نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 24-4-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6080
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الأول
(الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة)
الموت: ذلك الشعر الآخر (9)
“يختل مجرى العمر والأمل،
(لماذا ياصديقى؟؟)
دائرةٌ ملتاثة:
(عَجـّـلتَ بالنهاية؟)
تقضمُ فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام الجائعة،
(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)
ثارت أجنة الخلايا تصطرع“.
تعملقتْ فطرتك الأبيةْ
لم ترعَ عهداً، لا، ولمّا تنتظر
لــمْ نـقوَ بعدُ ياصديقى
(فيم العجالة والسام؟)
تقفز خلف الحدِّ، بعد العدِّ، تقتحمْ
ترجع نحو عشها اليمامةْ.
الأربعاء: 29 يناير 1986
الساعة الخامسة وعشر دقائق (صباحا)
…………..
…………….
التفتتْ. وتلاثما، جلستْ.. فتحسَّسَا، شاركتْ.. فتهامسا، ابتعدتْ. فتمايلا… الخ، وأنا أفرح بهما وأشفق “علينا”، و أفهم القليل، وأرفض القليل، وأؤجل الكثير، وتزداد وحدتى بمعنى خاص أعرفه.
هذه المنطقة أحوم حولها من قديم، لا أعرف تفاصيل لغتها، ولا دورة حياتها، ولا تداعيات مسارها، لذلك أظل ألف بلا انقطاع مع اللحن الصادح حول الكراسى. وحين يتوقف اللحن أو تحين الفرصة، لا أسرع بانتقاء كرسى مثل الآخرين، بل أقف مكانى بعيدا فى انتظار أن تدور الموسيقى ثانية لأعاود الـلف حول الدائرة دون أن أدخلها أبدا، وقد رضيت بهذا الدور من باب الوعى بما هو أنا، فى حدود ما أعرف، وكانت هذه الدرجة من الوعى لا تمنعنى من المشاركة والحوار والتساؤل دون أن أغامر بأكثر من ذلك، فلا أنا المتفرج المتعالى، ولا أنا المنسحب الذى يصدر أحكامه على الآخرين من فرط عجزه، ولا أنا الأعمى المتغافل، أو لعلى بعض من كل هذا، لكنى مع كل هذا مشارك متسامح.
ثم إنى رحت أكتشف من بعد آخر أنه ربما يكون هذا التلامس، والتلاثم…الخ. ربما يكون تباعدا أخطر، ذلك أنى أتعجب كيف أن الشائع عن هؤلاء البشر الأكثر تحضرا (!!!) أنهم أكثرحرية، فيبدو لى أن حرية الترك هى شرط حرية الإقدام، بل إننى أتصور أن مسئولية الحرية هى أكبر من تحمّلهم، تحملنا، اكتشفت ذلك وأنا أتساءل لم أنهيت قصيدة الجبلان بهذا البيت “أفرِج عن الضحايا تنتحر” . أضبط نفسى حاكما على ما يجرى من بُــعد آخر حين استقبل ما يجرى وكأنه “طقوس نظام”، وليس “مسئولية حوار”، وأن هؤلاء الناس هم ضحايا هذا النظام بشكل ما، وحين ضحكوا عليهم بهذا القدر من الحرية المشبوهة دار كل منهم حول نفسه لا أكثر، فما أضيق المساحة، يلتقى الواحد منهم بصاحب أو صاحبة، دون أن يلتقى ثم ينصرف دون أن يمتلئ وعيه بحضورٍ جديد، قلت وكأنى أكمل القصيدة الأولى . الإثارة واحدة ، والعجب يزداد، لكن الحكم أصبح أشد قسوة:
ـ 1 ـ
تميل فى دلال، أو غباءٍ، أو عبثْ
(كأنّهاً تصدّقً)
يلثمُها،
تقضم رأس الجُـمـلهْ
يبدو كمن فَهِم:
يحتدمْ
يُخلخِلُ الهواءَ،
تضطرمْ
تنداح من بؤرتها الدوائرْ
يكثّف اللهبْ
ـ 2 ـ
يزقزق العصفورُ يحتضرْ
الوحدة العنيدةْ،
الجوع والحرمان والشَّبَقْ
تـُؤَجَّل القضيهْ
تُـوَزع الغنائم
اللعبةُ الكراسى
ـ 3 ـ
تفور رغوة الكؤوس والرؤوسِ والرُّؤىَ
تهدهدُ الكلابَ والشجرْ
ـ 4 ـ
تَحَدّدَ الميقاتُ والمحلَّفون والشهودْ
َتَملْمَلَ القَفَصْ
ـ 5 ـ
أفرِجْ عن الضّحَاَياَ..،
تنتحر ْ.
