الوفد: 19/3/2001
تسمح لى أشوف وثائق سيادتك؟!
السياسة والقضاء والقدر
الشائع عن الإنسان المصرى هو أنه شديد الإيمان، شديد الصبر، يثق بالزمن ويصاحبه بشكل خاص جدا، وربما سرى جدا، حتى أنه قد لا يعى ذلك أصلا. كما يبدو أن الوحدة الزمنية التى يتعامل بها الإنسان المصرى مع التاريخ والأحداث هى أطول من أى تصوّر. وحدة زمن ممتدة استلهمها من طول نهر النيل، وامتداد الصحراء، و بناء الأهرامات، ومن فرط المآسي وتلاحقها؟ كما استلهمها من يقينه بالخلود، وبعدل الله الذى يؤكد له أن الزمن يحارب معه السوء والطغاة والغزاة جميعا:”إصبر على جارك السو، يا يرحل، يا تجيله مصيبة تاخده”.
من علامات الإيمان، بل من شروطه فى الإسلام، أن تؤمن بالقدر خيره وشره. والإنسان المصرى نموذج على الوفاء بهذا الشرط، بل إنه قد “زودها” فى الوفاء بهذا الشرط.
الإيمان الإيجابى بالقضاء والقدر، مثله مثل الإيمان بالغيب، هو أن تواجه الذى حدث بما هو، لا أن تستسلم له لتبرره. الإيمان بالغيب يفتح باب المعرفة بغير نهاية، لأنه فوق كل ذى علم عليم، والإيمان بالقدر يفتح باب الصبر حتى يمكن التعامل مع الأحداث التى وقعت فعلا تعاملا يتجاوز الإنكار، ولا يتوقف عند الرفض.
إن الحادث يسمّى قضاء وقدرا إذا حدث عكس التوقع (عادة فجأة)، أو ضد دراسة الجدوى (بلغة التجارة والتخطيط)!! إن الإيمان يقتضينا أنـئـذ أن نحمد الله عليه إن كان خيرا، أو أن نتجرّع كأسه، إن كان غير ذلك، ثم نبدأ من جديد.
لكن هل هذا هو حال الإنسان المصرى الآن؟ أم أن الإيمان بالقضاء والقدر قد أصبح له معنى آخر؟ أصبح المطلوب منا الآن -إيمانا بقضاء آخر، وقدر آخر- هو أن نتخذ موقف المتلقى السلبى طول العمر، بعرض التربية والتعليم، والنفاق الإدارى، والبحث العلمى جميعا.
لكن حديثنا اليوم هو عن السياسة، فما شأن السياسة بالقضاء والقدر؟
قد يكون للسياسة تعريف أكاديمى، وقد يكون لها حضور فعلى فى وعى الناس، لكن واقع الحال يقول إننا قد ابتعدنا، أو أُبعِـدنا عن كل أنواع السياسة بشكل مضطرد حتى صار الحديث فى السياسة إما بكاء على الماضى، وإما تشنج فى مواجهة الحاضر. أما السياسة البرنامج، السياسة البديل، السياسة “حكومة الظل”، السياسة المسؤولية، السياسة المشارَكة، فهذه أمور من قبيل العيب، من يجرؤ أن يتناولها بجدّية يمكن أن يحاكم بتهمة ما أسميته فى مقال سابق”خدش الحياء السياسى”. السياسة عندنا هى ما يمارسه الحاكم فقط. وكله بركة.
نعم، لم يعد لكلمة السياسة معــنى محدد متفق عليه بين عامة الناس، هذه الانتخابات التى تُعقد كل عدد من السنين ليست سياسة، ولكنّها “تربيط مصالح”. حتى الكلية التى اسمها كلية الاقتصاد والعلوم السياسة، لايعرف من يختارها مالذى سوف يدرسه فيها، ولا ما الذى سيمارسه من”سياسة” بعد أن يتخرج منها. يتضح ذلك أكثر فأكثرحين تسأل إحدى الحاصلات على الثانوية العامة لماذا كتبتِ هذه الكلية كأول اختيار (على فكرة : البنات يقرأونها خطفا من الشمال لليمين هكذا “سياسة واقتصاد”) فلا تجيب إلا بمط شفتيها، أو ربما ابتسمت الواحدة منهن ابتسامة غامضة، ذات دلال، أو قد تجيب إجابة عائلية أو طبقية ظريفة ، وخلاص.
