نشرت فى مجلة سطور
عدد سبتمبر 2003
نبذة: هذا المقال هو قراءة فى الأحداث الجارية بعد حرب العراق وهو يقدم فرضا يقول “إن ثم خطرا أساسيا أكبر يكمن وراء تلاحق هذه الأحداث الكوارث، هو أكبر بكثير من الضرر الذى أصاب أفغانستان، والعراق، أو الذى يمكن أن يصيب أى قطر يغزوه هؤلاء الغزاة تحت زعم التعمير أو التحرير أو التنوير، هذا الخطر هو: “تزييف الوعى البشرى بما يخالف طبيعته، أى طبيعة وقوانين التطور، الأمر الذى يسمح بمثل ما يجرى، ثم يبرره ليتمادى بما يهدد بانقراض الإنسان“.
وتنتهى المقال بالتنبيه إلى ضرورة مواجهة احتمال صحة هذا الفرض بالعمل على تنمية غرائز إيجابية كما ينمون هم ثراء سلبيا تهدد الإنسان بالانقراض.
تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض
عبر التاريخ، لم تتوقف الحروب، ولا محاولات الإبادة، ولا التطهير العرقي، ولا حملات الاستعمار بالجيوش، ثم الاستعمار الاقتصادى، فالاستيطاني. بطول التاريخ وعرضه لم تتوقف الكوارث الطبيعية،وامتحانات القدر غير المفهومة.
كل ذلك كان محدودا جغرافيا بمكان بذاته، وبزمن له بداية و نهاية من حيث أن نزوات أوغزوات الدمار تنتهى بانتهاء العمر الحقيقى أو الافتراضي، سواء عمر الطاغية أو النظام، كما كانت الكوارث الطبيعية مؤقتة مهما تفاقمت آثارها الجديد فى الأمر هو الانتباه إلى احتمال “شمولية” هذه الجرائم والمآسى لتصل إلى التهديد بالإبادة الجماعية، أى: انتحار النوع.
ظل السيد بوش وفرقته يكررون على مدار ساعات اليوم والشهر والسنة نغمة: التخلص من امتلاك أسلحة الدمار الشامل، بالتبادل مع نغمة القضاء على الإرهاب (كما صنفوه)، وبغض النظر عن فشلهم فى إثبات ما يدعون هنا أو هناك، فإن الذى ينبغى أن يرسخ فى وعينا هو هذا التنبيه على احتمالية “شمول الدمار حتى الانقراض”!!
شكرا يا سادة، وإن كنتم لا تقصدون.
متى يكون الدمار شاملا؟
شمول الدمار لا يقاس بعدد القتلي، ولا بغباء (أو ذكاء) القاتل، ولا بمدى فتك السلاح المستعمل. يكون الدمار شاملا حين يتمثل فى سلوك أو إجراء مستمر، ومتماد ومتسارع، بحيث يفوق فى تسارعه وامتداده، كل القوى التصحيحية والمعادلة التى تحاول أن تحول دون الهلاك الجماعى للنوع البشري.
من هذا المنطلق يمكن الزعم (بل الجزم) أن مقتل بضعة آلاف من الأمريكيين فى مركز التجارة العالمي، أو حتى بضعة مئات الآلاف من الأفغان والعراقيين، سواء بسيف الطغيان أو بغباء التخلف، أو بذكاء أطنان القنابل، أو بالتجويع، أو بالإذلال، كل هذا ليس دمارا شاملا، لأنه لا يهدد مجمل الوجود البشرى طولا وعرضا، طول الوقت.
