دورية نجيب محفوظ
العدد السادس – ديسمبر 2013
مركز نجيب محفوظ
والمجلس الأعلى للثقافة
تشكيلات الخلود بين “ملحمة الحرافيش”، و”حـضرة المحترم”
استهلال:
فى دراستى السابقة لملحمة الحرافيش عن “دورات الحياة وضلال الخلود”([1])، حاولت أن أحقق فرضا استلهمته من الملحمة يقول: “الحياة بماهى حركة دوارة، لا تبدأ بالولادة - كما دأبنا على تعريفها – بقدر ما تتخلق بيقين الموت، ويقين الموت ليس وعيا خاصا به، بقدر ما هو الحقيقة الموضوعية الأساسية فى الوجود البشرى، فوق قمة الوجود الحيوي. وما بين طرفىْ “الموت: المصير”، و”التخلق: إعادة الولادة”، تتجدد الحركة، وتبعث الحياة …. طولا وعرضا، دورة وإعادة، جدلا وتوليفا، دون انقطاع” وقد بدأت تحقيق الفرض بما أعلنه محفوظ باكرا فى الملحمة من أن “الموت لا يجهز على الحياة، وإلا لأجهز على نفسه” (ص.م: 66) ([2])، كما حاولت أن ابين أن محفوظ علّمنا من خلال الملحمة وغيرها كيف أن الموت (لا الولادة الجسدية) هو البداية، والحياة هى إرادة التخلق من يقين الموت والوعى به، فمنذ السطر الأول يعلن محفوظ أن ملحمته تدور “... فى الممر العابر بين الموت والحياة” (ص.م: 5)، وليس بين الولادة والموت، الموت هو الأصل، والحياة احتمال قائم. وصلتنى هذه الحقيقة باعتبارها الفكرة المحورية، ثم إننى انتبهت لاحقا كيف أن الله سبحانه قد “خلق الموت والحياة”، ليبلونا أينا أحسن عملا، فقـدَّم خلْق الموت على خلْق الحياة، وانتهيت إلى أن تحدى الموت أو إنكاره قد يؤدى إلى الجنون فالعدم كما حدث لجلال صاحب الجلالة الحكاية السابعة.
بعد ذلك بسنوات بدأت نقد “حضرة المحترم”([3])، وقدمت الخطوط الأولى فى ندوة محدودة من ندوات جمعية الطب النفسى التطورى منذ أكثر من ربع قرن ثم نحيتها جانبا ولم أكملها، ثم حين عدت إليها الآن اكتشفت أننى فى دراستى الأولى لهذه الرواية كنت، مثلى مثل أغلب الدراسات التى قرأتها عنها، قد ركزت على علاقة بطل الرواية عثمان بيومى بتقديس الروتين، والنظام، والدولة، والواجب، والالتزام، خدمة لطموحه البالغ حد التقديس للوصول إلى الدرجة التى يرى أنه يستحقها، وأنها تبلغه المنى، وتحقق له معنى الحياة، بل وتؤكد علاقته بالمقدس الدنيوى السلطوى المتميز، فضلا عن نوع التدين السائد واستعمال لغة تشبه التصوف الذى ألح بهما على المتلقى من البداية للنهاية، ولا أنكر أن هيجل – بتقديسه للدولة- قد حضرنى أكثر من داروين – بتجذيره للحياة-، وأننى تألمت لعثمان بيومى ومعه كثيرا، بل و”احترمته” كما كان يريد، وكما يقول عنوان الرواية.
حين عدت الآن إلى “حضرة المحترم”، وجدت موقفى قد اختلف، فقد تعرفت من خلال إعادة قراءتى للنص على بعد آخر له علاقة وثيقة بفرضى الأول عن ما أسميته “ضلال الخلود”، وبالذات الحكاية السابعة فى “ملحمة الحرافيش”، جلال صاحب الجلالة، ووجدت ابتداء أن من توقفوا عند الجانب الأخلاقى النفعى، أو الجانب الوظيفى الطموحى، أو الجانب النفسى الانعزالى، أو الجانب العاطفى/الجنسى النكوصى أو النامى، أو حتى الجانب النفسى الدينامى كذلك بعض المداخلات عن الشكل والسرد مثل دراسة: “محمد اسيورتى”([4])، أو عن المرأة فى الرواية وعموما فى نظر محفوظ “إقبال بركة”([5]) كل ما وصلنى لم أجد فيه من أعطى هذا البعد حقه، وهو ما اكتشفته مؤخرا وأنا أقارن بين خلود جلال صاحب الجلالة وبين “لا نهائية”، “عثمان بيومى” الذى لم يكف عن أن يعطى للحياة قدسيتها “بالجهاد والعذاب بالأمل البعيد المتعال” (ص.ح: 207)، طيلة عمره، وهكذا تراجعت أغلب شخصيات محفوظ التى استُجلبت للمقارنة والتى أشار إليها النقاد من أول محجوب عبد الدايم فى القاهرة الجديدة([6]) إلى حسين الضاوى فى “كلمة فى الليل”، القصة القصيرة في مجموعة (دنيا الله)([7])، حيث لا يوجد شبه بين كل من أشير إليهم فى شخصيات محفوظ وبين عثمان بيومى إلا فى الحرص الشديد على إرضاء الرؤساء، والتحديد المطلق لأولوية الغاية بغض النظر عن “الوسيلة” خدمة للغاية، مع اختلاف الوسيلة على مدى طيف متسع يبدأ من النفاق والانتهازية وينتهى إلى عكس ذلك من الاجتهاد والإتقان، لكن الذى يجمع بين هذا وذاك هو الذاتوية المطلقة وهى تغلف المسار على الجانبين طول الوقت.
وجها لوجه
من خلال المقابلة بين “لا نهائية” عثمان بيومى فى “حضرة المحترم” و”خلود” جلال فى “ملحمة الحرافيش” صاحب الجلالة انتبهت إلى أن خلود جلال قد تجسد عيانيا فى وصفة الساحر الغامض “شاور” حتى اخترته ممثلا لوهم إلغاء الزمن حتى أننى تعجبت من موقف رشيد العنانى([8]) من عامل الزمن الذى هو محور دراستى، إنكار الزمن فى قراءتى بدا لى أنه الوسيلة الوحيدة لإنكار تحركنا نحو الموت، ومن الواضح أنه بلغ من شذوذ جلال وجنونه وعيانيته وقبحه، ثم فشله فى النهاية، أن من المحتمل أن يكون محفوظ قد رسمه هكذا لنرفض من خلاله وبشكل يكاد يكون مباشرا أن يكون هذا الخلود، حتى من مجنون، مجال اختيار، لقد انتهى هذا الضلال بصاحبه إلى عكس ما أراد تماما، إلى أقبح صور الموت مقتولا بالسم من عشيقته زينات الشقرا التى أحبته فعلا: “..جثة جلال المنطرحة على حافة حوض الدواب. جثة عملاقة بيضاء ملقاة بين العلف والروث، هيكلها العظيم يوحى بالخلود، سلبيتها المتهافتة تشهد بالفناء وفوقها يتشبع الجو على ضوء المشاعل بالسخرية المرعبة” (ص.م: 440)
تصورت أن محفوظ بهذه النهاية أبلغ الرسالة كما ينبغى، نهاية جلال صاحب الجلالة تبدو نهاية قادرة على أن تجهض أى خيال يتحرك نحو الخلود فى الدنيا مهما كانت درجة جنونه، لكن محفوظ عرض فى الملحمة أيضا صورا أخرى للخلود فى الدنيا لم تتعرض لها دراستى الباكرة بالقدر الكافى.
وصلنى كل ذلك فيما يتعلق بالخلود فى هذه الحياة الدنيا نفيا للموت، أما الخلود فى الآخرة فلمحفوظ – شخصا- رأىٌ آخر، وقد وصلنى هذا الرأى فى سياق آخر، فهو إذ يعرى ضلال الخلود فى هذه الحياة هكذا إنما يترك الباب مفتوحا للخلود الأبقى والأضمن دينيا وشعبيا وإيمانا وإبداعا عند أغلب الناس. وكذلك للخلود المغلف بميكانزمات عادية تقع ما بين التكاثر والاغتراب كما فى حضرة المحترم، الخلود فى الحياة الآخرة هو وارد فى وعى عامة الناس من حيث المبدأ، أما من حيث التحقق الفعلى بالمعايشة وعيا ماثلا أمام آلة الزمن، فيبدو أن الله سبحانه وتعالى قد رحم عامة الناس من الالتزام بمثل ذلك طول الوقت، على أن الفرصة قد سنحت لى – من خلال صحبتى للمؤلف – أن أعرف كيف أنه كان متصالحا معه، مرحبا به، فقد وصلنى أنه كان على يقين طول الوقت من أنه سوف يكون فى صحبة حبيبه رب العالمين، وقد رأيت أن من حق المؤلف أن يتضح موقفه الشخصى وربما دفعا لسوء الفهم، سمحت لنفسى باقتطاف بعض ما ورد فى كتابى “فى شرف صحبة نجيب محفوظ”([9]) وهو كالتالى:
“….. ذكرت له ما قرأت مؤخرا من حديث أدلى به فرانسوا ميتران للتليفزيون بعد أن تأكد مرضه بالسرطان، مع اقتراب نهايته الحتمية، وأبديت ملاحظة حول إعجابى بشجاعته لإعلانه ذلك مع إعلان تمسكه ألا يترك منصبه إلا بعد إنتهاء مدة رئاسته ،….، سأل المتحدث ميتران: هل تؤمن بالله، فأجاب: هذه مسألة فيها آراء كثيرة مختلفة، فمضى المتحدث يسأل بجرأة أكبر: ماذا لو واجهتَ الله بعد الموت، (فى الآخرة) فأجاب ميتران بنفس الصدق الجريء: سوف تكون مفاجأة، وسأقول له إن مسألة الخلود هذه مسألة مملة جدا ….” “…حسبت أن الاستاذ سوف ينبهر بهذه الرواية وهذه الحرية مثل الآخرين، إلا أنه ظل مطرقا بعض الوقت، ثم رفع رأسه قائلا: لا أظن أنه محق تماما، قد يكون عنده حق فى الجزء الأول من الإجابة فوجود الله مسألة فيها آراء، وخاصة عندهم بلا أدنى شك، أما الجزء الثانى فإجابته تدل على أنه رجل يفتقر إلى الخيال، وكنت قد تصورت أن الاستاذ سوف ينبهر من مسألة وصف الخلود بالملل، وخاصة بعد أن عرّى ضلال الخلود فى الدنيا فى الحرافيش، وكان هذا هو محور نقدى لهذا العمل ……”، أكمل الاستاذ وهو يخاطبني: ”إن مسألة رفض الخلود مع الله باعتباره عملا مملا غير مقبولة، وتدل على افتقار ميتران للخيال، لأنه إذا كان بقائى مع واحد أحبه، مثلك مثلا، يزيدنى بهجة ويملؤنى فرحة، أليس المنطقى هو أننى كلما بقيت معك أكثر فرحتُ أكثر، فما بالك ببقاء دائم مع الله سبحانه إلى غير مدى، أليس هذا أدعى لفرحة متجددة، فمن أين يأتى الملل؟.