ماذا يتبقى بعد كل ذلك، ولماذا تصدر كل هذه الصحف مليئة بكل هذه الأحاديث عن السياسة؟ وما هو الدور الحقيقى للشخص العادى فى هذا الخضم الهائل من الأحداث والقرارات، والاجتمعات، واستشهاد الأبرياء، والحروب المحتملة، والاقتصاد المنهك؟
يتساءل الرجل المرجِع محمد حسنين هيكل فى “وجهات نظر” (مارس 2001) عن “..من الذى يستطيع أن يحسب “الحقيقة”في الاعتبارات الشخصية، والعائلية، والقبلية والثقافية، والفكرية التى تكمن فى موقع أى قرار عربى فى ظل الواقع الراهن؟”. ثم يضيف بين قوسين، لا أعرف لماذا وضع القوسين، يضيف : (وهناك أمر واقع لا مجال للشك فيه، مؤداه أن محددات القرار العربي لم تكن – وربما منذ العصور المملوكية – شخصية كما هى الآن، وسريّة كما هي الآن) . قبل ذلك ينبه هيكل فى نفس المقال إلى أن الظروف الحالية زادت فيها :”ليس فقط “فردية” القرار، وإنما أيضا “شخصانية القرارالسياسى “. إذا كان هذا هو موقف هيكل بكل ما يعرف، ومما لا نعرف أنه يعرفه، فماذا يكون دور الشخص العادى مثل حالاتى .
إذا أمعنا قراءة كلمات “سرية”، و “شخصية”، و “فردية” ثم ” شخصانية” فى هذه الفقرة المحدودة ، يقولها هذا المرجع غير المحدود، يمكن أن نفهم لماذا كف أغلب العامة عن شراء الصحف أصلا، لماذا استغنى أغلب الشباب بمحطة الأغانى وشرائط “الكاسيت” عن كل أخبار العالم، لماذا لم يعد أحد يهتم أن يعرف الفرق بين وزير الاقتصاد ووزير الحكم المحلى.
يكفى الواحد منا أن ينطق اسم “سنسبرى”، بطريقة سليمة ليعتبر نفسه سياسيا مخضْرما.
يقال إنه ممنوع على طلبة الجامعة أن يمارسوا السياسة، قال يعنى يمكن أن يمارسوها بالسلامة بعد تخرجهم، أين؟ كيف؟ مع من؟ لماذا؟ كل ما يتاح لنا هو الفرجة على الأخبار، وليس متابعتها، ثم بطاقـة انتخابية “مضروبة”، تُستعمل بين الحين والحين”بشروط إذعان”.
هل يحتاج الأمر أن أكمل المقال لأشرح علاقة السياسة بالقضاء والقدر؟ الأمر باختصار: إنه مادامت المشاركة معدومة، أو باهتة، وما دامت الحسابات ضعيفة أو عشوائية، فكل قرار سياسى إنما ينزل على الناس بمثابة القضاء والقدر(بما سبق أن عرفنا به القضاء والقدر).
أكتفى بأن أضرب مثلا واحدا شائعا هو “مسألة التغيير”.
يتكرر القول ليل نهار أننا نحتاج إلى الاستقرار كل الاستقرار ولا شىء غير الاستقرار، وأنه بدون الاستقرار لن يجرؤ رأس المال الأجنبى أن يشرفنا، كما قد يفر رأس المال الوطنى، وتتوقف السياحة ويتعطل الإنتاج، ومن ثـمّ نفهم يقينا أن أى حديث عن التغيير هو ضد الاستقرار. “دعونا يا جماعة نرتب البيت أولا” ، “أعطوا هذا الوزير أو ذاك فرصة، وسوف يصلح نفسه من خلال طمأنينة الاستقرار”. وهكذا: يصبح الاستقرار هو هدف وقَدَر “هذه المرحلة” بالذات (أى “مرحلة” تعنى سيادتك؟ ليس هذا شغلك. الله !! أنت مالك يا بايخ.”)