إن ما حدث ويحدث الآن من قتل للأبرياء، وإحياء للاستعمار القديم، واستغلال للموارد، واستعمال لفئة من البشر باعتبارهم أدني، هو النتيجة الطبيعة لسوء استخدام آليات ووسائل بعض إنجازات العقل البالغة القدرة، لتزييف منظم للوعى البشري. إن هذا التزييف يتم بالذات من خلال الإعلام والتعليم (تصور !!). يحدث ذلك لصالح خدمة قلة تملك من مقدرات الحياة ووسائلها أكثر بكثير مما تستطيع أن تستعمله، أو أن تتحمل مسئوليته . هذه القلة هى التى تسخر أروع الإنجازات لأخطر الأغراض، وهى تكاد تعمي، وهى تدفع بالمسيرة البشرية إلى “انتحار شامل”، تعمى حتى عن موقعها وهى فى مقدمة هذا الطابور الذى تجذبه (لا تدفعه) معها إلى هاوية الانقراض.
لا جديد إلا الشمول
إن الذى فعله ويفعله الأمريكيون فى أفغانسان والعراق هو جريمة مسبوقة ليس فيها جديد، إلا معالم شمولها. حتى وراثة الطغيان والإجرام القاتل تحت شعارات خادعة، له سوابق تاريخية تكاد تكون طبق الأصل من حيث المزاعم والنتيجة جميعا. ليس جديدا ما يفعله بوش الإبن بعد الأب، أو ما فعله عدى وقصى مع والدهما الطاغية المجرم. التاريخ يذكرنا كيف أن الإسكندر تولى الحكم وهو فى العشرين بعد اغتيال أبيه “فيليب” الذى مارس الغزو والقتال والإبادة طولا وعرضا، ثم إنه حين اغتيل وتصورت اليونان أنها قد استراحت من شره، إذا بابنه الاسكندر يجتاح المدينة، يذبح كل سكانها..، ثم يعبرها، ليهزم جيوش الفرس، ويندفع إلى سوريا ومنها إلى مصر ثم يعور إلى بابل، ويأمر بذبح سكان مدينة بأكملها لأنهم من الإغريق، ويموت فى الثانية والثلاثين من العمر [1]“، وبرغم كل هذا فإن ذلك لا ولم يعد دمارا شاملا. هذه الأفعال كانت طغيانا محدودا، حتى لو تم من خلالها محو مدن بأكملها، أو إبادة قومية عن بكرة أبيها. الذى كان يحدها آنذاك هو محدودية قدرات فتك السلاح المتاح من جهة، وصعوبة انتشار الوباء القاتل من جهة أخرى . أى تواضع صناعة السلاح، وبدائية التوصيل والتواصل . بتغلب البشرية على هذه الصعوبة وتلك، أصبح الدمار أكثر شمولا، والانقراض أكثر احتمالا.
النذير:
إذا أردنا أن نقرأ الأحداث الأخيرة بمسئولية مناسبة، وبرغم الألم والانكسار، علينا أن نكف قليلا أو كثيرا عن النعى والنعابة، لننظر فى حقيقة وعمق معنى الأحداث باعتبارها نذيرا للبشرية كافة.
النذير الذى ينبغى أن يتماثل أمام كل الناس الآن لا يكمن فقط فى إدراك مدى تعملق القوى الكمية التدميرية المغتربة، ولا فى ما آل إليه تسويق وتقديس قيم الإستهلاك للاستهلاك، والتميز بالمال لندرة لا تعرف كيف تنقفه، النذير ليس فقط فى إعلان النكسة البشرية التى عادت تبرر أن يصنف البشر إلى “أدوات وعبيد” مقابل ماهو “ناس وأسياد”، ولا فى أن الديمقراطية المزعومة لا تمثل لا العدل ولا الحرية، ولا فى أن الدين أصبح مطية للساسة والسياسة بدلا من أن يكون دافعا للإبداع وحافزا للتطور. إن كل مثل هذه المخاطر جديرة بالانتباه والمواجهة، لكن الأحداث الأخيرة تنذر بما هو أهم وأخطر، تعالوا ننصت لها وهى تقول:
(1) إن ثمة أسلحة شديدة الخطورة أصبحت فى متناول عدد متزايد من الناس هنا، وهناك.(حكومات، وأهالي، قطاع عام، وقطاع خاص !!).