(انتهى المقتطف)
من هنا، وجب التنويه إلى أن ما تم من تعرية الخلود فى الحرافيش ، كان تعرية لأوهام وضلالات الخلود فى الحياة الدنيا، الأمر الذى ظهرت ملامحه قبلاً فى حضرة المحترم، التى نشرت قبل الحرافيش بسنتين كما أشرنا.
الجذور النفسية للنزوع للخلود
كنت فى تنظيرى النفسى السابق من واقع خبرتى الإكلينيكية أساسا([10]) أفسر هذا النزوع، بما فى ذلك ضلالات “المهدى المنتظر”، إلى ما نحمله فى قاع وعينا بشرا من “الخوف من الموت جوعا”، لكن هذا الرعب الكامن كان يفسر لى الرغبة الممتدة، اللامتناهية (بلغة عثمان)، فى الجمع للجمع، وهو ما أطلق عليه عادة لفظ “التكاثر”، وهو تفسير يمكن أن يمتد إلى بعض انحرافات السياسة وأنواع معينة من الاقتصاد الجشع، لكننى اكتشفت أيضا من الخبرة أن هذا الجمع المتمادى بلا توقف مرتبط ضمنا بالعجز عن الارتواء، وأيضا باستحالة الشبع، وكذلك بإلغاء الزمن، وكل ذلك من دوافع النزوع إلى الخلود الخفى، الذى أهم وسائله فى الحياة العادية هو “المال” و”البنون”، بصراحة فى ملحمة الحرافيش لاحظت أن محفوظ لم يأل جهدا فى عرض بعض جوانب هذا “الجمع للجمع”، لكن ليس فقط فى مجال المال، وإنما، وربما أساسا، فى مجال السلطة والسيطرة (الفتونة).
لكن ثم نوعا آخر، أعنى خلودا آخر، لم يهمله محفوظ فى ملحمة الحرافيش، بل لعله كان الأصل برغم عدم انتباهى له فى نقدى الباكر وهو ما يمكن أن اصفه بالخلود الإيجابى فى الوعى الجماعى، ولعل انتباهى إليه حاليا يواكب استغراقى فى التمادى فى ممارسة ما يسمى العلاج الجمعى، وفى نفس الوقت فى التنظير لما أمارس، وهو ما سوف أبدأ به الآن:
الخلود فى الوعى الجماعى ودورات الحياة
فى دراستى الأولى كان التركيز على دورات الحياة من خلال تركيز محفوظ على دورات الفصول، وحركية الزمن، الموازية لدورات الإيقاع الحيوى عند الفرد أساسا. وقد انتهى فرضى الأول هكذا: “…. الولادة تبدأ حين نعى الموت، فنتخلق بالحركة، لنتصاعد بالإبداع، والاستمرار فيمن يلى، وليس بأنفسنا…”
لم أنتبه آنذاك إلى هذه الجملة الأخيرة بالقدر الكافى، مقارنة بالتركيز عليها الذى سوف يأتى حالا فى النقد الحالى، ومع أننى كنت مهتما أكثر بدورات الحياة للفرد الواحد حتى لو أكدنا على ضرورة تفاعله مع الآخرين، إلا أنه قد ورد فى نهاية الدراسة عن امتداد إبداع الذات إلى غايته فى الآخرين إشارة إلى الامتداد فى الناس طولا وعرضا، وصورت ذلك كما يلى:
ان ولادة الذات لا تتم إلا بوسائل وفرص، ليست غاية فى ذاتها بقدر ما هى حق مواكب لمسئولية وعى الإنسان عن حمل الأمانة، ومن أهمها العدل الذى شغلت مساحته ما يحق لها أن تشغله طوال ”الملحمة”، ممثلاً أساسا فى “عاشور” الأول “صاحب الحلم والنجاة والعدل الشامل” (ص.م: 206).
وقد وجدتها فرصة أثناء محاولتى نقد “حضرة المحترم” أن أقارن اغترابا آخر فى خلود أبعد عن الشذوذ، لكنه أقرب إلى الشقاء، وجدتها فرصة أن أعود إلى الملحمة لعلنى أنجح أن أوضح ما أوجزت عن الجانب الإيجابى لنوع آخر من الخلود عرضته الملحمة من منطلق علاقة الوعى الفردى بالوعى الجماعى إلى وجه الله.
الدراسة الحالية تبدأ بتناول الامتداد “فى” الناس، كما ورد فى الملحمة إلى الوعى المطلق إلى وجه الله، ممثلا فى اختفاء عاشور الناجى الأول مع حضوره وانتظار عودته طول الوقت، وذلك قبل عودتى إلى المقارنة بين الخلود المجنون عند جلال صاحب الجلالة (ملحمة الحرافيش)، والخلود التقديس الدنيوى عند عثمان بيومى (حضرة المحترم)
خلود الوعى “فى” الناس (عاشور الناجى الأول)
منذ بداية الملحمة، أحضر لنا محفوظ الموت بشكل ماثل زاحف وصل إلى عاشور وهو يتابع سلسلة النعوش تتوالى إلى “القرافة” على أثر “الشوطة” التى ألمت بالحارة، وباعتراف بسيط بالخوف البشرى وهو يواجه الموت وهو يلاحقه، قرر عاشور أن يقاومه حتى بالهرب، لكنه لم يكن هربا جبانا من الموت بقدر ما كان مقاومة تستند إلى سندين: علاقته بالحى الذى لا يموت، وانتمائه إلى جماع وعى الناس. بعد مرورنا بكل هذه الأجيال رجح أن ثم وعيا غائرا عند عاشور كان يدرك ذلك، وأنه لم يقل لناسه، ولا لأسرته “وداعا”، ولكن ما وصلنى أنه قال وهو يغادرهم دون استئذان “إلى لقاء”، وقد وصلت التحية والوعد إلى الناس بيقين غائر، فصدقوا أن مقاومته (لا هروبه) انتصرت، وراحوا ينتظرون عودته وكأنها عودة المسيح أو المهدى المنتظر
بدأ عاشور رحلة المقاومة مستظلاً بالتكية رمز “الغيب” و”الغموض” و”الوعود” و”الخلود”، وراح يعاتب ساكنيها على موقفهم السلبى أو المتفرج على مواكب النعوش التى تحصدها الشرطة.
“…فى ظلمة داجية تهادت الأناشيد من التكية فى صرحها الأبدى. لا نغمة رثاء واحدة تنداح بينها. ألم تعلموا يا سادة بما حل بنا؟. أليس عندكم دواء لنا؟. ألم يترام إلى آذانكم نواح الثكالى؟. ألم تشاهدوا النعوش وهى تُحمل لصق سوركم؟” (ص.م: 56)
وربط عاشور وعى التكية بالوعى الكونى بشكل ما: “وشم رائحة غريبة لا تخلو من نفحة ترابية. إنها تتلقى من النجوم أوامر صارمة”.(ص.م: 57). خاف عاشور الموت فعلا بشرا ضعيفا آملا مؤمنا مجاهدا، واعترف بخوفه المشروع دون هلع مضلل: “جرب عاشور الخوف لأول مرة فى حياته. نهض مرتعدا، مضى نحو القبو وهو يقول لنفسه إنه الموت.”(ص.م:57).
وحين قرر اللجوء إلى الخلاء بعد حلم رأى فيه الشيخ عفرة زيدان يلهمه أن يلجأ إلى القرافة نحو الخلاء والجبل دار هذا الحديث مع زوجته الثانية “فـُلـّه” أم شمس الدين:
“- ماذا حلمت يا رجل؟
– أبى عفرة أرانى الطريق..
– إلى أين؟
– إلى الخلاء والجبل!