أهكذا؟ بعد كل ادعاء التسامح والفهم، يعرّينى شِعرى الخائب ، فيضعنى فى موقف حكم فوقى، فأشك فى ادعائى القبول بالاختلاف،
الأرجح أننى مخطئ فى الحالين.
الخميس 6 سبتمبر 1984 (ما زلنا)
التقينا حول الظهر فى ميدان الأوبرا بعد الاطمئنان على حجز العودة بالطائرة من جنيف للأولاد (هكذا قرروا)، جلسنا على رصيف قهوة السلام “Le Pais” التاريخية بروادها من الساسة المصريين خاصة، والشمس قد تسلطت على صلعتى فحركت ذكريات المشى من المونمارتر حيث كنت أسكن، إلى جنوب باريس حيث أعمل، أو أدرس، مارا بميدان الأوبرا (أين أوبرانا القديمة فى مصر؟) وثمة محل على الناصية المقابلة يبيع المجوهرات المزيفة التى تحتاج إلى خبير ومجهر لكشف تزييفها (فلماذا الأصلية؟) وكنت قد حضرت إليهم متأخرا قليلا بعد أن استغرقتنى قهوة جوبلان حيث هاج بى الشعر دون إستئذان، فأجد مصطفى ممسكا بنسختين من صورة لهم فى جلستهم وقد اكفهر تماما حيث خدعه أحدهم، أو هو قد خـُدع له، حين فهم منه أن ثمن الصورة فرنكان وثمانين سنتيما deux quatre vint (وفى الفرنسية لا ينطقون حرف العطف”و”) فوافق ابنى فرحا باعتبار أنها أرخص حتى من التصوير العادى (فرنكان وثمانون سنتميا)، وبعد التصوير يكتشف أن الصورة الواحدة بأربعين فرنكا، وأن البائع كان يقصد أن “الاثنين بثمانين” أى أنه توجد سكتة بين لفظى اثنين، وثمانيين!! ويدفع ابنى النقود وهو يغلى ويلعن حروف الجر والعطف وعدم ظهور “الفاصلة” فى الكلام، وكان هذا بداية يوم المقالب والنصب الخوجاتى:
ذلك أنى حين تركتهم لساعة وبضع ساعة حسب ميعاد سابق مع د. حلمى شاهين وهو ينزل فى فندق قريب (سان جيمس) بشارع ريفولى، ذهبت وأنا مشغول بمهمة ثقيلة تتعلق بمستقبل مصطفى، مهمة لا أحبها، ولا أتحمس لها، وان كنت مضطرا للقيام بها بكل التزام التكيف وضد كل المقاومة الداخلية، فجعلت أكلّم نفسى وأنا أشوح بيدى كالعادة حين يحتد ما يشغلنى “ضدى”، ويبدو أن منظرى هذا قد جذب انتباه أحدهم من ركاب العربات الفخمة (كانتB.M.W على ما أذكر ـ تحمل أرقاما أجنبية)، وحين توقفتُ فى الاشارة اقترب منى راكب العربة ـ وهو بالداخل لم ينزل ـ وقال لى بلهجة ليست باريسية ولا فرنسية أنه: يا مسيو، ولم أتصور أنه ينادى علىّ، ثم حسبت أنه يسألنى عن عنوان ما، لكنه جعل يحكى “.. أنا رجل من إيطاليا وقد نفذت نقودى وأريد أن أرجع بلدى، وقد كنت قد أحضرت بعض الأغراض لصديق لى ها هنا، لكنى لم أجده، ويبدو أنك غريب، وطيب، فقد تنفعك هذه الصناعات الإيطالية، المتواضعة الثمن، فقد أدخلتها بدون جمارك…الخ، لم ألتقط كل ما قاله لكنى فهمت مجمل المُراد، وأنا بى ما بى، وقبل أن أرد معتذرا فتحت الإشارة فحمدت الله إذ اضطرت صاحب السيارة أن يمضى، ونسيت لتوى كل ما كان، لكن ما أن عبرت التقاطع ومضيت بضع خطوات حتى وجدته فى سيارته الفخمة ينتظرنى، وقد أوقف العربة وخذ عندك “يا مسيو… يا مسيو”، وقبل أن يعيد ما قال قررت ـ لست أدرى كيف ـ أن أسهل طريقة للتخلص منه هو أن أستجيب له تماما، وحالا، مع أنى لم أستبعد احتمال النصب، فأعطانى سترتين من الشمواه فى كيس أو ما شابه، فأعطيته ما أراد من فرنكات، فانصرف وجعلت أنظر للكيس المجهول المحتوى الذى أحمله فى يدى وأنا فى طريقى لمقابلة د. حلمى شاهين وتمنيت أن ألقى به بعيدا، وقبل أن أفعل، لاحظت أن العربة قد توقفت من جديد، يا نهاراً لـن يمر، و “يا مسيو يا مسيو..” وقبل أن ألقى فى وجهه كل شىء، أو أشتمه بالعربى كما ينبغى، بادرنى: أنت رجل طيب من مصر، وأنا أحب مصر، خذ هذه أيضا هدية بدون مقابل، وناولنى سترة ثالثة من نفس النوع!! فتأكدت أولا أنه نصاب، ثم رجحت أن النصبة طلعت واسعة حبتين حين استجبتُ فدفعت كل الثمن الذى طلبه فورا دون مساومة، ثم تعجبت أنه أشفق علىّ لدرجة أنه عاد يصلح بعض ما اقترف، فأهدانى السترة الثالثة، حتى يبارك الله له فى سرقته، وحين وصلت إلى هذا الاستنتاج ابتسمت بالرغم منى، هذا نصّاب طيب فعلا.