(2) إن كثيرا ممن يمكن أن يحوزوا هذه الأسلحة لا يحسنون حمل مسئوليتها (يستوى فى ذلك صدام،وبوش، و شارون، و بن لادن).
(3) إن الخطأ الذى قد يرتكبه أى من هؤلاء أصبح “شاملا” لأنه يهدد كل النوع البشرى بالانقراض،وليس بالمعنى الذى يردده بوش، وهو يعتبر جرح إصبع مواطن أمريكى أخطر “شمولا” فى ما يعنيه من تدمير البشرية، من إبادة مئات الآلاف مجهولى الهوية عبر العالم.
الفرض:
فرض هذه المداخلة يقول: “إن ثم خطرا أساسيا أكبر يكمن وراء تلاحق هذه الأحداث الكوارث، هو أكبر بكثير من الضرر الذى أصاب أفغانستان، والعراق ، أو الذى يمكن أن يصيب أى قطر يغزوه هؤلاء الغزاة تحت زعم التعمير أو التحرير أو التنوير، هذا الخطر هو: “تزييف الوعى البشرى بما يخالف طبيعته، أى طبيعة وقوانين التطور، الأمر الذى يسمح بمثل ما يجري، ثم يبرره ليتمادى بما يهدد بانقراض الإنسان”.
أخطاء التطور:
ثم أخطاء جسيمة ترتبت على سوء حسابات قوانين التكيف لصالح مزيد من التطورالبشري. مثل هذه الأخطاء واردة عبر تاريخ التطور. كل الأحياء الباقية صححت أخطاءها أولا بأول بشكل أبقى على استمرارها، أما الأحياء التى لم تستطع أن تصحح مسارها فقد انقرضت. إن أى ناظر فى التاريخ والحاضر ، يمكنه أن يدرك بوضوح أن الإنسان مسئول-ربما دون سائر الأحياء- عن انحرف مسار تطوره، وأنه، وليست الطبيعة، هو السبب فى ذلك، و فى نفس الوقت نلاحظ أنه أيضا لم يكف أبداعن محاولة تصحيح أخطائه، وتعديل مساره.
أزمة الوعى، ومحنة العقل:
الخطر الذى يهدد الإنسان أكثر فأكثر ينبع من نفس الميزة (الميزات) التى تميز الإنسان بها على سائر الأحياء، ذلك أن هذا الخطر هو ناتج من اكتساب الإنسان ذلك القدر من “الوعى بالذات وبالزمن”، وأيضا من تميزه بتلك الآلية المسماة “العقل”. نتيجة لهذا وذاك، أصبح مستقبل الإنسان، دون سائر الأحياء المعروفة،غير قاصر على الناتج التكيفى الطبيعى للتفاعل مع البيئة والمحيط، بل أصبح تحت رحمة نجاح أو فشل هذا الوعى وذاك العقل حيث تدخل كل من هذا وذاك، سلبا، وإيجابا، بالتخطيط لبقائه، أو بالوقوع فى أخطاء تهدد بانقراضه.
تزييف الوعى:
يبدو أن ما انتهت إليه البشرية من إنجازات فى كل المجالات (الإبداعية والتقنية والعلمية خاصة) هو أكبر من قدرتهاالحالية على استيعابها لصالح تطور نوع البشر، بل إن المردود كان معكوسا فى كثير من الأحيان،حيث تم توظييف هذه الإنجازات لتزييف الوعي، لا لحماية النوع وحفز التطور.