– إنك ولا شك تهذى…
– بل رأيت الموت أمس، ورائحته شممت..
– وهل الموت يعاند يا عاشور؟
فقال وهو يحنى رأسه فى حياء:
– الموت حق والمقاومة حق..
– ولكنك تهرب!” (ص.م: 58)
“- من الهرب ما هو مقاومة!” (ص.م: 59)
وظهرت علاقته بالموت وربطه بالمولى مختارا وهو يجيب على سؤال ابنه هبة الله.
“-ألا يوجد الموت فى الخلاء يا أبى؟
فقال عاشور وهو يزداد غضبا:
– علينا أن نبذل ما فى وسعنا وأن نقدم الدليل للمولى على تعلقنا ببركته”.(ص.م: 60)
وحين غادر لم يكن يتجه إلى فراغ، “وتراءى الجبل شاهقا، رزينا، صامدا، لا مباليا. هتف عاشور: “الله أكبر…” (ص.م: 62)
فتأكد الفرض أنه كان هربا إلى رحاب الله وليس هربا من الموت، وبلغة الدراسة السابقة، كانت بداية دورة جديدة وليست انغلاق دورة منفردة، ومن المهم أن نلاحظ أن هذا هو ما جاء فى نص حديثه له مع فله فى سياق بداية مقاومته:
“ونظر نحو فلة وقال مشجعا:
– انتهت الرحلة..
ثم وهو يضحك:
– بدأت الرحلة!” (ص.م: 63)
بهذا الوضوح تجلى خلود عاشور الناجى الأول، فنجا من كلٍّ من الموت الفناء، ومن الخلود الجنون الغباء، فهو حين قام برحلته الأخيرة المستمره، كان فى صلح واضح مع خالقه برغم ظاهر ما ارتكبه، وهكذا دام خالدا فى وعى الناس، وليس فقط فى امتداده فردا فى دورة حياته التالية، ظل عاشور الناجى الأول خالدا فى وعى كل من أحبه ومن أبغضه، وجاء هذا مكررا فى نص أقوالهم، وفيما يلى بعض ذلك:
“وقالوا إن هذا يعنى أن عاشور حى لم يمت”. (ص.م: 104) “وآمن الناس بأن عاشور الناجى لم يمت”. (ص.م: 106) “وهرع إليه الرجل متلهفا: فتخطاه بنظرة باردة وقال بحزم: عاشور الناجى لم يمت”. (ص.م: 122). واعتبروا الاختفاء كرامة أولياء: “-ألم يكرم عاشور الناجى بالاختفاء وهو فى عز القوة والكرامة؟!” (ص.م: 133) كما ظهر فى حلم شمس الدين (أو خياله): “وأقبل نحوه عاشور الناجى حاملا على ذراعيه أمه الجميلة فى كفنها الكمونى، وفرح لظهور عاشور بعد اختفائه الطويل. وقال إنه كان على يقين من ظهوره ذات يوم“(ص.م:144). ووصل أمر خلوده فى وعى الناس إلى حد التقديس، كما فى الحديث بين بكر وأمه سنيه، “……. فجفلت سنية وقالت مخاطبة ابنها بحدة: جدك رجل مقدس يا بكر…”(ص.م: 158) ويتمادى الخيال والحلم والرؤية، فيردد الحرافيش، “… إن عاشور صاحب الحلم والنجاة والعدل الشاملظاهرة خارقة لا تتكرر.”(ص.م: 206) وحتى حين جن جلال الأول أو كان على وشك الجنون بدأ تحديه للموت وإنكاره باستشهاده بخلود جدّه، واستهانته بالموت وأن الاستسلام له ضعف وخيانة. “وتاه عبد ربه عزة وكرامة، وراح يبشر فى البوظة بالعهد الجديد. إنه يستقبل الآن بالإجلال والإكبار، ويلتف حوله السكارى يتنسمون منه الأخبار فيقول: رجع عاشور الناجى. ويفرغ القرعة فى جوفه ويواصل” (ص.م: 405) وحين يريد عبد ربه أن يثنى جلال ابنه عن جنونه يشير إلى مقارنة بعاشور الناجى (دون تحديد نوع خلوده الرائع).
“فتساءل عبد ربه بأسى:
– ألا تريد أن تحتذى مثال عاشور الناجى؟
……..
“قال جلال بعد تردد:
إنى أعتقد أنه مازال حيا !” (ص.م: 418)
ويظل عاشور حاضراً فى وعى الناس مدعما بالدين الشعبى الذى يكاد يغلب الدين الرسمى.
“وراح الشيخ يخطب الناس محذرا إياهم من الخرافة والكفر، وقال الرجل “لو بعث عاشور حقا لجاءكم بالطعام” فسخر منه الحرافيش وازدادوا إيمانا”.(ص.م: 498)
وبعد
على مدى عشر حكايات (عدة أجيال) ظل عاشور الناجى الأول حاضراً طول الوقت فى وعى الناس، ليس كذكرى تحضر فى الذاكرة الظاهرة ثم تختفى وإنما كقوة (بيولوجية ممتدة) حقيقية ماثلة تقترب كلما ابتعدت، ينتظرها الناس كلما غابت عن متناول اللحظة، ثم إن حضوره لم يقتصر على أهل بيته، وإنما غاص فى كل وعى الناس، وكان تأثيره لصالحهم فى معظم الأحيان.
من هنا يمكن القول أن عاشور الناجى لم يمت، ولا توجد حاجة أصلا إلى أن يعود فعلا، ذلك أن حضوره “المنتظر” أقدر على جمع الناس إلى بعضهم البعض من حضوره الفعلى الذى لابد أن يتحدد بالعمر الافتراضى لأى فرد بشرى، أما حضور الوعى الفردى للإسهام فى تشكيل وحركية الوعى الجماعى طولا وعرضا، فهو جدل وارد، وتوجه نمائىً طول الوقت.
إذا قارنا ذلك بخلود جلال صاحب الجلالة، ذلك الخلود الضلالى المتعين الكاذب فكأننا نقارن إيحاءات وابتهالات وتسبيح وأناشيد التكية النابضة فى الغيب بعقم وقبح المئذنة العقيم بلا مسجد أو مصلين، وإذا كان هذا الخلود المجنون العقيم قد انتهى بصاحبه جثه منطرحة على حافة حوض الدواب بين العلف والروث، فقد انتهت المئذنة بأن “اقتلعت اعضاءه من جذورها”(ص.م: 562). “ويهلل الحرافيش ليوم الخلاص، ويسبحون فى بحر النور، وتتقوض مئذنة الجنون فتتراكم أنقاضها فوق الغدر والخيانة والسفة”(ص.م: 488)
وهكذا حل الخلود الوعى الجماعى، وعبر الأجيال، محل الخلود الشذوذ المستحيل الغبى ممثلا فى رمز “مئذنة الجنون” ليعلنها عاشور الأخير “إنه يريد أن يتفوق على جده نفسه – لقد اعتمد جده على نفسه على حين خلق هو من الحرافيش قوة لا تقهر”(ص.م: 562).
قبل أن ننتقل إلى ضلال الخلود فى جنون جلال وقد استوفى حقه فى الدراسة السابقة – مقارنة بلانهائية عثمان بيومى تقديسا للحياة – دعونا نتوقف قليلا نلتقط أنفاسنا مع عناد شمس الدين (الأول) ضد زحف الشيخوخة والزمن:
هامش عن مقاومة شمس الدين للشيخوخة (ضد الموت)
ظهرت ملامح النزوع للخلود فى الوعى العام من بداية البداية، فبعد اختفاء عاشور الناجى، دعت فلّه أم شمش الدين لابنها وهو يغادرها. “فليمد الله فى عمرك حتى تلعن الحياة”(ص.م:97). ويبدو أن الدعوة استجابت بعد عدة أجيال فى جلال صاحب الجلالة، فيرد عليها شمس الدين “أستودعك الحى الذى لا يموت”، فيشير حدسه بالتالى إلى نفى وهم الخلود (ص.م: 97) وأنه لا خلود إلا لله بدءًا من هذه الحدوس الباكرة يسير الخلود فى مسارين متوازين حتى يرجح فى النهاية الخلود فى الناس فى الوعى العام.
ظهرت ملامح تحدى الزمن فى الجيل الثانى للحرافيش عند شمس الدين الناجى الذى يمثل الجيل الثانى مباشرة حين أبى أن يستسلم للزمن حتى صارع ابنه سليمان تحت دعوى أنه يدربه حتى غلبه برغم فارق السن، ومع ذلك فلم يستطع أن يخفى تفاعله الرافض لحوار عتريس مع أحدهم حول ما أصابه من إغماءة عابرة: “لعله العمر!” فكأنه طعنه إذ “اجتاحته شعلة غضب وغادر مكمنه فرجع إلى عتريس وهو يهتف أيها الجماد! ورفعه بين يديه عاليا ورمى به فى الحوض”(ص.م: 138).