بعد فترة لا يعلمها إلا الله، تلوح معالم التغيير، دون أى مبرر ظاهر للعامة أمثالى، نحن العامة نردد تسليم أمورنا لله سبحانه لأنه “”كله منه، واللى منه لا بد عنه”، وهو قول سياسى فى هذا المقام، درْ بالك !!. أقول: ثم ما أن تلوح معالم التغيير حتى تتحول النغمة 180 درجة : وينقلب الحديث كما يلى :” إن التغيير-يا أيها الشعب-هو من طبيعة الحياة، إنه نقلة حتمية لأى مرحلة تستنفذ أغراضها، و الحياة حركة، وفى الحركة بركة، وأنه بدون تغيير لن يكون إبداع، ولن يظهر جديد. هكذا يصبح التغيير- فجأة – هو الأمل الجديد، هو القدر الجديد، وفيه الخلاص بإذن الله وتوفيق أولى الأمر، طبعا هم أدرى. التغيير المنضبط ليس من اختصاص الناس، ولا من اختصاص الأحزاب، وليس له علاقة بالانتخابات، بل إن أى حزب يخطر على باله احتمال أن يعد نفسه للتغيير يعتبر خائنا وغبيا وغير شرعى أيضا.
كل علاقتنا بالتغيير، بهذه الصورة، هو أن ننتظر قَدَرَ التغيير. قد يسمح لنا بالأمل فى انتظار الأحسن، وإن كانت التجربة تدل على أنه حتى هذا السماح هو محفوف بالمخاطر، فـنكف عن مجرد التصور حتى لو لاح الأمل. يتقلّص دورنا فى أن نسلى أنفسنا – ونحن نتظرقضاء الله – بالفرجة على أحمد رجب ومصطفى حسين يرسمان لنا عبده مشتاق وهو لا يغادر موقعه أمام محل عصير القصب ، ثم ينزل علينا التغيير مثل القضاء الذى لا رادّ له إلا هو. فنُذهل، ونتساءل، وبعضنا يعترض . يعترض على أى أساس؟ يعترض بصفة ماذا؟ إيش عرّفه هو ؟؟. ألم يطلب التغيير؟ وقد حدث التغيير، فما الذى يريده بعد ذلك؟
وُيمنع الحديث مرة أخرى عن التغيير إلا بعد فترة لا يمكن تحديدها (كل شىء له أوان، كما أن كل وقت له آذان، وكل تغيير وله ميزان). ونستسلم للقدر الجديد، بصبر المصري العنيد، داعين الله لهم بالتوفيق. الدعوة المناسبة لطبع الشعب المصرى المؤمن فى هذا الشأن يمكن أن أوجزها كما يلى: اللهم إنا لا نسألك التغيير ولكن نسألهــُـم اللطف بنا. هذا فى الفترات الممنوع فيها الكلام فى، أو حتى الأمل فى، أى تغيير أصلا. فإذا لاح أمل التغيير، ليس من واقع مسيرة الأحداث، ولكن من كلمة تفلت هنا، أو تصريح يمكن فهمه كذا أو كذا، أو إشاعة تخرج من ناد رياضى معروفٌ من يتردد عليه، إذا لاح مثل هذا الأمل انقلبت دعوة المصرى المؤمن إلى: اللهم إنا لا نسألك رد التغيير، ولكن نسألك اللطف فيه.