يتم تزييف الوعى بشكل متماد ، سرا وعلانية،من خلال سلطات رسمية، أو منظومات خاصة، يتم بوسائل شديدة التنوع والإلحاح نكتفى بمجرد الإشارة إلى بعضها، دون تناول أى منها تفصيلا، ومن ذلك: الإغراق، والتهميش، والتجزيء، والإحلال، والإلهاء، والتفصيل، والتدين المظهري، وادعائه، والترغيب، والترهيب، والتأجيل، والتلويح..إلخ. أبسط وأحدث الأمثلة للإلهاء والإغراق والإزاحة معا هو ظهور هذا الكم الهائل من الإذاعات، والمحطات الفضائية والمحلية. خذ- مثلا – تلك المحطتين اللتين ظهرتا مؤخرا تذيعان أغان خفيفة طوال 24 ساعة. ما هى المساحة التى تبقى فى وعي، أو وقت، أو ذاكرة، أى شاب أو فتاة أو شخص لأى شيء آخر. مثل هذا الإجراء لا يحشر معلومات مغرضة بذاتها فى أمخاخ المتلقين، لكنه يكتفى بشغل كل شيء بلاشيء، وبالتالى تصبح مساحة ما تبقى من الوعى سلبا خالصا جاهزا لتلقى أى شيء. (يمكن الرجوع للمزيد فى “خدعة التكنولوجيا” [2].
حركية المواجهة:
على الرغم من كل ذلك، فإن الناس تتجمع على الجانب الآخر دفاعا عن حقهم فى البقاء، الناس من كل لون وجنس، دون استبعاد بعض عامة ومبدعى الأمريكيين والإنجليز من الشرفاء الذين ينتمون للناس لا للسلطة، إن تشكيل مستويات الوعى البشرى بما يخدم أحد الفريقين أصبح فى متناول كل من يحذق مخاطبة المستويات المختلفة معا. لم تعد المسألة مجرد إقناع عقلى بفكرة (أو أيديولوجيا)، ولا دغدغة لعاطفة أو تلويح بلذة، وإنما المسألة تخطت كل ذلك إلى مخاطبة الغرائز البشرية (الأصلية، والمصنعة) بما يناسب خدمة الغرض الواعد أو المتربص، بوعى أو بدونه، إن تطورا ، وإن فناء.
غرائز وغرائز:
إشكالة الحديث بلغة الغرائز عامة هى إشكالة حديثة قديمة، لكن المتابع لحقيقة مسارات التطور لا يستطيع أن يتجاوز حتمية مواجهة البدء من غرائز البقاء حتى لو لم يجرؤ على الاعتراف بغريزة الموت، (وهى أيضا تخدم بقاء النوع). علينا أن نكتسب الشجاعة الكافية التى تسمح لنا بالحديث عن الغرائز السياسية، والغرائز الدينية، وغريزة القطيع، ونحن نحاول أن نرصد المعركة الدائرة بين تزييف الوعى ، وتحريك الإبداع. بل إنه علينا أن نتقدم خطوة أخرى فى محاولة احترام فرض يزعم رصد تخليق غرائز جديدة، حسنة أو سيئة .
لعل هربرت سبنسر هو القائل “إن عادات اليوم هى غرائز المستقبل”. من أمثلة الغرائز السلبية الجديدة التى تكونت حتى كادت تصبح جزءا من الطبيعة البشرية المصنعة: “غريزة الاستهلاك لما لا حاجة لنا به، وغريزة امتلاك ما لا نستعمله، وغريزة الوعد بما لا نقدرعليه، بل ولا نعرفه أو نعرفه (مثلا: الحرية)، وغريزة قصر النظر، وغريزة القتل عن بعد لمن لا نعرف (غريزة سلبية هنا = كل سلوك أصبح مسلما به رغم ضعف (أو عكس) وظيفته الإنسانية البقائية).
ويا ليت الأمر اقتصر على تشكيل تلك الغرائز المصنعة، بل إن تزييف الوعى والسلوك والتعلم، راح يتعامل مع غرائز البنية الأساسية (إن صح التعبير) لنفس غرض التدمير والردة، ذلك أنه يجرى اختزال غريزة الجنس للجنس (دون التناسل أو التواصل) واختزال غريزة العدوان للقتل (دون الإبداع)، واختزال غريزة الجوع للإذلال (دون الشبع والأمن)، وتحوير غريزة القطيع (الانتماء للمجموع) إلى ما يسمى الديمقراطية لخدمة أى أحد إلا مجموع القطيع.