ويلاحظ شمس الدين ما يدور بنفسه وحوله ويحاول أن يضبط هذا الذى يتكون داخله عن الخلود والقوة التى لا تزول، ويحاول أن يحد منها وهو يتساءل: “لماذا تتمسك بالقوة ولست عابدها الأوحد. الشيب ينتشر. أيضا التجاعيد حول الفم وتحت العينين.”(ص.م: 139)
ويزحف الزمن ويؤكد له الواقع أن النهاية تقترب، كما يتجسد ذلك فى صيحة طفل يلهو: “وكان راجعا إلى البيت ظهرا عندما ارتطمت قدمه بنحلة يلعب بها طفل. وجاء صوت الطفل وهو يصيح مغيظا: يا عجوز يا أعمى!”(ص.م: 140)
ويربط شمس الدين هذا بالموت قائلا: “أليس من الأفضل أن نموت مرة واحدة”(ص.م:140)
بعدها مباشرة (نفس الصفحة) ماتت عجميه بعد إفاقه خادعة. جعلته يقول لها،”لقد شفيتِ يا عجمية”، ولكنها أسرعت الخطى إلى مصيرها وهو يسندها إلى صدره “رفيقة العمر تحتضر” (ص.م: 141). وانتظر الموت وهو يقر لابنه بالهزيمة “ماذا تعرفون عن لعنة العمر؟” (ص.م: 142) ولكنه يظل يصارع المجهول حتى النهاية حين يهزمه الموت إذْ: “يسدد إليه ضربة فى الصدر لم يعرف لعنفها مثيلا” (ص.م: 145)
وهكذا نرى كيف قاوم عاشور الموت بالانتماء إلى وعى الناس تحت مظلة “الله أكبر”، وكيف فشل شمس الدين فى الحيلولة دون تمادى الضعف حتى الموت هو وزوجته وكأنها مباراة معروف نتيجتها مسبقا طالما اعتمد على تمادى سطوته البشرية المحدودة مكتفيا بذاته مهما بلغت قوته، ثم كيف عاد عاشور الناجى خالدا فى “الوعى الجماعى” لناسة، كما تجسد فى عاشور الناجى الصغير يلخص لنا الخلود فى “لحظة من لحظات الحياة النادرة… لا شكوى من عضو أو خاطرة أو زمان أو مكان”(ص.م: 562).
ثم ننتقل إلى الدراسة المقارنة:
ضلال الخلود بين جلال “صاحب الجلالة” وعثمان بيومى:
من البداية نلاحظ أن الثقافة التى أفرزت ضلال جلال صاحب الجلالة تختلف عن الثقافة التى ترعرعت فيها “لا نهائية” عثمان بيومى، فمن الناحية التاريخية لا يمكن تحديد أحداث ملحمة الحرافيش إلا بالتقريب أيام أن كانت الفتونة عرفا سائدا ونظاما له قواعده وآدابه ومعاركه وأصوله، أما تاريخ أحداث “حضرة المحترم” فيمكن أن يكون فى الربع الأول من القرن الماضى أو ربما قرب منتصفه مثلا، ومن الناحية الجغرافية فإن أحداث الروايتين تقع فى أحياء شعبية جدا وفقيرة أيضا وإن اختلفت نوعية الثقافات الفرعية حسب التاريخ وتفاصيل العادات والتقاليد،
ثقافة أجيال ملحمة (الحرافيش) تبدو ثقافة القوة والفتوة (والفتونة) والتجارة والأعيان، وربما تحددت قوانين البقاء فيها بأن: “البقاء للأذكى” و”الأقوى” و”الأسرع” بغض النظر عن محتوى أدائه، يجرى ذلك على خلفيهَ تبعية واعتمادية أغلب الحرافيش عادة، والكل يجرى فى ظل إيمان بالقدر وعشم فى الله، وتسليم للأقوى فى نفس الوقت.
أما ثقافة مجتمع عثمان بيومى فهى ثقافة، البؤس والخوف والظلم بما تتضمنه من حفز البعض إلى الكدح والصبر فالطموح واستسلام عموم الباقين، كل ذلك منضبط بنظام حكومى صارم، ليس عادلا بالضرورة، نظام مدعوم بأعراف دين شعبى طيب، مسكِّن غالبا.
فى ثقافة جلال تطورت فكرة الخلود من أول مقاومة عاشور الناجى الأول للموت دون إنكاره أو تحديه، أملا فى امتداد فى الناس تحت رحمة خالقهم كما بينا، إلى أن تمادت الفكرة وانحرفت وتعملقت حتى تجسدت بعد أن تشوهت وتفردت وتفعلنت عيانيا فى يقين راسخ فى فرد بذاته استطاع، أو اضطر، أن يعلنها صراحة، ثم راح يمارسها من خلال جنون فكره وسلوكه وما ترتب عليهما، ضد قوانين الواقع، وأيضا ضد الثقافة العامة المحيطة، وضد ناسه وقبل هذا وذاك ضد نفسه فهى الضلال([11]).
صاعقة الموت فى مقابل سرقة الحياة:
عثمان بيومى خرج من قاع المجتمع المصرى الفقير المكافح فعلا وجدا، والده عربجى سائق كارو، وأمه تعمل أى عمل تعين به الأسرة، “…عاملة كادحة، تكد بصبر النمل ودأبه سعيا وراء القرش، تسند به زوجها وترمم عشها، دلاله .. ماشطة .. خاطبة، وغير ذلك”(ص.ح:12).
وسط هذا المستوى من الفقر والعوز تبدأ رسائل النهاية تلاحقه، بتتابع جاثم وإصرار مظلم، وإن لم تتجسد فى حادث واحد فاجع مدعم بقدر غادر كما حدث فى حالة جلال الطفل فى الملحمة، عثمان: “يتذكر أسرته فيشقى بالتذكر، ويرثى لوالديه ويقرن تلك الأحداث بدراما عليا يتطلع إليها باحترام ووجلَ” (ص.ح: 14)، أما جلال فهو يعايش الموت بوعى حى ثائر غاضب فى دراما ماثلة فى أعماقه، دراما حية متجددة ومنظر رأس أمه المهشمة يختلط بانسحاب الحياه من وجه قمر خطيبته الجميلة الراحلة.
الثقافة العامة التى نشأ فيها عثمان بيومى، لا تؤدى-عادة- إلى الضلال الصريح، “فالمصائر تتقرر فى الحارة بفضل الإرادات المتصارعة والقوى المجهولة ثم تتقدّس فى الأبدية”، (ص.ح:14)، وهكذا تتم “التسوية” الواقية من الجنون، ولو مؤقتا، حين يلحق تعبير “تتقدس فى الأبدية” شرح مباشر يقول: “لذلك فهو يؤمن بنفسه بلا حدود” (ص.ح:14).
وقبل أن تتعملق نفسه وتتألّه يلحقه دينه الشعبى الداعم فيردف وهو يستطرد، “ولكنه يعتمد فى النهاية على الله ذى الجلال” (ص.ح: 14). ويردف كذلك: “لذلك لا تفوته فريضة…الخ”(ص.ح:14).
هذه التسوية الصلبة المدعمة بالدين الشعبى أحيطت طول الوقت بذكر الله، أعنى بألفاظ ذكر الله، والدعاء له، والتبرك به، والاعتماد عليه، وقد تواتر ذلك بإلحاح حتى لحق بكل تصرف قام به عثمان سواء كان نحو لا نهائية المجد أم اعترافا بضعف البشر واحتياجهم، وحتى إثر تجاوزاته السلوكية وقد حاولت أن أحصى كم مرة ذكر اسم الجلالة، ثم عدلت، فالتكرار أظهر من أن يحصى عددا، أقول إن تواتر ذكر كلمة الله بهذا الإلحاح لم يوصل لنا إيمان عثمان المتكامل، ولا حضور الله سبحانه فى حركية علاقته بالآخرين عباد الله العاديين، مقارنة بتوجه عاشور الناجى الاول من الناس إلى الخلاء إلى الله عودة إلى الناس تأثيرا وانتظارا، هكذا أعلنها عاشور وهو يغادر خلق الله مؤقتا، و“علينا أن نبذل ما فى وسعنا وأن نقدم الدليل للمولى على تعلقنا ببركته” (ص.م: 60). ثم “الله أكبر” ويمضى ولا يعود شخصا بل وعيا ضمن الوعى الجمعى.
