نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 4-6-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6486
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”[1]
الفصل السابع
الصلح خير (5)
أهو لزاما أن أجوع بالعافية، لمجرد أن معى نقودا أريد أن أشترى بها أكلاً شهيا؟
أهو لزاما علىّ أن أجلس مع من لا أحب، فأكون من لا أريد؟
أهو لزاما علىّ أن أكتب مالا أريد، لمجرد أن غيرى كتبه أسوأ مما أستطيع؟
أهو لزاما علىّ أن أحضر مؤتمرا يقال له مؤتمر علمى عالمى (إلخ)،
وأن أحتمل ما يجرى فيه وحوله أحضره لمجرد أننى أستاذ جدّا؟
السبت 26 يونيو 1993
…………………….
…………………….
وصلت إلى الشانزلزييه كارها، ووجدتهم كأنهم وضعوا كل أدوات حفر مترو أنفاق القاهرة هناك. ابتسمت وأنا أتخيل المنظر فى شارع الملك فيصل، أو ميدان النافورة بالمقطم والعمال يفترشون الأرض صباحاً وفؤوسهم ومقاطفهم أمامهم ينتظرون أن يفتح الله عليهم بمقاول يلتقطهم من على باب الله. قلت لابد أن الفرنسيين بعد أن أنهوا إقامة المترو عندنا، أحضروا بولدوزاراتهم وفئوسهم وافترشوا أرض الشانزلزييه هكذا فى انتظار مقاولى السوق الأوربية المشتركة. هل يحفرون هنا مترو جديدا أم ماذا؟ المهم كل الشارع ملئ بالسقالات والحواجز، لكن بنظامٍ ما، فرحت فى سرّى لأنى وجدت سببا مباشرا لكراهيتى لهذا الشارع الذى ليس لها حل، و التى تتصاعد بمجرد الوصول إليه ـ شعرت – دون أدنى وجه شبه أو حق – أننى فى عين الصيرة أو طريق مجرى العيون الذى لا تنقطع منه المياه الجوفية البشرية إياها، ما علينا.على الرغم من أنه ليس ثمة رائحة ولا مياه، إلا أن مشاعرى السلبية وجدت ما يبررها، وحتى إن لم تجد ما يبررها، فهى تحاول أن تزيـّف أى شئ لصالح ما تعتقد.
فى أول الشارع ظهرت لافته تغيير النقود، هو هو المكان، هو هو المحل، هى هى الوجاهة، هو هو ما خدعنى فى تبديل النقود فى المرة السابقة، حيث استلمت النقود أقل خمسين فرنكا فى المائة دولار على ورقة مكتوبة ومختومة لأسباب لم أفهمها حتى الآن، قلت فرصة لآخذ حقّى: وبحماس شديد قلت: ولسوف أنتقم، وأفقسهم، وآخذ حقى (الأدبى على الأقل) منهم هذه المرة، لا أحب أن يخدعنى أحد، وخاصة إذا كان “خواجة”، فدخلت: ووجدتها كأنها هى هى الجميلة نفسها أو أجمل منها، جمال مصنوع بحرفية، وقرأت بهدوء شديد حتى لا أقع فى خطأ المرة السابقة، فإذا السعر الأعلى من البنك مكتوب بمنتهى الوضوح وأنه لا عمولة no commisssion. صح. سألتها ماذا يعنى ما هو مكتوب “لا عمولة”؟، فغنَجَتْ قائلة إنه يعنى ما هو مكتوب: “لا عمولة” يا مسيو، وأعطتنى خريطة باريس مجانا أتلهى فىها، قلت لها: أنت متأكدة أنه “لا عمولة” قالت: طبعا هذا مكتوب، هذا أمر رسمى، فأعطيتها المائة دولار؟ فأعطتنى النقود ناقصة الشئ الفلانى (أكثر من المرّة الماضية، أى والله، حتى أننى أخجل أن أقول الرقم)، تحفزت أكثر وأنا أتذكر الخبرة السابقة وردودها، قلت لها كيف، فانقلبت سحنتها وذهب جمالها- أى والله- وأعطتنى ورقة صغيرة بها رقم المبلغ نفسه الذى استلمتُه، وتذكرت أن هذا هو ما كان تماما بالحرف الواحد فى المرة السابقة لكننى كنت قد نسيت التفاصيل، وقلت لها: “لقد صرفتُ أمس فى المطار بكذا”، فقالت: “هذا هو، واذهب إلى البوليس ومعك الورقة”. ثم أكملتْ: نعم لا توجد عمولة ولكن نسبة كذا مقابل خدمة كيت، ولا أدرى ماذا مقابل لا أدرى كيف. . إلخ (كله بالفرنسية التى خانتنى طبعا) وكلام لا أعرف له أولا ولا آخر، ملأنى غيظ فظيع لأننى لم أكن أحتاج أن أغيّر نقودا ساعتها، كنت داخلا فقط أمحو خيبة قديمة، وأتحدى، فلبست الخازوق نفسه، وأخذت أتحسس فروة صلعتى أتأكد أن الخازوق قد وصلها بالسلامة، ونسيت كل الذى كنته من الصباح الباكر، ونسيت حكاية البسط والبساطة، والولادة وإعادة الولادة. . . وهذا الكلام كله، هل فَقْدُ خمسين فرنكا (أو أكثر قليلا) فى لعبة شانزلزييهية، من واحدة مزيفة الجمال محترفة الوقاحة يفعل بى كل هذا؟