العمى أحد أهم شروط الانقراض:
لا يوجد نوع من الأحياء، دون استثناء الجنس البشري، سعى أو هو يسعى للانقراض بوعى أو بغير وعي، لا بوش ولاستالين. لا الدينصورات، ولا اليمام. لا الفيلة ولا النمل، لا البكتريا ولا الفيروسات. بل إن الانقراض ذاته لم تتوحد أو تتحدد أسبابه لكل من انقرض من أحياء (أنظر كتاب الانقراض، جينات سيئة، أم حظ سيء [3]. قد يحدث الانقراض بمحض الصدفة (حظ سيء)، وقد يحدث نتيجة خطأ تطورى جسيم . أما وقد اكتسب الإنسان ذلك الوعى الفائق، فقد تراجعت الصدفة نسبيا لتحل محلها المسئولية.
الذى حدث فى الاتحاد السفيتى ليس مجرد خطأ تطبيق أفكار أغلبها (إن لم يكن كلها) صحيحة، والذى يحدث الآن فى أمريكا وفى العراق على حد سواء ، ليس مجرد شهوة حكم أو مصالح شركات. الذى حدث ويحدث من بن لادن ليس مجرد تعصب أعمي، أو انحراف عن الدين الحقيقي. كل هذه الأحداث تتشابه فى كونها تعلن عن خطأ تطورى يتمادى فيه الجنس البشرى بشكل منذر.
لماذا لا نتعلم؟
الخطر الأساسى باختصار شديد: هو أن الجزء الأحدث من وجودنا (الوعى الظاهر ، والعقل الخطي) قد تعملق حتى طغى فألغى كل، أو معظم إنجازات التاريخ الحيوي، لصالح تفوق ما يسمى العقل، وهو يلتحف بما أسماه الديمقراطية، معلقا لافتة كتب عليهاحقوق الإنسان . لا شك أن الأحدث أقدر، لكن الذى حول هذا الأحدث الأقدر ليصبح خطرا جسيما هو ما تورط فيه من زعم بأنه قادر وحده على دفع عجلة التطور.
نحن لم نتعلم من انهيار الاتحاد السوفيتى إلا ما أسميناه “صحة الفكرة، وخيبة التطبيق”. إن الذى حدث فى الاتحاد السوفييتى وأوربا الشرقية هو الاعتماد على فكر حديث صحيح على حساب وعى غائر أثبت نجاحه فى الحفاظ على التطور عبر تاريخ الحياة. إن الذى يحدث الآن على الجانب الآخر هو نفس الشيء تقريبا: لو تمادت أمريكا- ومن إليها- فى اتباع ما يتصورنه غاية المطاف من أفكار ديمقراطية (بديلا عن ممارسة جوهر الحرية) وحقوق إنسان مكتوبة على الورق، لا بد أن ينتهى بها إلى ما انتهى إليه الاتحاد السوفيتي.
لكن ثم فرقا هاما: حين انتهى الاتحاد السوفيتى قفز خصمه شامتا وهو يتصور، ويصور لنا، أنه الصحيح الأوحد المتبقى أمامنا لاختياره!!. لكن كل الدلائل التالية، آخرها هذا النذير من برج التجارة ثم أفغانستان فالعراق، تشير إلى أن انهيار ما تمثله سلطات أمريكا الحالية سوف يكون أكثر دويا وأخطر أثرا حيث لا يوجد بديل جاهز قادر بعد.