ذِكْر كلمة الله عند عثمان كانت متضمنة فى عبارات وجمل حماسية دون شك فى نفاق أو رياء، لكنها كانت تظهر عادة لاحقة، أو مخففة، لجرعة التمركز اللانهائى حول الذات وأغراضها الدنيوية فى العادة، وقد بدأت هذه العادة منذ الطفولة إلى نهاية العمر، وفيما يلى أمثلة لذلك:
“ولكنه يعتمد فى النهاية على الله ذى الجلال”. (ص.ح: 14) “قال لنفسه ان الله لم يخلقنا للراحة ولا للطريق القصيرة”. (ص.ح: 32) “ولكن المتطلعين إلى المجد فى طريق الله لا يحفلون بالسعادة”.(ص.ح: 61) “إن جهادى شريف أما العواطف والأفكار فهى ملك لله وحده”(ص.ح: 78). إنه يؤمن بأن الله خلق الإنسان للقوة والمجد، الحياة قوة، المحافظة عليها قوة، الاستمرار فيها قوة، فردوس الله لا يبلغ الا بالقوة والنضال”.(ص.ح: 78) “إنهم لا يحيون حياة حقيقية ويفرون من واجبهم المقدس. يجفلون من الاشتراك فى السباق الرهيب مع الزمن والمجد والموت وتحقيق كلمة الله المضنون بها على غير أهلها”.(ص.ح: 104) “إن الدولة هى معبد الله على الأرض، وبقدر اجتهادنا فيها تتقرر مكانتنا فى الدنيا والآخرة.”(ص.ح: 167) “ولكنه اكتشف فى الوقت المناسب السر المقدس فى ذاته الضعيفة، كما اكتشف حكمة الله.”(ص.ح: 170) “ولكنهم يؤمنون بأن آمال الفرد رهن بأحلامهم الثورية!، حسن… أى ثورة تضمن له الشفاء وإنجاب الذرية وتحقيق كلمة الله فى الدولة المقدسة؟!.” (ص.ح: 202)
الدين الشعبى الطيب:
الدين الشعبى وكذلك الحس الشعبى يسمح أى منها أو كلاهما أن يمتزج الفرد بثقافته بطريقتها، لكل ثقافة “رب خاص”، ليس بديلا عن رب العالمين، وإنما –غالبا- طريقا إليه فى الأحوال العادية والإيجابية، لكن التمادى فى هذه الخصوصية قد يبطئ أو يعيق مواصلة السعى إلى وجه الله، حتى لو لبست غطاء من ألفاظ الدين الرسمى المؤسسى، بل إن هذا التمادى قد يؤدى أحيانا إلى نتيجة عكسية، وأكتفى بهذه الملحوظة حتى لا أستدرج إلى مناقشات نظرية فقهية، لأكتفى بالإشارة إلى أن ذكر الله بهذا التواتر من عثمان بيومى لم يكن مصاحبا بما يتوقع منه من “رفض الشرك” والدخول فى عباد الله – كما ذكرت حالا- التحاما بالوعى العام والعلاقات الضامة إليه: تجتمع عليه وتفترق عليه، وإنما هو قد وصلنى على أنه دعم لتقديس مكاسب ورموز الحياة الدنيا بالصورة التى اعتنقها عثمان حتى كادت تصبح شركا خفيا، هذا الموقف قد أدى إلى معادلة ناجحة وصعبة وبائسة، فقد حقق لعثمان ضمان تقديس اللانهائية أقوالا ومواقف وهو يلبس ثوب الطموح بلا نهاية، كما سمح له بقدر من التواصل الاجتماعى المحدد فى حدود مجالات طموحه، وفى نفس الوقت تصورا لعلاقة خاصة بالله ألفاظا فحسب، لكن مع الاحتفاظ بحق التحوصل على الذات والانتماء إلى اللانهائية طول الوقت، وقد حقق نوعا من التسوية الناجحة التى أغنته عن إعلان ضلال الخلود برغم أنها – التسوية- انتهت به إلى أن جعلت نجاحه المتفرد هو الفشل بعينه، وكأنه الصورة “العادية” لضلال الخلود حين يعجز عن أن يظهر جنونا صريحاً مثلما حدث فى حالة جلال (الحرافيش).
لست متأكدا، لكن يبدو أن حدس محفوظ فى الملحمة استطاع أن يميز بين الخلود وبين اللانهائية، فهو لم يستعمل هذا اللفظ “اللانهائية” إلا مرة واحدة وهو يصف سحر العادة وهو يدفع بالخطب الجليل (اختفاء الناجى الكبير) فى تيار الأحدث العادية “ومضى سحر العادة القاسى يفعل فعله بالخطب، يعاشره ويألفه ويهونه، ويدفعه فى تيار الأحداث اللانهائية فيذوب فى عبابها”(ص.م: 96)، فيصلنى أن ذوبان الحدث فى تيار الأحداث اللانهائية إنما يبعده عن الخلود لا يكافئه بالخلود ولا يقربه إليه.
يبدو أن حدس عثمان بيومى قد بدا نشطا منذ طفولته حين: “… رأى بعينيه الحادتين أول شرارة مقدسة تنطلق من فؤاده النابض وأيقن أن الله يبارك خطاه ويفتح له أبواب اللانهاية“(ص.ح: 13). فحقق من النجاح (حتى فى المدرسة الثانوية) مالم يصدقه أحد فى حارة الحسينى”. ولكن كيف يمكن لطفل أن يرى بعينيه “شرارة مقدسة” “وأبواب اللانهائية” إلا أن يكون بأثر رجعى؟! الأرجح أنها خبرة حقيقية تعويضية باكرة، لكنها لم تلبس هذه الألفاظ بالذات إلا وهو “يتذكر”.
ثم راح الموت يلاحق عثمان طفلا بتسارع دال، لكن بلصوصية خبيثة، وظلم فادح، نبدأ بموت أبيه كما أشرنا. “ومرض عم بيومى مرض الوفاة وابنه فى السنة الثانية، فندم الرجل على ما ‘فعله’ بابنه وقال له: ها أنا أتركك تلميذا لا حول له، فمن يسوق الكارو، ومن يحفظ البيت؟ وفاضت روح الرجل وهو حزين”. (ص.ح: 13)
ويتراءى فى الأفق موقف الأم المشارك فى طموح ابنها إلى المجد الدراسى الوظيفى المقدس، “وضاعفت الأم من نشاطها مؤملة أن يجعل الله من ابنها كبيرا من الأكابر”(ص.ح:13) لكن الموت يسارع بخطفها أيضا فيحرمه من هذا الدعم الواعد، “ولولا وفاة الأم بغير توقع لأكمل عثمان تعليمه” (ص.ح: 13). “ماتت وهى تعمل، كانت تغسل فانطوت على نفسها حتى تقوست وراحت تصرخ من شدة الألم وجاءت الإسعاف وحملتها إلى قصر العينى وتقرر إجراء جراحة فى الأعور قتلت أثناءها”( ص.ح: 22) (لاحظ كلمة قتلت وليست ماتت). هل خطر أيضا بوعى الطفل أنه ربما قتلها الأطباء-إهمالا- بالتحالف مع الموت، و“قتل أخوه الأكبر – كان شرطيا- فى مظاهرة، وماتت أخته بالتيفود فى مستشفى الحميات” (ص.ح: 14)، و”أخ أخر مات فى السجن“، وكان قد دخل السجن فى نفس المعركة التى قبض فيها على والد حبيبته “سيدة”.
وهكذا تسحب الموت إلى وعيه سارقا، قادرا، غامضا، مُصِرّا، مغتصبا، بلا إنذار ولا تمهيد، ولم يميز هذا الموت اللص بين أخويه: أحدهما مع الحكومة والآخر مع من يتظاهر ضد الحكومة، لكن المهم هو خطف الحياة دون تفسير، فهل كان أمام عثمان لمقاومة هذه الإغارات المتلاحقة إلا أن يتمادى مع حدسه التعويضى الذى ملأ وعيه طفلا ليدفعه لكل هذا التفوق منذ ذلك الحين وحتى النهاية التى تحولت عنده إلى ” اللانهائية”، وربما كان فى هذا كله ما يفسر الدافع للإلحاح فى ترديده للفظ الجلاله حتى لو لم يكن بالعمق الكافى، أصبحت آلام عثمان وقودا لاندفاعه فى مسيرة الطموح اللانهائية، وكلما اشتدت الحسرة بعثمان زاد طموحه وترعرت أحلامه: “وقد اشتدت لذلك حسرته، وضاعف من حدتها اكتمال وعيه بطموحه وبأحلامه المقدسة” (ص.ح: 13)
الصورة التى قدمها محفوظ فى “حضرة المحترم” لزحف الموت بنذالة ووغدنة وإصرار كانت بالغة الدلالة وقد رسمها فى توالى الرحيل بدءًا بموت الأب المتواضع المكافح، “ووجد ذات مساء ميتا حيث يجلس على الفروة فلم يدر أحد كيف حضره الموت ولا كيف تلقاه هو”(ص.ح:22)، أما موت أمه فى قصر العينى بعد عملية الزائدة وموت أخته بالتيفود فكانت أيضا أشبه بالخطف أو دس السم، لتكتمل الصورة – إعادة ذكرنا- بموت (أو مقتل) شقيقيه كل على جانب من جوانب الصراع.
كل هذا الموت والقتل/بالموت. لم يخلّ بتوازن عثمان، وإن دفعه إلى كل هذا التضخم فى الذات، لا بأوهام الألوهية بشكل مباشر، وإنما بالتعويض الملتزِم المقدس، وتمجيد الحياة للحياة بلا حدود ولا نهاية، فتنمو أحلام وطموحات اللانهائية، بديلا عن ضلالات الخلود أو الألوهية، وهو يحمى نفسه من جنون التألة بوسواس ترديد اسم الله المتكرر طول الوقت.
عودة إلى جلال:
ننتقل الآن إلى جلال، فقد تعّرف أيضا على الموت طفلا، ولكن بصورة درامية قاسية مرعبة شديدة القسوة والإهانة معا، وإذا كانت أم عثمان قد سرقها الموت متسحبا فأخذ معها زاد عثمان من الدعم الوالدى البديل مما اضطره أن ينكص إلى عدم الأمان الأولى الذى رسم خطوط برنامجه الذى أدى إلى تضخم ذاته طول الوقت برغم اهتزاز صورتها بما فى ذلك اختباره لشكله فى المرآه، “وعلى غير عادة كان ينظر طويلا فى المرآة” ويقول: “مازلت مقبولا!”(ص.ح: 179) فإن المسألة لم تكن بهذا التسحب ولا هذا التدرج عند جلال الطفل الجميل المنعّم المحبوب، لقد كانت البداية أضخم درامياً، وأبشع تشويها، وأقسى إغارة. “لم يكتب على طفل ما كتب على جبين جلال بن زهيرة بن عبد ربه الفران من المعاناة والألم. منظر تهشيم رأس أمه الجميلة انغرز فى أعماقه. كابوس دائم يعذب يقظته ويكدر أحلامه. كيف تأتى لهذه القسوة أن توجد، كيف أمكن أن يلقى جمال نبيل تلك النهاية البشعة؟. لماذا وقع ذلك، لماذا صمتت أمه، لماذا اختفت .. وماذا جنى حتى يحرم من جمالها وحنانها وأبهة الحياة النابعة منها………، “إن العظام المحطمة الغارقة فى بركة الدم لا تنسى إلى الأبد.”(ص.م:381)
لا توجد فى حضرة المحترم تفاصيل كافية عن علاقة عثمان بأمه، وتعلقه بها بمثل هذه الدرجة أو النوعية التى وصلتنا من وصف علاقة جلال بأمه، صحيح أن أم عثمان كانت أقرب إليه من أبيه، وكانت تشاركه ولو من بعيد الأمل فى طموحاته، لكنها لم تكن تمثل له الحياة كل الحياة هكذا، ثم إن موتها جاء ضمن طابور الموت الوغد السارق الزاحف الصامت بلا تفسير، وكأنه القدر العادى الذى يبرره الدين الشعبى عادة (الموت على رقاب العباد) حتى بدا لى أن مسلسل الموت كان أقرب – مع الفارق- إلى ما وصل إلى عاشور الناجى من مواكب النعوش بعد الشوطة.