تتعدى علاقة السياسة بالقضاء والقدر مجرد غلبة الشخصنة والفردية، إلى مسألة السرية !!!. إن المعنى الإيجابى للمفاوضات السرية (الموازية) هو محاولة البعد عن التدخلات المعطِّـلة، وعن التأثير الإعلامى الملاحِق، وعن المزايدات الـمُغرضة، لكن الحاصل أن المفاوضات السرية أصبحت هى الأصل، وأن المفاوضات العلنية صارت الغطاء الشكلى لما يجرى مما هو محظورعلى أصحاب المصلحة متابعته. فإذا تم الاتفاق فى المفاوضات السرية على أى إجراء أو قرارات أو حتى معاهدة، فإنها تخرج جاهزة بالسلامة، وهى لا تحتاج لتوضع موضع التنفيذ إلا إلى بعض الشكليات التكميلية (هذا إذا لزم الأمر، وهو لا يلزم في كثير من الأحوال) . وحين يتم إعلان ما تم الاتفاق عليه سرا، لا يبقى أمامنا إلا أن نستقبله قضاء جديدا، وقدرا مكتوبا، ذلك لأن المكتوب على الأوراق (لا على الجبين) لا بد أن تراه العين.
قانون الوثائق الجديد ، رغم التأجيل والتردد، إذا تمّ تمريره سوف يزيد من مساحة السرية، بحيث لا تقتصر على المسائل الكبرى مثل مفاوضات أوسلو الموازية، أو مقابلات الملك حسين – الله يرحمه – السابقة، وإنما تمتد السرية إلى أى ورقة فيها معلومة تسمح لنا أن نشارك فى الحساب أو حتى العتاب، فالله تعالي أمر بالستر، ونحن مؤمنون صالحون، وكل ما يحق لنا أن نعرفه هو النتيجة بالسلامة، ثم توجيهات القادة ، أما من أين، وإلى أين، حسب ما جاء فى الوثائق، فهذه أمور ليست من شأنك يا بارد، “راعى البلاد إذا كتبْ، لا تسألنّ عن السببْ، لِنَدعـْهُ يفعلُ ما يرى، والزم حدودَك بالأدبْ”. ولا يبقى أمامنا إلا التدريب على مزيد من الإيمان بالقضاء والقدر، باعتبار أن الزمن فى صالحنا، بأمارة أنها لو دامت كانت دامت لغيرهم، وأننا على نَفَسهم حتى يرحلوا، أو نشارِك.
يتصورالبعض، ومعهم بعض الحق، أو كل الحق، أن الحل هو فيما يسمّى الشفافية (أن تكون المعلومات متاحة)، وفى الديمقراطية (= مسؤولية الأغلبية في اتخاذ القرار). كلام جميل، وكلام معقول، لا أستطيع أن أقول شيئا عنه، لكن واقع الحال (وليس شخصى) يقول أشياء أخرى كثيرة ، لا يمكن السكوت عنها. أما الشفافية، فماأسهل أن تصبح متحيزة مُغرضة حين تسمح لزوار موقع على الإنترنت -مثلا – أن يقرأوا ما يراد لهم أن يقرأووه، لا ما يراد بهم، ولا ما يحاك لهم، لقد تعودنا بفضل توجيهات ساستنا وبرامج مدارسنا، وتعليمات مشايخنا، وقساوسنا، أن نرضى بما يظهرلنا، وممنوع علينا أن نبحث فيما أخفى عنا. ثم بعد قانون الوثائق الجديد،إن شاء الله تعالى، سوف يصبح مجرد الحديث عن الشفافية، جريمة، ودمتم.
إن كل ما تبقى مسموحا لمن يريد أن يطلع على الوثائق هو أن يحصل -كتابةًً ً-على إذن (فى الأغلب: من نفس موقع الاتهام أو الظن) حتى يُسمح له أن يضع رأسه تحت ستارة “صندوق دنيا الحكومة” ليطلع على صور”عزيزة، وعثمان” يضعها له صاحب الصندوق، فى الوضع الذى يريحه. أما غير ذلك فعلى المتفرج أن يستأذن قائلا ما معناه :”ممكن تسمح لى أشوف وثائق سعادتك، لأنشرها، لأثبت أن سعادتك لص، ولا مؤاخذة ؟”” ثم عليه أن يحمد الله أن رأسه مازالت مغطاة تحت ستارة “صندوق دنيا الحكومة” حتى لا يسهُل صفع قفاه، ردا على وقاحته.
هذا عن الشفافية، أما كيف يمكن أن تنقلب الديمـقراطية إلى أعتى أنواع القضاء والقدر، فهذا حديث آخر.