المواجهة الأساسية:
نحن نعيش الآن مواجهة أعمق من كل المواجهات التى عاشها الإنسان عبر التاريخ، لم تعد المواجهات فئوية أو قومية أو حتى دينية. نحن جميعا، بما أتاحته لنا وسائل الاتصال الحديثة، نعيش معا فى مواجهة تحديات البقاء ضد الانقراض. قد تحدث حروب جديدة ، وقد تتجدد حروب قديمة،وهذه أو تلك إنما تعلن بقايا الاستقطابات القائمة، أو الماضية: من إسرائيل ضد العرب، حتى الكاثوليك ضد البروتستانت (أيرلندا)، مرورا بالشيعة ضد السنة (كما يجرى فى باكستان أو الهند أحيانا) ، فضلا عن المواجهات الاستقطابية الفكرية المتعددة فى كل المجالات (مجالات: الاقتصاد، والتطبيب، والأيديولوجيا، ،،،إلخ). لكن تظل المواجهة الأساسية، التى كانت طول عمرها قائمة، هى شغل الوعى البشري، ما دام قد تصدى للتدخل فى مسار تطوره. إن حسن استعمال آليات الاتصال الحديثة، مع بالغ خطورتها، هو الأمل فى تصحيح شطحات وصاية الوعى البشرى الظاهر (وكذلك تصحيح أخطاء وغرور العقل البشرى المنطقي).
البادى على السطح حتى تاريخه، هو استعمال هذه الآليات الأحدث لتزييف الوعى البشرى وتشكيله لصالح أقلية فقدت بصيرة انتمائها للنوع. لكن الجارى أيضا، وبشكل مواز، وربما أهم وآعمق، هو محاولات الإبداع المستمر لتصحيح المسار على مستوى البشرية، خاصة وقد أتيحت الفرصة لكل الناس أن يسهموا فى المهمة، كل من موقعه، وبأدواته المتاحة.
مستويات المواجهة:
كل الناس عبر العالم، يبحثون عن منهج أقدر، عن ديمقراطية أصدق، عن علم أشمل، عن علاقة بالطبيعة أكثر تناغما، عن وعى فائق يحتوى كل ما كان، ليكون به وبعده، لا على حسابه. الناس يحاولون أن يتجاوزوا الخلاف حول المحتوى ((أى دين وأى أيديولوجي، وأى نظرية)، ليتفاهموا حول المنهج (كيف نكون، وكيف نفعل، كيف نتواصل)، لتحقيق إنسانية الإنسان وحفزه إلى ما يعد به.
إن مواجهة أخطاء التطور التى زعمتها لا تتم على المستوى الأكاديمى أو المتخصص فحسب، ولا حتى على المستوى السياسى المتحكم، بل هى جارية طول الوقت عند كل الناس، (بما فيهم من يسمون المجانين، بل: وخاصة من يسمون المجانين).
الذى حافظ ويحافظ على بقاء نوع النمل والنوارس ، ليس المجلس الأعلى لبقاء النمل، ولا الحكومة المنتخبة لجمهورية النوارس، ولكنهم كل النمل، وكل النوارس.
فيما يلى إشارة محدودة إلى خطوط بعض تلك الأخطاء التطورية الجارية (مجرد مثالين).
مثال (1) الخطأ الأول: إن اللغة الرمزية قد حلت محل اللغة الكلية (الجسدية، والحشوية، والجينية، والتجاوزية)
مستويات المواجهة ومحاولة التصحيح:
(ا) مستوى الخاصة: العلم المعرفي، والعلم المعرفى العصبي، وعلوم الشواش والتركيبية، والإبداع التشكيلى، وبعض الإبداع الحداثي، وما بعد الحداثي.
(ب) مستوى العامة: شك الناس فى البيانات الكلامية، ، وعدم اقتصارهم على الحوار اللفظي، مع التفضيل أحيانا للحوار الجسدي، والاعتراف بالعرف مع أو بدون القوانين المكتوبة، والاعتماد على التجربة قبل التنظير (الطب غير التقليدى ، مثلا) ..إلخ.
(ج) المواجهة السلبية: العودة للخرافة وبعض الجنون
مثال (2) الخطأ الثانى: إن الفكر الظاهر قد حل محل، الوعى الغائر أو استبعده، (علم النفس السلوكي) حتى الفكر الذى اعترف بوعى كامن، استعمل النفى لوصفه، (اللاوعي)، مع أنه لم يهمشه (التحليل النفسي)
مستويات االمواجهة ومحاولة التصحيح:
(ا) مستوى الخاصة: مدارس تعدد الذوات، وتعدد مستويات الوعي، وهيراركية تركيب الجهاز العصبى والنفسي، والتحليل التركيبي، والتفسير الغائى للسلوك (فى الصحة والمرض)، وفنون الحكي، وفنون التشكيل، والتشخيص (فى المسرح خاصة).
