“نشرة” الإنسان والتطور
30-5-2009
السنة الثانية
العدد: 638
تعتعة
أغنية إلى الله: حزنٌ جليلٌ، وشعبٌ جميلْ !!
“أغنية إلى الله” هو عنوان قصيدة باكرة لصلاح عبد الصبور: يقول فيها: “…ثم بلوتُ الحزنَ حين يلتوى كأفعوان، فيعصر الفؤاد ثم يخنقه، …”
ما هى علاقة الحزن بأن نغنى إلى الله، ما هو معنى أن يغنى عامة شعبنا للروح وهى تصعد إلى بارئها: “حمامة بيضا، طارت يا نينة،…. ما خدها البلبل وطار ويّاها، قصده يا نينة، يعرف لُغَاهَا”؟
للحزن جلاله وزخمه ونبله وعنفوانه، هذا هو ما تجلى لى فيما وصلنى من كل شعبنا الجميل بكل طوائفه وتوجهاته، (مع استثناءات إعلامية مسطحة عابرة، سرعان ما صححت نفسها). هذا شعب حضارى يودع صبيا جميلا ليس باعتباره أحد أفراد الأسرة الحاكمة، بل راح يودعه كفلذة كبد جماعىّ لشعب يعرف كيف يتألم، وكيف يواسى، ما بلغنى منى ومن كل من قابلتُ هو أن الرئيس لم يعد رئيسا، ولم تعد السيدة الأولى أولى أو أخيرة، ولم يعد ابنهما هو هو، ولم يعد حفيدهما الباسم الفارس الصغير هو فقيد أسرة فوق قمة هرم اجتماعى مصنوع، أنزل الموت الرئيس من كرسيه المرصود بالمعارضة المسنود بالمؤايدة، أنزله ليتربع فى قلوبهم واحدا منهم، لا أكثر ولا أقل، لا لينتخبوا هذا الشيخ الطيب للمرة الرابعة أو العاشرة، لكن ليخففوا عنه بعض آلامه التى استنتجوها أكثر من غيابه عن الجنازة، واحتلت الجدة المكلومة موقعها البسيط وهم يعرفون عنها أنها لم تتوقف عن الشعور بآلام أطفال هذا الشعب ولوعة ذويهم حين ينهشهم صغارا هذا الوحش الكاسر المسمى السرطان، فهموا أن هذه الجدة تدرك أن بعض القدر أقسى من المنطق السليم حين ينقض وحش السرطان الكاسر على طفل برئ دون أن ينتظر إلى أرذل العمر، لم يتحرك وعيهم الحزين معها إزاء فقد حفيدها ردا لمثل هذا الجميل، بل مشاركة إنسانية زاخرة كأبسط وأرقى ما تكون المشاركة، لينطلق منه كل هذا الحزن الصادق بغض النظر عن الموقف السياسى، أو اختلاف الرأى، أو الشكوك المحيطة، أو الجوع المجرم، أو التشرد العشوائى، الذى يعانى منه أغلب الناس صغارا وكبارا، تحرك هذا الشعب القوى الطيب ليقدم عزاءه لنفسه بكل صدق، …وهو يسلم أمره للذى استرد وديعته، سبحانه وتعالى.
لم ينس هذا الشعب أن أطفالا أبأس من الراحل الصغير قد رحلوا وهم فى نفس سنه، ربما فى نفس اليوم، فى ظروف أقسى، لم ينس أيضا الأطفال الذين قتلوا فى غزة وهم فى حضن أمهاتهم، لم ينس الأطفال الذين ماتوا ويموتون وهم يتضورون جوعا، لكن كل ذلك لم يحل دون أن ينطلق وجدان هذا الشعب المتحضر ليشارك بمنتهى الصدق والتلقائية، دون مقارنات معقلنة أو وصاية شائكة، على مشاعرهم النبيلة.
علمنى بعض مرضاى ذلك الحزن القوى الذى هو ضد ما يصفه زملائى بالاكتئاب، صرتُ أعرفه، وأرعب منه، وأعيشه، وأخترقه، وأحترمه كأرقى أنواع المشاعر الإنسانية، وصفتُهُ ذات مرة قائلا: “….يتحفز حزنٌ أبلج، حزنٌ أرحب من دائرة الأشياء المنثورة، الأشياء العاصية النافرة الهيْجَـى، حزنٌ أقوى من ثورة تشكيل الكلمات، حزنٌ يصرخ بكما، يشرق ألما، ….، حزنٌ يحنو، يدمِى، يُلهبُ، يصرخُُ، يُحيى روحا ميتةً ضجِرة….إلخْ.
غمر هذا الحزن القوى النبيل الشعب المصرى كله هكذا لأن الرئيس –فى تلك الحظة- كان بعض هذا الشعب، لا أكثر ولا أقل. حين كتب رديارد كيبلنج قصيدته ” إذا“”IF”..لابنه أثناء الحرب العالمية الأولى، ومات ابنه فى هذه الحرب، ظل والده ينكر موته – جزعا- زمنا طويلا وهو يبحث عن رفاته حتى تيقن من رحيله…إلخ، فأهدى قصيدته تلك، بكل ما فيها من طموح وألم، وحكمة، إلى كل شباب المملكة المتحدة، ليعبر بذلك نهر الحزن بما يليق إلى ما يليق. (لعله فعل فتطهر من عنصريته واستعماريته)
هل يحق لى- وأنا فى هذه الحال التى لا يعلمها إلا الله- أن آمل أن نقرأ جميعا – أكرر: جميعا – هذا الذى حدث قراءة تليق بهذا الحزن الجليل فعلا، من هذا الشعب الجميل جدا؟
هل هذا وقته أن أدعو الله تعالى أن يلهم كل من يهمه الأمر أن يدركوا أن فى الأمور أمور، وأن للحياة معنى غير المعنى، وغاية غير الغاية، وأن الألم الذى جمعنا معا بهذه التلقائية البديعة، تحت مظلة شرف هذا الحزن، هو ألم يسمح بالاختلاف وينظمة، …إلخ إلخ
رحم الله الفقيد، وصبّر والديه، وجدّتـَيْهِ وجدّيـْهِ، وجزى هذا الشعب خيرا يستحقه بكل صدقه وطيبته وأمانته ومشاركته، لتننتهى الخبرة بما أنهى به صلاح عبد الصبور قصيدته:
“…ثم يمرُّ ليلنا الكئيب،
ويشرق النهار باعثا من الممات
جذورّ فرْحِنا الجديب”