وتذكرت ما سمعته عن قريب لى كان “يقتل” بالأجر، وحين جاءته امرأة فقيرة، ليس لها رجال، لتستأجره فى مهمة اضطرارية، ترفق بحالها وأقسم بالطلاق أن يقوم لها بالمهمة “جدعنه” وأن يقتل خصمها لوجه الله (!!).
أديتُ مهمتى الثقيلة فى الفندق الفخم مع الأستاذ الدكتور حلمى شاهين واعتذرت عن زوجتى بحجة اختلقتها، اعتذرت عن دعوة من زوجته الفاضلة لزوجتى الكامنة، على غداء أو عشاء، فزوجتى لا تحب هذا المجتمع، ولم تُحضر الملابس التى…، وهى لا تتقن لغة أخرى، فلماذا؟ ولم أستطع أن أعتذر عن نفسى أنا أيضا لأن الوليمة كان سيحضرها شخص قد يساعدنى فى مهمتى الثقيلة الخاصة بابنى، ثم إنها دعوة لغداء عمل يتعلق بالتعاون الطبى المصرى فيما يسمى بـ “السِّديم” وانتهى اللقاء بالموافقة.
قفلت راجعا الى زملاء الرحلة الجالسين على مقهى السلام فى ميدان الأوبرا، وأنا أحاول أن أدارى خجلى، لكنهم يتبينون ما أحمل، فأحكى لهم بإيجاز شديد وأريهم محتوى الكيس: ثلاث سترات من نفس النوع، بنفس المقاس، وبعد فترة كتمان ينفجرون ضاحكين، فتأكدتُ مما جرى، والألعن ـ أو الأرحم ـ أن المقاس لم يكن مقاسى أصلا، وشربتُها بأكملها..، بسيطة؟ ويحكى لى مصطفى ما غرم فى حكاية التصوير، فأضحك بدورى، واحدة بواحدة.
انصرفنا معا حتى أبواب مبانى محلات اللافييت المتعددة المتجاورة على الجانب الآخر من ميدان الأوبرا، وتفرقنا على أن نلتقى، فاتجهت الى قسم ملابس الرياضة، حيث أنى طالع فى المقدر جديدا، لكنى أكتشف أنها أغلى بكثير من الملابس العادية، إذ يبدو ان “بدعة الجرى” الحديثة، والنشاط البدنى الهوائى Aerobics، قد أصبحت من مميزات الطبقة القادرة (كادوا يحتكرون كل شئ يا عالم!! حتى الرياضة والصحة الجسمية!!) ولم أشتر شيئا طبعا، ثم تجمعنا على الناصية، وبدأ فصل النصْب الثالث:
يتقدم شاب أنيق رشيق له رأس متناسق مستدير، ووجه أحمر فى صحة “خواجاتية” يكاد الدم يطفح منه، وله شعر أصفر ذهبى جدا!! خواجه ابن خواجه وأمه خوجايه 100%، كلّمنا بلهجة إنجليزية سليمة، ليس بها أية لكنة فرنسية، وعرض علينا بعد أن عرّفنا أنه انجليزى ـ أن نصرف منه الدولارات بسعر أكبر (أظن ثلاثين أو أربعين فرنكا أعلى من السعر الرسمى، لكل مائة دولار)، شككنا فيه من باب الحيطة، قالت منى يحيى ابنتى: فلنحاول، ولنكتف بمائة دولار واحدة لا غير حتى اذا نصب علينا تكون الخسارة محتملة، ولم أفهم لمَ نقدم على المحاولة ما دمنا على هذه الحالة من الشك فى الرجل، علما بأن فرق السعر ليس كبيرا، ولكن ماذا تفعل فى النصاحة المصرية؟ قلنا نجرب ونفتح أعيننا جميعا:
…………..
…………..
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الأول من الترحال الثانى: “الموت: ذلك الشعر الآخر”
من اكتر الكتابات اللي عرفتني بالدكتور يحي..فضلا عما فيها من سلاسة غريبة سهلة وجميلة بس الحقيقي المرة اندهشت من حديث الموت اللي اعقبه علي طول تكملة الرحلة