الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل السابع “الصلح خير” (4)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل السابع “الصلح خير” (4)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 28-5-2025

السنة الثامنة عشر 

العدد: 6479 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”[1]

الفصل السابع

الصلح خير  (4)

أهو لزاما أن أجوع بالعافية، لمجرد أن معى نقودا أريد أن أشترى بها أكلاً شهيا؟

أهو لزاما علىّ أن أجلس مع من لا أحب، فأكون من لا أريد؟

أهو لزاما علىّ أن أكتب مالا أريد، لمجرد أن غيرى كتبه أسوأ مما أستطيع؟

أهو لزاما علىّ أن أحضر مؤتمرا يقال له مؤتمر علمى عالمى (إلخ)،

وأن أحتمل ما يجرى فيه وحوله أحضره لمجرد أننى أستاذ جدّا؟

السبت 26 يونيو 1993

…..

أكملتُ الرغيف الحاف واستطعمته أكثرمن أكل مطعم مونتريه ذى المائة  نجمة!!!،  الرغيف الحاف هنا أشهى وألذ، كدت أقول: أشرف وأطيب، لكننى تراجعت، فما عاد يجدر بى أن أنعت كل ما هو رفاهية بغير ما هو.  الرفاهية شئ، وما يحدث من طقوس فى هذه المطاعم شئ آخر.  كانت آخر وجبة أكلتها هناك فى ذلك المطعم كالمعبد المقدس، تحتاج لتسجيل، طلبت طلبا كأنى فتحت بختا فإذا به مكتوب بلغة البنغال.  أحضر الرجل المجلجل منضدة بجوار المنضدة، (منضدة و طاولة) قلت أعرف هذا الطقس، سوف يحضر”سبرتاية” ويتمم تسوية “الشىء” أمامى قبل الأكل،  لكن الرجل لم يـُحضر سبرتاية ولا شواء، ولكنهّ أحضر سمكة كبيرة مطهية وكانت مستلقية فى الطبق المستطيل، وكأنها حسناء تأخذ حمام شمس على الشاطئ قبل نزولها للبحر، كدت أتصورها وقد سندت رأسها بذراعها فى تثنٍّ وقور، استخسرتها فى الأكل والله العظيم، كانت إما مشوية أو مقلية (فلا يوجد احتمال ثالث إلا أن تكون نيئة) وأرانى الرجل إياها، وكنت أعرف مثل ذلك فى محل “بيس” أبو زيد فى الهرم، ومطعم لا أعرف اسمه فى “أبو قير”، لكنّهم يحضرون السمك هناك نيّئا لأختار قبل التسوية، أما هذه السمكة التى ظهرت لى فى البخت فقد حضرت وقد تم نضجها  بالفعـْل، فماذا يريد منى أو منها هذا الرجل المجلجل؟ فأشرت برأسى له علامة الموافقة حتى أنـُهى الموقف، وهل أملك حق الاعتراض أصلا؟ ثم  جاءت المساعدتان الجميلتان الصغيرتان الشهيتان المقليتان (فى الأغلب) ووقفتا فى أدب مبتسم على مقربة من الرجل المهذب. وقفتا، وأخذ الرجل يلعب بالشوكة والسكين مثل المايسترو، يخرج جزءا مثل رأس الدبوس من تحت خياشيم السمكة العظيمة ويريه لـلجميلتين ويضعه فى الطبق الآخر، فتــتـعجّبان انبهارا (هكذا بدا لى)، هل هما اللتان سوف تأكلانها ؟ ثم يقطع لا أعرف ماذا، كما لا أعرف كيف، إلى أن أتم العملية الجراحية بين تنهيدات التلميذتين المعجبتين الصامتتين، ونقل كل ذلك إلى طبقى، وقال لى بأدب جم: ” شهية طيبة يا سيدى” فقلت له بالعربية فى سرّى: “تسلم إيدك”، وهمهمت بالفرنسية بما فتح الله علىّ، ولم أجد فى طعم ما قدّم ما يستأهل أيا من هذا، بل ما يستأهل الأكل أصلا، وقمت وأنا جوعان.

 تذكرت ذلك كله وأنا أقضم الباجيت الحاف على الأريكة على رصيف شارع “أراجو”، لماذا يجعلون من الأكل ما يشبه تقديم القربان هكذا؟ كثرة نقود أم قلة آلهة؟ الذى “معه قرش محيّره يجيب “شيف” يـِمـَنـْظـَرُهْ”، واللى “مامعاهش قرش يِغـيـَّره يجيب عيش حاف ويقمّره”.