أما ما وصل إلى جلال طفلا فكان إغارة ساحقة على كل وعيه فرسخت وما تزحزحت، فالمسألة هنا ليست ذاكرة يمكن أن يمحوها النسيان، وإنما هى اقتحام وعى بوغدنه فعل شائه مشوه، لم يكن الذى اقتحم وعى الطفل “وانغرز فى أعماقه” مجرد منظر تهشيم رأس أمه الجميلة، وإنما كانت أمه نفسها تنطبع([12]) مسحوقة مشوهة متألمة وكأنها تحتمى بداخله من هذه النهاية، جنبا إلى جنب حالة كونها ملتحمة بكل بشاعة القتل والفقد والغدر وهول المفاجأة.
أم عثمان سُرقت منه سرقة هى بمثابة القتل بالإهمال فانكب على ذاته، متحسرا متألما صابرا مثابرا متحديا بما زرعته ثقافة ناسه فيه: “النجاح” و”الدين الشعبى” و”الله” (الخاص) ولم تحضره أمه بعد ذلك أبدا، ولم تبارك نجاحه الذى لو عاشت كانت ستدعمه، ولم يذكرها فى أوقات توفيقه كلما صعد درجة على سلم المجد، ولا فى أوقات وحدته وجوعه إلى أنيس أو شريكة، ظلت أمه ذكرى طيبه، دافعة مباركة، لكن عن بعد، على مستوى الفكر والذاكرة.
أما جلال فقد حلت أمه بداخله، لم تكن ذكرى كما أشرت، فهم لم تمت وإن كانت قد اختفت من خارجه فحسب، فهو يفتقدها فى الواقع الخارجى فقط، وكلما زاد افتقاده لها خارجه غاصت أكثر بداخل داخله، فهى لا تعود طافية بغموض إلا فى الحلم أو فيما يشبه الحلم، “واستيقظ جلال ذات ليلة قبيل الفجر وهو يبكى فأيقظ أباه المخمور. انزعج عبد ربه ومسح على شعره الأسود الناعم متسائلا: حلمت يا جلال؟ فسأله وهو يجهش: متى ترجع أمى؟ وضاق به من ثقل رأسه فقال له: ستذهب إليها بعد عمر طويل فلا تتعجل..” ( ص.م: 382)
وإذا كان عثمان قد استسلم منذ طفولته لنذالة الموت ولصوصيته وهو يسرق منه أفراد عائلته الواحد تلو الآخر فإن جلال لم يستسلم أبدا.“ويوم طولب جلال أن يحفظ “كل نفس ذائقة الموت” سأل سيدنا: لماذا الموت؟ فأجابه الشيخ: حكمة الله خالق كل شئ .. فتساءل جلال بعناد: ولكن لماذا” (ص.م: 384)
جلال، وهو يحمل أمه هكذا منزرعة منطبعة داخله، لم يسارع بإنكار الموت إلا بعد فترة مكتفيا بالحسرة والاحتجاج: مرة أخرى: “لماذا وقع ذلك؟ لماذا صمتت أمه؟ لماذا اختفت؟ ماذا جنى حتى يحرم من جمالها وحنانها” ( ص.م: 381)، ثم إذا بالإجابة تأتيه أكثر قسوة وإيلاما فى كلمتين “إنه هكذا“، حدث ذلك بعد أن اختطف الموت حبيبته (وخطيبته) “قمر” التى عوضته – أو كادت تعوضه- بدرجة رائعة فقد أمه، وإن اختلفت الرسائل والأدوار والآمال.
جاء ذهاب “قمر” يؤكد أن العدو القاتل ليس زوج أمه السابق محمد عثمان، وإنما هو الموت، وها هو يخطف منه قمر أيضا دون أى تمهيد أو تفسير أو مبرر، جاءه الجواب: “إنه هكذا“، فاندفع جلال إلى الإنكار ولاحت بوادر الكفر فالجنون. “واعترض مسيرته ذات يوم الشيخ خليل الدهشان شيخ الزاوية فابتسم إليه برقة وقال: لا بأس من كلمة تقال.. فنظر إليه ببرود فقال الشيخ: إن الله يمتحن من عباده الصديقين فقال بازدراء. لا جديد فهذا ما يقوله الديك عندما يصيح فى الفجر. فقال الرجل: كلنا أموات أولاد أموات. فقال بيقين: لا أحد يموت”.(ص.م:399)
ومع ذلك كان يفيق من ضلاله أحيانا مثلما دار الحديث يوما مع أبيه عبد ربه الفران، فبدا وكأن أباه يعتذر له نيابة عن الموت، عن رحيل قمر قائلا: “كان الأجدر أن أذهب أنا لا هى.. (لماذا؟) هو العدل يا بنىّ. فقال (جلال) باستخفاف: يوجد شئ حقيقى واحد يا أبى: هو الموت”.(ص.م: 400)، وهكذا نلاحظ أنه بقدر ما وصل الموت إلى وعى جلال أنه الحقيقة الوحيدة، ثارت قوة الإنكار فى مواجهته بالجنون الذى يمحو الحقيقة والواقع فى آن.
إرهاصات الجنون:
وحين اعتلى جلال عرش الفتوة ظهرت له ملامح التعويض بالقوة المتزايدة “رفعته القوة وأخرست خصومه فثمل بها وعبدها”. (ص.م: 385)، لكنها لم تكفه واستدرجته إرهاصات الجنون فى الواقع والأحلام.“وصادق ملائكة ذوات أجنحة ذهبية، وطرق باب التكية ففتح له على مصراعية، وطارده قلق متلفع بظلمة الليل، وظلت قمر تومئ إليه من نافذة المشربية”. (ص 387) ….. “تتوارى النجوم فوق سحب شتوية كثيفة. وكان البرد قارسا فحبك العباءة حوله وطوق وجهه باللاثة. وغمرته الأناشيد مثل أمواج دافئة”.(ص.م: 390) ….. “عقد صداقة مع الظلمة، مع الصوت، مع البرد، مع الدنيا كلها. صمم على الطيران فوق العقبات مثل طائر خرافى”.(ص.م: 390)
عواطف وعلاقات:
حتى مقتل زهيرة أم جلال، بل حتى موت قمر كان جلال جميلا نبيلا قويا محبا بحق، وكانت ذكرياته عن أمه كلها حب ورقة وحنين، لكن حدّة عواطفه تراجعت تدريجيا بموت أمه، حتى أحيتها قمر بكل رقتها وحبها، إلا أن “قمر” ذهبت أيضا، فراح ينكر حتى بأثر رجعى أى حب، أى ضعف، “وقال إنه يعترف بأنه ليس عاشقا. لا حزن على حب ضائع، أنا لا أحب، أنا أكره. الكراهية والكراهية فقط”.(ص.م: 401)
أما عثمان فقد تعامل مع عواطفه – برغم صدقها وسلاسة بعضها- على أنها نقطة ضعفه، فقد أحب سيدة ربما مثلما أحب جلال قمر، لكن عثمان هو الذى قتل هذا الحب بإرادة حاسمة، فقتل معه سيده وكاد يختلط الخيال بالحقيقة واعتبرها النهاية يوم تخيل أنه دخل عليها يوم عرسها وأعلن رفض استسلامه للموت إلى قداسة اللانهاية. “اقتحم الفرح حتى قالوا انه مجنون………….، ومضى بها مخترقا ثلاثة أزقة مارقا من باب النصر إلى مدينة الأموات وهما يترنحان من السعادة”(ص.ح: 45)…. “وثقلت عليه المعاناة فى الطريق الشاق، فتذكر معارك الأمم، ومعارك الجراثيم، ومعارك الصحة والعافية فهتف: – سبحان الله العظيم.(ص.ح:45)
وراح يقسو على نفسه بلا حدود، فكما هجر سيدة فى بدء حياته جعل يتمارض أمام “أنسية” ليهرب من أحب الناس إليه، ”ولكن غلبنى الاستسلام الوهمى للسعادة فلم أحسم الأمر قبل أن يستفحل، وكم صممت على مصارحتك بالحقيقة ثم أضعف وأستسلم!” (ص.ح: 132) كان عثمان يقتل عواطفه أولا بأول مع سبق الاصرار، كان يفعل ذلك والألم يسحقه سحقا، فيتمادى فى طريق التبلد العاطفى ظاهريا، عثمان كان يسمح لنفسه أن يحب لكن يبدو أنه كان واثقا من إرادته، ومنذ البداية. إنه يملك لحظة توقيت النهاية، وكما أنه ظل يستطيع أن يتلقى الحب، بنفس الشروط، ليدفع الثمن بكل ألم وصبر، ويبدو أن حرمانه الباكر من والديه وإخوته جعله متعطشا للمشاعر الإنسانية بشكل لحوح سمح له باستقبالها، لكن بشروطه، تلك الشروط التى كانت تتصاعد وتتكاثف حتى تصبح حاجز الصد الحاسم، وسبب الإجهاض المشروع، حدث ذلك بالذات مع “سيدة” و”أنسية”، وكلما زادت جرعة الحب منه ومن شريكته المحتملة تضاعف خطر العلاقة وسارع إلى قتلها، وهو لم يستسلم لراضية عبد الخالق فى النهاية إلا بعد أن بدأ الزمن يفرض قانون الضعف، ومن ثم سلسلة التنازل فالهزيمة بزواجه من قدرية صاحبته المومس ثم التعويض المحدود قصير العمر براضية.
