نشرة “الإنسان والتطور”
10-10-2011
السنة الخامسة
العدد: 1501
تعتعة التحرير
مستويات قراءة الأحداث، وحمل أمانة التلقـِّى
بعد أن انفتح الباب على مصراعيه للإغارة الإعلامية على وعى الناس بكل لون ولغة وحركات: يا تُرى كيف نتلقى -مختلفين- نفس الحدث، أو الخبر، أو البيان، أو الانتفاضة، أو الثورة، أو المليونية، أو الرأى؟
حاولت شخصيا أن أنظر فى نفسى، وأن أقرا بعض من حولى، وأن أتابع بعض ما يصلنى، وإذا بى أضبط نفسى أتلقى نفس الخبر على مستويات مختلفة، دعونا نتأمل كيف نقرأ أحداث ما يسمى “ثورات الربيع العربى”، الذى أصبح خريفا عاصفا بغير أوان، كيف نتابعها جميعا ويدنا فى النار، غير من يده فى الماء من المتفرجين والمعلقين، وقد راح هذا الربيع الخريفى يتمادى، ويتلون، ويتشكل، ويعلو ويهبط، وتصل إلينا آثاره السلبية قبل الإيجابية.
لن أقوم بتفسير أى من هذه الأحداث بوجه خاص، فالمسألة شبعت تفسيرا وآراء واجتهادات وفتاوى، سوف أعدد ما خطر لى من احتمالات تعدد مستويات وتأويل نفس الحدث مع تنوع التلقى، ودرجة حمل المسئولية
أولاً: مستوى شخصى أنانى مغلق
قد يصل الأمر بأحدنا، ولا أستثنى نفسى، أن يتلقى خبر مليونية من المليونيات لا من خلال عنوانها، ولا من خلال أهميتها أو هدفها، ولا من خلال آثارها السلبية والإيجابية، وإنما كل ما يهمه هى أنها سوف تسد عليه الطريق للذهاب إلى عيادته، أو لقاء صديقته، أو تناول العشاء فى مطعم بذاته، أو تأجيل سفر ثانوى، أو الحيلولة دون أن تذهب ابنته للكنسرفاتوار، وقد يعلن ذلك وقد يخفيه، وقد يعلن –حتى لنفسه- عكسه، لا اعتراض على هذا المستوى من حيث المبدأ، فإيقاع الحياة اليومية اللاهثة، وما تربينا عليه، والسعى لأكل العيش الذى لا يحتمل التأجيل، متعلق بهذا المستوى بشكل أو بآخر، الاعتراض الشديد هو أن يكون هذا هو نهاية المطاف، وبصراحة، هو نادرا ما يكون كذلك.
ثانيا: المستوى الشخصى النفعى الأسرى حتى الفئوى ..
قد يسمع نفس النبأ شخص آخر فيقفز إلى سطح وعيه تخوف على أهله، أو ناسه الأقربين، أو تأثر فئته، أو قبيلته بالسلب أوالإيجاب فهو يقيس أى حدث، أو نبأ أو بيان، بمقياس نفعى فئوى لا أكثر، وهو يحسبها بحساب المكسب والخسارة لجماعته دون غيرها، والأمثلة لذلك بلا حصر مثل التاجر الذى يقتصر تفاعله على حمل هم كساد حركة سلعة معينة يتاجر فيها، أو مثل ضياع فرص صفقات معينة لطبقة معينة فى البورصة، إلى غير ذلك مما هو طبيعى ومقبول، لا مانع، لكن أيضا إذا اقتصر التلقى فالتفسير على هذه المنطقة دون سواها، تحولت الأمور إلى غنائم متناثرة يتنافس عليها فرقاء لا أكثر، وهذا مستوى ضعف إنسانى عادى لا غبار عليه إذا كان خطوة إلى ما بعده.
