نشرت فى الدستور
14/5/1997
تشويه المستقبل
إذ كنت قد دعوتك – معى عزيزى القارئ – ألا نهرب فى “بكره”، فأنا لا أستطيع أن أمنعك ولا أن أمنع نفسى أن نحلم بـ “بكره”، وللحلم بالمستقبل أشكال عديدة أقدمها شهرة هى ألف ليلة وليلة، وأكثرها معاصرة هو ما يسمى بالخيال العلمى، ولكن الفن الحقيقى هو الذى ينجح أن يقوم بمهمتين: الأولى هى “هز الواقع” والثانية هى فتح الآفاق للحلم، ومن ثم حفز تحقيقه، وحين شاهدت مسرحية هنرى الرابع لبيراندللو مسرح الطليعة (1979)، كتبت فى الأهرام عن “فن المواجهة وفن النشوة”.
وأتذكر حين شاهدت مسرحية أخرى لبيراندللو أيضا فى باريس، تتناول قضية الجنون والسواء (وكانت فرنسيتى ربع ربع) وهى “كل له حقيقته”، خرجت منها جديدا وأنا الطبيب النفسى الذى يعتقد أنه يفقس اللعبة لكن بيراندللو كان أعمق، ثم إنى أقرأ هذه الأيام مسرحية هشام السلمونى “العدو فى حجرة النوم”، وكل هذه الأعمال تستعمل المريض العقلى لتوصيل رسالة التعرى.
ثم إنى شاهدت مؤخراً – بفضل الصديق توفيق صالح الفيلم الإنجليزى عن رحلات جاليفر، ذلك الفيلم الذى صور قوة حقائق الخيال بإعتبارها الأصل الذى ينبغى أن يقاس به الواقع (وليس العكس)، وإحترام ما يقال عنه مرض عقلى حتى قلب الموازين دون انفلات.
هذا هو الفن الذى يحرك، ويعرى، ويتسحب، ويرسل الرسالة فنحتار، ثم نلتقط، ثم ننطلق، لكن الأمر لم يكن كذلك تماما وأنا أحاول أن أرغم نفسى على تتبع الحركة المسرحية الآن:
فحين شاهدت “مسرحية الخنزير” تذكرت قولنا فى بلدنا عن “اللى بيخطط فى المتخطط”، وأحسست أنها مسرحية “تقنع المقتنع” أكثر منها تقلب القضية وتقذف فى وجوهنا بالتحدى.
وأخيرا رأيت “وداعا يا بكوات” وهى تحاول أن تشير إلى خطورة الغياب فى الماضى ثم تنتقل إلى التحذير من الذهول عن المستقبل، فجاءت صورة المستقبل مميكنة ماسخة منفره بحيث لو خير المشاهد -دون أن يدرى – فى أن يعيش رخاوة الحاضر وبلاهة التخلف، وبين أن يعيش هذا المستقبل المتزحلق البارد، لفضل أن يبقى محلك سر هاربا من هذه المساحة الباردة التى تنتظره، ولا يكفى أن يكون الكلام كله عن حلاوة المستقبل، ثم يكون المنظر والحضور والواقع كله عن “رخامة” و”تبلد مشاعر” المستقبل، كما لا ينقذ الموقف تلك الخطابة التى تخللت المسرحية عن ضرورة النهضة وبشاعة التخلف، ولا ينقذه أيضا الجهد المضاعف الذى بذله كل من عزت العلايلى، وفاروق الفيشاوى، ويزيد الموقف سوءا اغتراب الجمهور عن العرض لدرجة أنهم كانوا يصفقون لشعارات كانت تلقى بسخرية أملا فى رفضها، “الله أكبر الله أكبر، فوق كيد المعتدى”، فينسى المشاهدون أن قائلها (الفيشاوى) هو الصديق الوصولى الجنسى النفعى، وأنه يقولها سخرية وادعاء، وإذا بالجميع يصفقون له، وكأنه يدعو للحرب.
وخرجت حزينا على أموال الدولة (الديكور والمصاريف بلا لزوم)، وعلى وعى الناس (التصفيق غير المناسب) وعلى تشويه المستقبل (ميكنه البشر والمستقبل بما ينفرنا من هذا وذاك) وعلى نفى (الوحدة، وتضييع الوقت).
وخرجت أيضاًً وأنا مشفق على عزت العلايلى وفاروق الفيشاوى، وفاهم أكثر لماذا لا تعمل محسنة توفيق، وتوفيق صالح، ومحمود مرسى، وأمثالهم هنا هكذا الآن.