، هل أنا الذى قلت سوف أتغيّر وتتغير علاقتى بالنقود والممتلكات، وبالأهداف؟، حاولتُ أن أمنع الخازوق من البروز من منتصف صلعتى بعد أن وصل بالسلامة فكانت المحاولة بمثابة إدخاله من جديد، فهمت لماذا إذا خوزق إنسان فعليه أن يصبر حتى يطلع الخازوق بالسلامة من الناحية الأخرى، إذا لم يكن قد قضى عليه تماما (هذا مبدأ جيد فى الحياة، فتذكّـر فقّهك اللهّ)، حاولت أن أطرد ذكرى حرب الخليج وهزيمة 76،
جلست على أحد المقاهى الفاخرة التى كم وعدت نفسى بالجلوس عليها حين ميسرة، واجهتنى بولدوزرات وحواجز مترو الأنفاق (هكذا سميـّتها) ثم رائحة عين الصيرة التى فرضتها بالعافية وهى غير موجودة أصلا، ثم بقايا زوايا قصر العينى- كل سقالات الدنيا أحاطت بى، فنظرت حولى على كراسى القهوة فرأيت كل من هب ودب ممن لا أعرفهم، ولا أريد أن أعرفهم، ليسو ناسى، لست هنا من أجلكم، ناسى أنا هناك فى المونمارتر، والجوبلان، ووسط باريس فى سان ميشيل، وأمام مصطبة عم مصطفى أبو أحمد فى المظاطلى مركز طامية، أما هؤلاء الناس فهم تبع النظام العالمى الجديد، حتى قبل أن يصبح جديدا.
قمت كالملسوع من المقهى قبل أن يأتى النادل، وهو لابد قريب البنت المزيفة الجمال. المحترفة النصب، ولا بد أنه يعرف ما فعلته به، أليسا من مواطنى الشنزلزييه؟ قمت زاغرا له وهو مقبلٌ علىّ، هكذا تصوّرت، ولم يكن ينقصنى إلا أن أتصوّر أن الناس تشير علىّ أن العبيط أهه “اتخـمّ” مرّتين بين المرة والأخرى سنتان والذى لا يشترى يتفرج، وانطلقت لا ألوى على شىء.
أخذت أتأمل الموتوسيكلات التى تملأ أرصفة الشارع، وأرى وأقرأ أرقام اسطوانات محركاتها، والخوذات الملقاة بجوارها مربوطة إليها، وأقارن كل ذلك بموتوسيكلى الجديد الذى لم أركبه أبداً، وأذكر خوذتى التى اشتريتها من مونتريه، كل ذلك لأشغل نفسى وأنسى ذاك الذى اخترقنى حتى صلعتى منذ قليل، وكلما زاد لسع الخازوق زادت سعة خطوتى، قدماى لم تؤلمانى بعد، وركبى شرّفت حتى الآن، وآلام الخازوق تتلاشى، تتلاشى تدريجيا.
أتذكر أن أرعب ما كان – وربما ما زال ـ يرعبنى من وسائل التعذيب هو أن يدخلوا فىّ خشبة غير مشذبه (بها شظايا جانبية) حتى أعترف، وكنت أتصوّر أننى يمكن أن أقاوم الصعق بالكهرباء، والضرب، والتعليق من الأرجل ولكننى حتما سوف أضعف أمام هذا الخازوق الخشبى غير المشذب، وقررت أن أعترف لهم إذا اكتشفوا نقطة الضعف هذه، ولكن المصيبة أننى حين كنت أطاوع خيالى حتى هذه المرحلة، هى أننى لم أكن أدرى بماذا أعترف، فلا أنا محرِّض ثورة، ولا أنا سياسى معارض، ولا أنا شىء، بل إننى متهم من أصحاب الأصوات العالية (الناحية الثانية) بأننى إصلاحى جبان، (ضد ثورى تنويرى) ، ثم إننى لا أعرف أحد أصلا يصلح أن أعترف عليه حتى من باب الميكدة؟، وحين أفيق من خيالى هذا ولا أجد فى كل تاريخى ما يبرر أيا من ذلك أصلا، أطرد تفسيرات فرويدية تتعلّق بهذه المنطقة من جسدى، وأشخط فى فرويد أن يبعد عنى.
حمدت الله أن خازوق تبديل النقود فى الشانزلزييه لم يكن خشبيا، بل كان ناعما مثل بنت “الفرطئوس” التى ألبستنى إىاه، لا أعرف معنى هذه الكلمة”الفرطئوس” لكن القارئ يعرف طبعا ما أقصد، وإن كان التعبير العربى الفصيح يقول: فرطس الخنزير مدّ فرطوسته لأن فرطوسة الخنزير أنفه، يا حلاوة، والله كانت مثل ذلك بعد أن اختفى جمالها المزيف وهى تبرز لى أنيابها التبريرية.
