نشرت فى الدستور
27/9/2006
تشويه الإيمان واختزال العقل، قبل إهانة الإسلام!
فى مؤتمر”العلاج التسكينى” الذى عقد فى الفاتيكان، (11-13 نوفمبر 2004) كنت ممثلا للإسلام لمناقشة مشروعية “القتل الرحيم” للميئوس من شفائه، كانت الجلسة بعنوان “حوار بين الأديان” تضم ثلاثة أخرين يمثلون البوذية والهندوسية وما بعد الحداثة. لم يجرِ حوار أصلاً، ربما دعينا لنكون بمثابة ديكور لتحسين المظهر، وإثبات حسن النية، ومع ذلك عدت فاهما شاكرا بشكل ما.
حضرنى ذلك وأنا أتابع الجارى الآن: لم أصدق ما وصلنى مقتطفا، رجعت إلى الأصل الإنجليزى حرفياً، واستفسرت ممن يعرف الألمانية، وتابعت التعليقات هجوما وتبريراً ودفاعاً وتصفيقا وتفويتاً، ولم أصدق أن حبرا فى هذا المستوى تصدر عنه قشورٌ بهذه الهشاشه العلمية والدينية والتاريخية. لم أتصور أنه لم يبلغه النقد المتزايد حول محدودية العقل المنطقى، وتهافت المنطق الأرسطى، أو أنه لم يسمع عن ظهور العلم المعرفى فى العقود الأربعة الأخيرة. لم أتصور أن قداسته لم يبلغه أن ما كنا نسميه عقلاً، ومنطقا، لم يعد يمثل من وسائل المعرفة وأدوات التفكير إلا نسبة ضئيلة من جهاد الوعى البشرى، جسداً وقلباً وحركة، نحو المعرفة الشاملة الممتدة. لم أصدق أنه قبِلَ أن يتمحك فى شائع المعلومات عن المرحلة الإغريقية التى تـُتّهم حاليا بأنها أعاقت حركية تطور البشرية عشرين قرنا. راح البابا يحشر المسيحية الأصل، المسيحية الهارمونية العظيمة الممتدة، يحشرها داخل سجن تلك المرحلة التى تَحَدَّدَ عطاؤها حتى بدت قزما أمام ماقبلها (مثل متون هرميس) وما بعدها، (التصوف عامة وخاصة التصوف الإسلامى المعرفى ، النفرى مثلا)، ثم ما تجاوزها من تفتح الشعر والتشكيل حتى ما بعد الحداثة، فضلا عن الرياضة الكموية والطبيعة الكموية. كيف لم ينتبه البابا إلى تداعى اختزال الدين بهذا العقل المحدود إلى منظومة أخلاقية سطحية تستعمل من الظاهر، ٍ كما يختزل الله إلى ما يمكن أن يعرفه هذا العقل الطيب الممنطق؟ وأيضا يختزل الإيمان الهارمونى الإبداعى النابع من جذور الوجود بعمقها البيولوجى امتدادا إلى المطلق، إلى معتقد فكرى يمكن إُثباته بالسلامة؟ .
يمكن أن نلتمس العذر لبعض العلماء أو أشباه العلماء، الذين لا يعرفون من العلم والإيمان إلا ما تقوله لهم ألفاظ المعاجم، ومعلومات الورق، حين يدعمون نقصهم بأدلة تفسيرية مضحكة فيما يسمى “التفسير العلمى للنصوص الإلهية”، يمكن أن نلتمس لهم العذر بحسن نيتهم، ومحدودية معارفهم، وربما هشاشة يقينهم، لكن أن يصدر هذا التسطيح من قداسة الحبر الأعظم شخصياً. فالأمر فعلاً لايصدق.
المصيبة أن الانفعال البدائى لكلمات البابا قد استدرجنا إلى الرد على نفس المستوى، رحنا نرد على زعمه أن الإسلام انتشر بحد السيف بأن المسيحية، هى التى انتشرت وسوت خلافاتها مع الأديان الأخرى، وبين مللها.. بالتكفير والقتل والتطهير الفئوى. رحنا نرد على الفخر بأن المسيحية هى دين العقل بأن الإسلام هو الأوْلى أن يكون دين العقل، مع أنه _ مثل كل الأديان- ليس إلا دين الفطرة تتجلى فى العقل والقلب والجسد جميعا. الإيمان يحترم العقل ويشمله ويتجاوزه إلى الوعى الشخصى فالمطلق. استدرجنا الانفعال إلى أن نتحاور بأبجدية معرفية انتهى عمرها الافتراضى، وخاصة فيما يتعلق بالإيمان والله، فاشتركنا فى مباراة لتحديد شكل الله الذى ليس كمثله شىء، فيما يستطيع أن يصيغه العقل البشرى الظاهر بلبنات هشة من رموز ألفاظ ساكنة كالأصنام. أسهل كثيرا – يا قداسة البابا- على هذا العقل المحدود أن ينفى وجود الله من أن يثبته. (هل أجرؤ أن أدعو قداستك أن تُجرّب؟).
أما ردنا بالتشنج والسباب والتهديد بالاغتيال، فهو لا يخدم إلا ما ذهب إليه البابا.
أما اعتذار قداسته فهو لا يكفى ولا يفيد ولا نريده، وقد حمدت الله أنه قد تعرى موقفه أكثر حين أبدى أسفه، لا على خطئه، وإنما على تفاعل المسلمين وغبائهم وسوء فهمهم (إخص عليهم!!).
إن تفسير الموقف كله بالعجز عن متابعة المعارف الأحدث لهو أهون ألف مرة من تصور استعمال الحبر الأعظم – واعيا مشاركا، أو من وراء ظهره- كحلقة فى سلسلة المؤامرة الكبرى التى تجرى لإعادة تشكيل طبقات البشر بما يهدد بانقراض النوع كله. إذا كان دبليو بوش على قمة السلطة السياسية العالمية (الحربية التدميرية الاستهلاكية) يُستعمل لصالح من لا يعرف (أو يعرف)، وهو يتصور بذكائه المحدود أنه التائب مبعوث العناية لتطهيرنا من الشر، فنحن نأبى على قداسة البابا أن يُستعمل لنفس أغراض من عموا عن مصير البشرية لحساب التراكم السلطوى والاستهلاك الكمى والتمييز الطبقى، مع أنهم أول ضحايا ما يفعلون.
علينا جميعا، ودون استثناء، بدءا بالمسيحيين الحقيقيين، وليس انتهاء بالحيارى مازالوا يبحثون، أن نستوعب الجارى، لنتحمل المسئولية، فنحسن الرد تكاتفا وفعلا وإبداعا “معا”، عبر طول الأرض وعرضها، بلا توقف.