ذهبت إلى السوق القريب  جدا. لم أكن أعرفه من قبل رغم ألفتى مع الحى كله، لكن هدانى إليه صاحب محل مشروبات وهو يفيدنى أن محلات الأكل لا تغلق يوم الأحد، فاشتريت من السوق أشياء كثيرة من بينها فرخة كاملة مشوية جدا، بثمن زهيد نوعا، ورجعت فرحا بالفاكهة ورقائق البطاطس، والفرخة، والبارد، وقلت أدلّع نفسى وآكل أشياء أعرف اسمها وأحب طعمها، مع تحياتى لتوصيات الشيف فى مونتريه، وأهم من كل هذا أنى فعلت تماما ما كنت أفعله منذ ربع قرن فى حجرتى فى الحى الثامن عشر على أعتاب المونمارتر.

بدأت “الجرعة التدعيمية” تحى كل ما كان . تتلاحق بسرعة رائعة دون قصد محدد.  فـبمجرد أن جلست على الأرض فى الغرفة فى الفندق، وفرشت الورق حتى لا تتسخ  أرض الحجرة، شعرت أن الربع قرن الذى مضى لم يمض.  كان ذلك حين كانت الأمور غير ذلك، لم أكن قد بدأت مشروع المستشفى الخاص فى مصر بعد، وكنت أغلق عيادتى من بعد ظهر الثلاثاء حتى مساء السبت، ولم أكن، ولم أكن، ولم أكن، وكنت، وكنت وكنت، وهأنذا: أفكر، وأحلم، وأؤلف، وأسافر بعد كل ما لم أكُنــْهُ وما كنتُه.  وكأنى لم أبدأ بعد.

قالت لى فتاة الفندق (فندقى) إنه لا توجد أماكن بدءا من غد، وإنها تعتذر لأن السياحة، والطلبة، ويونيو، وكلام من هذا، تذكرت رغبتى أن أقيم بالفندق الصغير المجاور الذى لمحته فى شارع سان مارسيل. أريد بهذه النقلة أن أبتعد عما تعودته موخرا، لعلنى أقترب من ذلك العام الماثل حالا فى وعيى (68 / 69).

حين نزلت فى فندقى هذا (الذى أتركه راضيا فرحا) منذعامين لما كنت قد سبقت وفداً جاء لحضور مؤتمر من إياهم، كانت الدعوة الأصلية تشمل أن ننزل على حساب شركة دواء  ما لمدّة يومين أو ثلاثة فى الفندق الكبير Le Grand Hotel فى ميدان الأوبرا فى باريس، لكننى سبقتهم بليلة أو اثنتين لأتزود من باريس بما يجعلنى أحتملهم، فنزلت فى فندقى المتواضع هذا، وحين وصلوا إلى الفندق الكبير هاتفتهم، فأصرّ زميلى (الذى كان يبدو صديقا – بعض الوقت – أيامها) على أن يعرف أين أنزل فى هذه الليلة الزيادة أنا وابنتى، وأصررت ألا أريحه، لأن كل ما كان يريده هو أن يعرف إن كان فندقى بنجمتين أو أربع، فيصنفنى بعدد نجومى كما يجب، ويرتاح لتفوقّه النجومى علىّ، ولا مانع من أن يشهر بى ويفسّراختيارى هذا بقلة الأصل، أو بالبخل، إنْ لـَزم الأمر، فندقى هذا ذو النجمتين، أدفع فيه حوالى أربعمائة فرنك (وكنت أدفع سنة 8691 اثنى عشر فرنكا فى فندق النجمة الواحدة) وهذا الذى اسمه الفندق الكبير فى ميدان الأوبرا والذى ينزل فىه زميلى  على حساب شركة الدواء ليلته تقترب من الثلاثة آلاف فرنك، ولا يوجد فرق من حيث الخدمات والتليفزيون والنظافة والتدفئة، اللهم إلا فيما يتعلّق بتوصيات الشيف والفخر عند العودة بذكر اسم ما أوصى به شيف فندق كذا(إن كنتَ شاطرا وحفظت اسمه)، المرضى هم الذين يدفعون ثمن كل ذلك طبعا، لأن شركات الدواء لا تصرف علينا هذه الملايين من أجل سواد عيوننا، ولكنها. . . .  إلى آخره، المهم، ذكرت ذلك كله لأتحدث قليلا عن سذاجتى آنذاك، فقد كتبت لصديقى، هذا (الذى كان صديقى) خطابا جادا شريفا عند عودتى أعتذر فىه عن عدم إعطائه رقم تليفونى فى فندقى المتواضع، وأذكر أننى تحدثت فى ذلك الخطاب عن معنى الناس،والطريق، والشجر، والنبض،ونجوم السماء،ونجوم الفنادق، وتصوّرت أننى قد احترمت بذلك إنسانيته، وحبى له، وأملى فىه، لكن ما حدث بعد ذلك علّمنى أن أدقق الخطاب لمن أتوجّه به إليه، فلا آخذ المسألة جدا، و لا بهذا العمق لمن لايرى إلا نوع رباط العنق واسم العطر الخاص، ومن لا يعلم أن العلم – بالتالى- قد يصطبغ بنفس الطريقة التى يربط بها رباط عنقه أو يتذوق بها نوع عطره.