عثمان برغم كل هذا التحوصل حول الذات وبرغم استعلائه على سائر البشر وثقته فى قدراته واستجابته لكل متطلبات ووسائل طموحه، ظل قادرا على الحب “مع وقف التنفيذ”، حتى علاقته بقدرية لم تخل من تعلق بدائى غريزى اكتسب استمراره بالتعود والتفريغ اللَّذى شبه المنتظم، عثمان كان حين يقسو يبدأ بنفسه وعواطفه أولا ثم يثنى بمحبوبه وما يحدث يكون، وهو يتألم بصدق لكن ألمه لا يدفعه إلى العدول عن حرمان نفسه والآخر من حقه فى الحياة العاطفية الطيبة، علاقته الطيبة بأم حسنى كانت شيئا آخر حيث كانت أم حسنى تمثل له الملجأ والمرسى الذى يستشيره ويعود إليه قبل وبعد كل جولة، ولعلها كانت تمثل له الأم البديلة الحقيقية، وكانت دليلا أيضا على احتفاظه بنبض عواطفه برغم وقف التنفيذ.
أما جلال فقد عاش طفلا يرفل فى كل الحب الرائع الدافئ من أمه زهيرة “الملكة الجميلة المتوجة”، وقد تجلى ذلك بوضوح لحظة مصرعها، “إنها روحه ودمه، صورتها مطبوعة على وجهه، صوتها يشدو فى أذنه، وأمل استرجاعها ذات يوم لايخبو فى قلبه”… (ص.م: 381)
وحين تحرك قلبه نحو قمر صغرى بنات المعلم عزيز حضرته أمه وهو يقول لأخيه راضى “ألا ترى أن قمر جميلة مثلما كانت أمنا؟”. (ص.م: 386) ثم إنه كاد يشخص نوع علاقته بأمه به حين كان يناجى نفسه“ما عيب أمى كانت تبحث عن رجل مثلى، فلم يسعدها به الحظ فى حياتها التعيسة القصيرة“([13])، وحين تزوج قمر: ربط نجاحه ونجاحها فى تخطى الصعوبات بعظمة آل الناجى…. “لقد تجلت عظمة آل الناجى فى أشياء وأشياء، ها هى تتجلى اليوم فى الحب .. فابتسمت فى دلال فقال: “الحب يصنع المعجزات ..” فقالت بنعومة: لا تنسى دورى فى صنع المعجزة. (ص.م: 394)
وبفقد قمر وكأنه يفقد أمه للمرة الثانية فتنغرس بداخله أكثر، يبدأ الجنون ويعلنها رافضا أن “كلا”. (ص.م: 397) شعر جلال بأن كائنا يحل فى جسده. إنه يملك حواس جديدة ويرى عالما غريبا. عقله يفكر بقوانين غير مألوفة وها هى الحقيقة تكشف له عن وجهها، رنا إلى الجثة المسجاة طويلا. طوى الغطاء عن الوجه. أنه ذكرى لا حقيقة، موجود وغير موجود. ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن أن يقطع. غريب كل الغرابة، ينكر ببرود أية معرفة له. متعال متعلق بالغيب. غائص فى المجهول. مستحيل غامض مندفع فى السفر. خائن، ساخر، قاس، معذب، محير، مخيف، لا نهائى، وحيد. وغمغم بذهول وتحد: “كلا”.
يد غطت الوجه فأغلقت باب الأبدية . تهدمت الأركان تماما. لسان يلعب له هازئا. ثمة عدو يتحرك وسوف ينازله. لن يتأوه. لم يذرف دمعة واحدة. لم يقل شيئا تحرك لسانه مرة أخرى مغمغما: “كلا”. (ص.م: 397)
وهكذا تراجعت كل العواطف الإنسانية مثلما هو يتحدى الموت، “لن يتراجع . لن يخشى الخلود. لن يعرف الموت. سيظل الكون خاضعا لتقلبات الفصول الأربعة أما هو فربيع دائم . سيكون طليعة كون جديد. أول مستكشف للحياة بلا موت، أول رافض للراحة الأبدية. القوة الظاهرة الخفية. إنما يخشى الحياة الضعفاء” (ص.م: 427). وقد كان كل ذلك ليتجنب عذاب مواجهة زحف الزمن: “أما معاشرة الزمن وجها لوجه فعذاب لايعرفه الخيال..” (ص.م: 427)
الانفصال عن الناس إلى فوقهم:
اتفق جلال وعثمان فى رفض “العادية”، وبما أن الموت هو النهاية العادية لكل الناس وبما أنه لا عثمان ولا جلال مثلهم مثل كل الناس فهم أعلى وأذكى وأقوى وأمهر، كلٌّ بطريقته، فجاء الحل أن يكافح عثمان ويواصل الصلاة فى معابد طموحاته وهو يردد بلسانه اسم الله يطمئن بذلك نفسه، فى نفس الوقت يسمح له بأن يضحى بكل الناس، بما فى ذلك شخصه وعواطفه وحبه لكنه يظل محافظا على مظهر “فرط عاديته” مع الاحتفاظ بخصوصيتها. يحتمى بها من جنون صريح، فهو “عادى” بمعنى أنه ليس مجنونا وهو “سوبر عادى” بمعنى أنه ليس كمثله أحد وهو يسير على طريقه المقدس اللانهائى بعون الله.
أما الحل الذى لجأ إليه جلال فى نفس الاتجاه مع الاختلاف فى المظهر والمسار فكان أيضا فى اتجاه أن يتحدى الضعف السارى بين عامة الناس والمتمثل بالذات فى التسليم للموت: “الهاتفون بأن الموت نهاية كل حى. وبأنه الحق. إنه من صنع ضعفهم وأوهامهم. نحن خالدون ولا نموت إلا بالخيانة والضعف. عاشور حى. أشفق على الناس من مواجهة خلوده فاختفى. أنا خالد. وجدت ما أبحث عنه. وما يغلق الدراويش (فى التكية) الأبواب إلا لأنهم خالدون. من شهد جنازة لهم؟” (ص.م: 401).
ويهيم بالمستحيل، “وتطلع جلال إلى سحابة مظلمة فهام بالمستحيل” (ص.م: 400)، ويرفض كل مغريات الدنيا العادية. وأيضا: “تبدت له الدنيا عجوزا ماكرة قاسية لا حد لمكرها ولا لقسوتها، فأضمر نحو كافة وعودها الرفض والمقت.” (ص.م: 379)، وفى حواره مع عشيقته زينات، الشقراء (التى احتقرها أيضا فى النهاية، أعلن موقفه من تفاهة عامة الناس:(ص.م: 417/418)
– أصارحك بأننى احتقر الناس
– ولكنهم مساكين
– لذلك أحتقرهم” ….” لا تشغلهم إلا لقمة العيش”
حتى موت جلال اعتبره الناس عقابا من الله له على تعاليه عنهم “… أما انطراحه بين العلف والروث عاريا فاعتبر جزاء إلهيا لصلفه وشموخه وتعاليه على البشر” (ص.م: 441)
حين وصل جلال الجواب عن تساؤلاته “لماذا” بهذه السخرية والتحدى “إنه.. هكذا” رفض الإجابة، بل ورفض كل من يستسلم لها، وانتقل خطوتين أو أكثر أعلى من سائر الناس من الحرافيش، وتمادى حتى احتقرهم، “لم يكترث لحال الحرافيش ولا عهد الناجى، لا عن أنانية أو ضعف أمام مغريات الحياة، ولكن ازدراء لهمومهم، واستهانة بمشكلاتهم” (ص.م: 408)
عثمان بيومى أظهر استسلاما مبدئيا بعد فقد أمه وكأنه رضى بالقدر، ثم استسلم أكثر وهو يعايش فقد أفراد أسرته الواحد تلو الآخر، فقبل الموت كما تعلمه من دينه الشعبى “الموت على رقاب العباد”، لكن استسلامه لم يكن مطلقا، إذ سرعان ما أعد عدته وكأنه تقمص بالمعتدى وراح يصعد فوق العامة أيضا وكأنه يسلم للواقع ليستعمله (ص.ح: 20) فاستعار من القدر لانهائيته وتعميمه وجعلهما زاده فى التعويض فالقوة والتفوق فالتفوق فالسيادة … بغير نهاية.