من الكونكورد إلى شاطئ السين. لست أدرى ما الذى جعلنى وأنا أواصل السير هذه المرة أسأل عن “الشاتـليه” بالذات، وأنا ليس لى أية علاقة بالشاتليه تحديدا، لكن “هكذا”، قال لى العسكرى الظريف إن أقصر طريق هو كذا وكيت، فقلت له: أنا لا أسأله عن أقصر طريق ولكن عن أجمل طريق، فابتسم. وتفتحتُ من جديد، ويضرب الله النصبَ بالرقّة فإذا هو ذائب،
هذا هو”السين ” الصديق، وسوف أصل إلى الجسر الجديد (پون نيف) و هو له شأن معى بكل ما يعنى ما قدّمت، واستبدلت بسؤالى عن الشاتـْليه سؤالى عن الجسر الجديد، وأغلب من سألت كان سائحا لايتكلم الفرنسية بطلاقة، لكن كم توقف، وكم نظر فى خريطته ونحن فى عز الليل (المغرب يحلّ هنا بعد العاشرة فى هذا الوقت من السنة)، وقال، وسمعت، وأشار، وفهمت، وأعاد، وصدّقت ومشيت. وقالت، ومشيت ومشيت، وقالوا، ومشيت، ووصلت إلى الجسر الجديد، بعد أن مررت بما يقرب من خمسة كبارى، ولم أكن أتصوّر كل عدد هذه الكبارى مع أنى قطعت هذا الطريق عشرات المرات. وعلى أغلب الجسور وقف الشباب يرقصون ويغنون من كل جنس ولون، يارب لمَ مصر ليست هكذا مع أنها أجمل؟
كنت قد لاحظت أن القبل والأحضان والذى منه فى الشوارع أقل بشكل واضح من مرات زيارتى باريس من قبل، أهذا صحيح أم لأننى لم أقض هنا سوى نصف سبت ويوم أحد فقط، لكن الأحد هو الأحد، و هو يوم السكارى الملقين على مداخل المترو، وغير ذلك. فماذا جرى؟ هل صد الغزو الأمريكى نفوس الناس عن الحب فى الشوارع مثلما سُدّت نفوسهم عن تذوق الجمال بنشر هذه المبانى الزجاجية مسطحة الوجدان؟ أم أننى أنا الذى أصبحت كهلا فلم أعد انتبه إلى هديل الحمام وزقزقة العصافير، ورسائل النظرات، ورائحة اللثم العابر، والحضن الغائر؟
لم أكد أصل إلى هذا التساؤل حتى وجدتهما فوق الجسر الجديد (بون نيف: أكره هذه الترجمة لكننى أعملها بالعند فى لافتات بلدنا المعرّبَة إلى لغة لا تُقْرأ). أما “هى” فقد جلستْ القرفصاء فوقه، و”هو” ممدد الساقين تحتها،على الأرض، وقد أسند ظهره على حاجز الجسر، هى تمسك برأسه بين يديها، هو مستسلم لها، كل هذا تبع النصف الذى فوق، ماشى. أنا أعرف من “أيام الهايد بارك” أن النصف الذى فوق مسموح له بالحركة دون غيره، لكن مسألة القرفصاء هذه وفوق ساقيه الممددتين جلوسا على الأرض، هذا وذاك يمثلان وضعا جديدا تختلط فيه الأنصاف فلا تميّز أى نصف هو الذى فوق، عموما لاحظت أن هذا الوضع إنما يسمح للفتاة أن تعبط الفتى عبطة ذكّرتنى بهند عمر ابن أبى ربيعة، وقلت لابد أن ابن أبى ربيعة هذا كان يتمنى أن “تستبد” به هند (ولو مرّة واحدة) كما تستبد هذه المُقرفِصة بذاك المُـمَـدَّد، ثم إن نصفها التحتى (تقريبا) بدأ يتحرك فى إقدام مثابر منتظم، نصفها هى، وهو فى حالة استقبال ثابت. حاولت أن أبعد نظرى عنهما فأنا معتاد بعض ذلك، لكن هذا ليس بعض ذلك، هذا هو “كل ذلك”، فرُحت أبحث بنظرى عن شرطى يحوش، ولكن يحوش ماذا؟ وتذكرت قصيدتى عن مثل هذا فى المترو بين “النيسان” الإتوالّ، ثم قصيدة “الجوبلان” وعذرت نفسى حين تعجبت كيف يتوقف اللثم والذى منه بمجرد توقف المترو ونزول أحد الوليفين تاركا الآخر دونه، أما هذا المنظر فأنا لم أره أبدا هكذا من قبل.
………………
………………
ونبدأ الأسبوع القادم في استكمال الفصل السابع: “الصلح خير“.(6)