ثالثا: المستوى الوطنى المشارك:
قد يتلقى النبأ ثالث بمسئولية واضحة تتعلق بتأثير هذا النبأ أو القرار أو الحدث (المظاهرة أو الاعتصام أو البيان) على الوطن كله، على نهضته واقتصاده وتطوره وإبداعاته وتحديثه فيستقبل المتلقى الأحداث وإذا به يحمل شخصيا هم الجارى كله وكأنه المسئول عن حدوثه مباشرة، بل وربما يعتبر نفسه المسئول عن المشاركة فى توجيه أو تصحيح مساره أو الإقلال من المضاعفات المحتملة، هذا المستوى لا يختص به المشتغلون بالسياسة، لكنه يصبغ تصرفات ومشاعر كل من يحمل الهم العام لناسه، بغض النظر عن وجوده فى موقع مسئولية عامة مهما صغرت، ولا يتوقف هذا المستوى عند موقف الفرجة وإصدار الحكم، لكننى أعنى به المستوى الذى يظهر فى سلوك مثل هذا المتلقى فيؤثر على أدائه، وعلاقاته، وأحيانا معتقداته، وعادة يصاحب هذا المستوى درجة من التفسير الموضوعى والمراجعة، مثل لوم هذا الحاكم، واتهام هذا الفاسد، والشماتة فى هذا الطاغى، والفرحة لنصرة هذا المظلوم …إلخ، وبرغم الإيجابية النسبية لهذا المستوى إلا أنه عادة لا يتجاوز المحلية أو حتى الوطن، وهو ذو تأثير مباشر على حركية مثل هذا الشخص السياسية (الانتخابات مثلا)، ويتعرض هذا المستوى لتأثير الإعلام، ودغدغة المشاعر الدينية بدرجات مختلفة، وبما أنه مستوى واعٍ مسئول، فهو يحمى نفسه غالبا من ألعاب تلوث الوعى…. الخ.
رابعا: المستوى العالمى الجارى
هنا يستقبل الشخص الحدث أو الخبر أو البيان المحلى الوطنى أو القومى غير منفصل عن ما يجرى فى العالم من تنافسات وتربيطات ومؤامرات تحتية مالية أساسا، ويمارس هذا المستوى المتتبع للحركات العالمية المالية التى تدير العالم بنوكا وحكومات لصالح فئات جشعة بشعة بذاتها، ويـُتهم المتلقى على هذا المستوى بما يسمى التفكير التآمرى، ومع أن هذا المستوى هو الأقرب للواقع حاليا، إلا أن المبالغ فى تضخيم قدرات هذه القوى المتوحشة المسئولة، قد يوصّل لعامة الناس – دون قصد- رسالة تعجيز تغرى باستسلام باكر بحجة “عدم التكافؤ”.
خامسا: المستوى الإنسانى الحيوى التطورى
وهو أكثر المستويات عمقا، وفى نفس الوقت هو أخطر المستويات مهربا، وأنا أعترف أننى شخصيا كثيرا ما أقع فيه حتى أننى أستقبل أصغر الأحداث (مثل ثمن دواء، أو نتائج بحث علمى ملتبس)، من خلاله، ناهيك عن الأحداث السياسية والهزات الاقتصادية والحروب الصغيرة والكبيرة، فأقيسها بمقياس التطور والانقراض، وأنا أعرف احتمال شطحى أو هروبى، وأتصور أنه هكذا ينبغى أن يفعل كل من يشارك فى هذا المستوى ما أمكن ذلك.
سادسا: المستوى الإيمانى الجهادى:
هذا المستوى لا يقتصر على المتدينين، بل هو مستوى حمل الأمانة إنسانيا، وهذا المستوى يستحيل تزييفه على رب العالمين، ولا على الإنسان الذى على نفسه بصيرة. المتلقى على هذا المستوى يستقبل كل حدث، وكل دقيقة، وكل معرفة، وكل حركة ، باعتبارها أمانة هو مسئول عن حملها شخصيا أمام رب اسمه “العدل” سبحانه وتعالى، وهو لا يستثنى شيئا مهما صَغُر، من أول إلقاء لقمة على الأرض إلى محاولة تغيير العالم كله بدعم منظومة قيم بديلة أرقى تليق بتاريخ الإنسان وعلاقته بالكون الممتد إلى وجهه تعالى بلا حدود، وهو يتجلى على طيف ممتد من العمل اليومى، إلى المسئولية التطورية التاريخية، إلى الحساب أمام العدل الحق العليم الآن ودائما.
ملحوظة: التحرك بين المستويات وارد وعملى ومفيد فلا تصنف نفسك فى إحداها فقط.
وبعد
ما رأيك؟ وعلى أى مستوى يتلقى المسئولون عندنا الآن الأحداث من أول أى مشارك فى توك شو إلى المجلس العسكرى، مرورا بشباب الثورة، والسلفيين الكرام، والإخوان المسلمين..إلخ
خاتمة: من كلٌّ على قدر همته!! ولكلٍّ على قدر بصيرته.