عثمان رفع نفسه فوق الناس العاديين، وفوق القيم السائدة، لكنه فعل ذلك بطريقة عادية، وأيضا بمناورة ذكية “… قل أن يرضى عن طبيعته ولكنه يسلم بواقعها، ويؤمن بأن طريقه المقدس تتلاطم على جانبيه أمواج الخير والشر، وأن شيئا لا يمكن أن ينال من قدسيته سوى الضعف والخور والقناعة والاستسلام للمسرات السهلة وأحلام اليقظة” (ص.ح: 77). ثم: “إن رجلا متفوقا مثله خليق بإثارة عواطف الحسد فى النفوس” وهو يدفع لذلك ثمنا باهظا لكنه يقبله ويقدسه. “وطالما شعر بأنه بلا صديق حقيقى فى هذه الدنيا، وبأنه وحيد متعال عن الضعف البشرى! (ص.ح: 154)،
ويتمادى استعلاءه فوق عموم العاديين وهو يزدريهم. ”قال عثمان لنفسه بازدراء غير قليل انهم أناس لا يعرفون لأنفسهم هدفا محددا، وإيمانهم الدينى ايمان سطحى، ولم يفكروا بما فيه الكفاية فى معنى الحياة، ولا فيما خلقهم الله من أجله، وهكذا تتبدد أفكارهم وأعمارهم فى لهو وسفسطة، وتهدر قواهم الحقيقية بلا عمل. تستغفلهم الأوهام، ويمضى الزمن وهم لا يعلمون”.(ص.ح:27).
جلال لم تنفعه قوته وسطوته وأمواله، فقط استعمل كل ذلك، “كأنما كان يتحصن ضد الموت، أو يوثق علاقته بالأرض حذرا من غدرها. لقد غرق فى خضم الدنيا ولكنه لم يغفل قط عن خداعها”. (ص.م: 408) لا تعويض ولا امتداد فى أبناء مثلما أمتد عاشور الأول فى آلـِه حتى عاشور الأخير، ولا حب يعوضه بعد اختطاف قمر، وحاول أن يحيى ذكرى جده بالعدل والرعاية وكلما فعل ذلك ازداد قوة، وفى نفس الوقت ازداد وحده واقترب من التألة حتى لا يموت، “رفعته القوة وأخرست خصومه فثمل بها وعبدها”. (ص.م: 385)، فهى القوة والجمال الذاتى والعلو الخاص، ولكن ماذا بعد أن يمتلك كل هذه القوة والموت مازال يتربص به؟ وقد ينقض عليه مثلما انقض على أمه، أو يسرقه بلا مقدمات مثلما سرق منه قمر حبيبته. جلال يزداد قوة فيبتعد عن الناس ويقترب أكثر من نفسه إلها أقدر، لكنه يُهدد من داخله ومن الزمن بهزيمة زاحفة ساحقة من الشذوذ إلى الجنون إلى الموت مسموما مهانا.
أما عثمان فقد انتهى وقد تعرت حقيقة سعيه وانكشف عمق شركه بالله برغم كل ما يردده من ألفاظ عن الاتكال على الله وابتهالاته كى يوفقه، وهو يقترب فى هذه اللقطة أكثر ما يكون إلى جلال صاحب الجلالة فى ثوب من العادية وهو فوق العاديين.
وبعد:
- آفاق واعده وملاحظات خاتمة
أولا: كنت قد انهيت دراستى الباكرة فى نقد ملحمة الحرافيش بما اسميته “آفاق واعده” عددت فيها العناصر التى شعرت أن الدراسة لا تكتمل إلا بتناولها، إلا أن الفرصة لم تتح للوفاء بهذا الوعد أو بتعبير أدق لتحقيق هذا الأمل، ولم يكن من بين هذه الآفاق التى بلغت سبعة عشر موضوعا تجليات الخلود وتشكيلاته كما ظهرت لى فى هذه الدراسة المقارنة، وقد هدتنى هذه الدراسة إلى وضع تشكيلات الخلود فى الصحة والمرض، فى الإيمان والاغتراب، فى الإبداع والجنون، فى السر والعلن من أول الخلود فى الذرية المباشرة حتى الخلود فى النوع مرورا بالخلود فى المال وبالمال “يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ “، (مثلا كما تجلى فى سيرة بكر سليمان الناجى وغيره) فى السلطة وبالسلطة، ثم ارتباطا بتخليق الوعى الجماعى (وهو غير “غريزة القطيع” وغير “عقل الجماعة” بل يكاد يكون عسكهما)، وفضلت ألا أعدد هذه العناصر الجديدة التى تناولتها الملحمة والتى تحتاج منى إلى عودة حتى لا يتكرر الإخلاف والإحباط.
* * * *
[1] – يحيى الرخاوى (دورات الحياة وضلال الخلود ملحمة الموت والتخلق “فى الحَرافيش”)، مجلة فصول المجلد التاسع – العددان الأول والثانى أكتوبر 1990
[2] – سوف أرمز للصفحات كالتى: (ص.م.) أعنى بها صفحة كذا من “ملحمة الحرافيش، أما (ص. ح:) فأعنى بها الصفحة من حضرة المحترم
[3] – ظهرت أول طبعة لرواية حضرة المحترم سنه 1975 وبعدها مباشرة ظهرت أول طبعة لملحمة الحرافيش سنة 1977 فهل لهذا التتابع معنى خاص؟
[4] – محمد اسيورتى، مجلة فصول – المجلد السادس – العدد الثالث 1986 (ص 135 – 161): “أنسنة السرد الإيديولوجى”، شدتنى دراسته فى البداية أثناء كتابة نقدى الأول إلا أنه أزعجنى أكثر مما أضاف إلىّ ، وكان من أغرب ما ورد فيه وصايته على النص حين يأخذ – مثلا – على الكاتب تركيزه: “على شخصية واحدة”، ويضيف: “وكان ينبغى الاهتمام بجميع الشخصيات وأن تظهر بالتساوى مع الشخصية/ …. فحضور شخصية على الدوام وغياب أخرى على الدوام يضعف الصراع والتموقف من الأحداث”!!!الخ.، كما تعجبت من تخريج هذا الناقد إسم بسيونى السويفى Pensione suivant إلى معناه بالفرنسية وقد فعل نفس الشىء مع اسم البطل ببيومى Bio moitie أو Bio mai ولعله قرأ المتن بالفرنسية أولا، لكن ما هذا؟. هذا ناهيك عن سطحية تعامله مع الجنون حين يقول: “مع أن الأجدى أن يبدو مجنونا يمارس الجنون فى أوجه، فى تعامله مع الشخصيات الأخرى”…؟ ..!!!.
[5] – إقبال بركة، (http://www.alarabimag.com/Article.asp?ART=814&ID=180)
وصلنى نقد “إقبال بركة” إنتقائيا ومحدد المعالم فقد حاولت أن تكشف بجلاء وجهة نظر نجيب محفوظ فى المرأة فى الحياة عموما ومن خلال الرواية، وكان رصد الناقدة لدور أم حسنى رائعا، وأيضا أعجبنى إلتقاط الناقدة تقديس عثمان للمرأة ضمن ما يقدس فإذا كانت المرأة هى الحياة، فإن الذى يتخلى عنها ويسىء إليها إنما يتخلى عن الحياة ذاتها، وأخيراً فإننى لا أتفق معها فى أن استعمال القاموس الصوفى كان لخلق المفارقة بين ما يقال، وما يحدث لأننى لا أعتبر مجرد ذكر اسم الله هو من القاموس الصوفى أصلاً.
[6] – نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، 1945، دار مصر للطباعة
[7] – نجيب محفوظ “دنيا الله: كلمة فى الليل” 1963 ، مكتبة مصر
[8] – رشيد العنانى، عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته، 1988، دار الهلال للطباعة.
[9] – لم تصدر فى كتاب ورقى بعد، الرابط (فى شرف صحبة نجيب محفوظ “الحلقة السادسة” نشرة 14-1-2010) www.rakhawy.org
[10] – التى أصبحت اعتبرها نوعا من النقد أطلقت عليه اسم “نقد النص البشرى”
[11] – كلمة ضلال هى الترجمة لكلمة Delusion وقد أصبحت الأكثر استعمالا، وهى عرض مهم فى معظم الذهانات، وإن كانت الكلمة تستعمل أحيانا فى مجالات أخرى فى وصف بعض أنواع التعصب الأعمى والاغتراب فى أيديولوجيا عنصرية وغير ذلك.
[12] – ظاهرة الطبع Imprinting تطلق على نوع من التعلم بالتقمص البيولوجى الغائر، وهى إما أن تكون ضمن برامج البقاء تحافظ على بقاء الأحياء باكتساب أساليب الحفاظ على الحياة منذ البداية، وإما أنها تكتسب فى أزمات الإغارة الساحقة على الكيان المستهدف أو مع صدمات الفقد، كما تظهر آثارها فى صورة حيلة (ميكانزم) نفسية معينة هى “التقمص بالمعتدى” أو فى “طبع أثر المفقود قسرا بيولوجيا” وهذا ما قدرته فى حالة جلال الطفل فى موقف “فقد / طبع” أمه بداخله.
[13] – فى إحدى مراجعاتى لما يسمى عقدة أوديب وضعت فرضا يقول أن النداء يبدأ من الأم والابن يستجيب له، فهو أساسا ليس من الطفل الذكر منافسا أبيه.
www.rakhawy.org/a_site/psychotherapy/books/Oedipus%20Complex.htm