتد المسئولية،
وأصالح ناسى مهما عملوا
وندعو الله أن نجتمع “فيه”، و”عليه”، “إليه”
ليتشكل الجارى فى ثورة ممتدة،
حتى تصبح حضارة واعدة.
ولِمَ لا؟