(2) مستوى العامة: إحياء معايشة التراث الشعبي، واستلهام واحترام الوعى الشعبي، الذى يتعامل تلقيائيا مع هذا التعدد فى الكيان البشري، سواء اتخذ لغة الحكمة الشعبية، أو اللغة الدينية، أو اللغة التصوفية، أو الممارسات الحدسية الشعبية المتجاوزة لأحادية الظاهر.
(جـ) المواجهة السلبية: إسقاط هذه الذوات المتعددة داخلنا إلى الخارج فى صورة عالم الجان، و.. وبعض الجنون أيضا.
والباقى أكثر:
أوقف نفسى قسرا خشية التمادى فى هذا الإيجاز المخل فى عرض أمثلة أخرى أكثر تحديا وأخطر أثرا، إن الإفاقة الواجبة تحتم علينا أن نعيد النظر أيضا فيما انتهى إليه ما هو “عقل”، و “تفكير” ثم “دين” و “إيمان” … ، مرورا بهز آلهة جديدة مثل إله ما يسمى العلم، وإله زعم الديمقراطية ..إلخ. إن ما يهمنى فى هذه المقدمة هو مجردالتنبيه إلى أن مستويات المواجهة الثلاث (خاصة، وعامة ، وسلبية) هى جارية على قدم وساق فى محاولة هز كل هذه المقدسات. خذ إشارة عابرة إلي: كيف يواجه الناس تقديس الديمقراطية بالعزوف عن المشاركة فى الانتخابات أصلا (أحيانا أكثر من 50 % فى البلاد المتقدمة التى تقدس الديمقراطية) ما معنى ذلك؟، أو خذ مثلا كيف يواجه العامة السلطة الدينية المغتربة عن الإيمان بما يسمى الدين الشعبي، وهكذا.
خلاصة القول:
(1) إن الإنجازات العلمية والتقنية الأحدث تستعمل فى تزييف الوعى أكثر من مساهمتها فى تحريك الإبداع لإنقاذ النوع.
(2) إنه يمكن تفسير الممارسات النكوصية التى ظهرت مؤخرا على مستوى الفكر والحرب جميعا (من “نهاية التاريخ” إلى “11 سبتمبر” إلى “حكم صدام” إلى “غزو العراق”) باعتبارها النتيجة الطبيعية لهذا التزييف المنظم لـ”الوعى العالمى الجديد”.
(3) إن محاولة تصحيح تلك الأخطاء التطورية جارية على كل المستويات بشكل تلقائى عنيد ، وإن كانت النتائج شديدة التواضع ومهددة بالإجهاض من القوى المتربصة.
(4) إنه كما تتولد غرائز سلبية جديدة من خلال تزييف الوعي، لا بد أن نعمل على توليد غرائز إيجابية جديدة لتحل محل الفشل المنتظر قريبا لهذا التعملق الزائف الآيل للسقوط بما يحمل من مقومات هدمه لنفسه.
(5) إن قضية الوجود البشرى هى قضية بقاء النوع وتميزه قبل وبعد أى أيديولوجية أو دين أو نوع حكم أو شخص حاكم. فهى قضية كل فرد دون استثناء.
الدفاع عن البقاء لدفع التطور هو فرض عين فى نهاية النهاية، إذا قام به البعض لايسقط عن الباقي.
وإلا ….،، فالانقراض لا يستثني.
[1] – عار العالم، د. فوزى فهمى، مكتبة الأسرة، 2003.
[2] – خدعة التكنولوجيا، جاك إلول، ترجمة: د. فاطمة نصر، طبعة سطور، سنة 2002.
[3] – الانقراض جينات سيئة أم حظ سيئ، دافيدم. روب، ترجمة: د. مصطفى إبراهيم فهمى، المجلس الأعلى للثقافة سنة 1998.