من أهم ما أكتسبه بالسفر هو أن ألتقط أنفاسى قبل أن أتوه وأنسى، فقد وجدت نفسى قبل سفرى هذا وقد كادوا يسرقوننى لألهث وراء قيمهم، فأؤلف ما ينافسهم، لا ما ينبغى، الأبحاث العلمية التى يمكن أن يموّلوها هى من نوع الخمس نجوم، أنا أتصور أن مهمتى هى الإنارة المتسحبة كشعاع شمس يدخل من شق جدار قاعة مظلمة تتراقص فيه حبّات التراب فى نغم خاص. 

لا يا شيخ؟!!

الأحد 27/6/1993

انتقلت إلى الفندق الجديد وقد كان أفضل مرّتين من القديم، وأرخص ثمانين فرنكا، فكيف هذا؟ لم أتوان عن سؤال صاحب الفندق الجديد تفسيرا لهذا الفرق، ولم يتردد فى الإجابة بأدب جمّ أنه “لا يعرف”.

هأنذا  أُقــيِمُ  بيتا جديدا، ركنا جديدا، سوف أعود إليه  حتما حتى دون أن أعود.  ما أوسع ممتلكاتى وأسهل اقتنائى، الآن فهمت أكثر ماذا كان يعنى زميلى، الذى استقبلنى فى المطار من أنى أبنى لى عشا حيث أحل، أرسى فىه بعض نفسى فأعود إليه كما أشاء بكل وسيلة ، حتى خيّل إلىّ أن روحى تستطيع أن تحوم حوله – ذبابة خضراء- بعد ما يحال بين جسدى وبينه. من يدرى؟؟!!!

بعد الظهر شددت الرحال إلى الشانزلزييه، أحد المعالم التى أكرهها، لكن زيارتها من ضمن الطقوس التى أمارسها، وليست كل الطقوس محببة دائما.

ليس معى تذاكر للمترو، ولم أجد فى محطة الجوبلان تذاكر، فسألت فتاة نشطة دخلت مسرعة إلى المحطة: من أين أحصل على التذاكر، فلوّحت لى بيدها أنه من أى مكان هنا أو هناك، وضربـَتْ بساقها العمود الحديدى الحاجز فى مدخل المحطة دون أن تضع تذاكر ولا يحزنون، ودخلتْ غير ناظرة إلىّ.  فهى ليس معها تذاكر مثلى، فقلت أفعل مثلها وما يحدث يحدث، وأنت فى روما افعل مثل أهل روما، ها هم أهل باريس يزوّغون ويقفزون.  دخل شاب آخر مسرعا فانحنى من تحت العمود الحاجز، ودخل دون تذاكر، فقـلت هذا ثانى تشجيع، ولكن ماذا لو ضبطونى وأنا أستاذ جامعى قدر الدنيا، ماذا لو ضبطونى وأنا أقفز فوق الحواجز أو أدفعها قهرا وبسرعة دون تذاكر؟  يبدو أن يوم الأحد له وضع خاص.  ثم ماذا لو كسر هذا العمود وأنا أدفع هكذا؟ لا بد أن تلك الدفعة الخاطفة تحتاج لتمرين خاص، والألعن الألعن لو انحنيت كى أمُرّ فانحشرتُ تحته وأنا جسمى باسم الله ما شاء الله، فانسحبت بغير هدوء.

خرجت إلى الشارع.  قال لى أحدهم أن علّى أن أواصل السير إلى “ميدان إيطاليا” وسوف أجد التذاكر فى المدخل الرئيسى فى المحطة هناك، وفعلت، ولم أجد المدخل الذى يبيع التذاكر. وكدت أقفل راجعا إلى الفندق، لكن الباب الأوتوماتيكى (بديلا عن الحاجز الحديدى) ذا الاتجاه الواحد فتح ومرّ منه أحدهم خارجا، ثم فتح ثانية وبدا على طرفه شاب أسود نحيف رقيق، ولا أدرى كيف التقط حيرتى بهذه السرعة، فتوقف عن المرور وأشار لى إن كنت أحب أن أدخل إذْ سوف يحافظ لى على فتحة الباب بالوقوف حيث هو، حتى أتمكن من الدخول، أدخل بسرعة مهتديا بإشاراته وهو يمسك بالباب الذى فتح له ليمر فى عكس الاتجاه خارجا، أدخل وأنا لا أكاد أصدّق، ثم يواصل هو سيره، مخالفة رقيقة بالمقارنة بالخبط والأكروبات السابق ذكرهما – مخالفة محسوبة بالتكنولوجيا، وهى مخالفة تحت رعاية وبإرشاد وكرم إخوة فى الإنسانية والتزويغ، هذا التعاون الصامت ضد القانون دون مقابل، فشكرته بالإشارة بشكل واضح، وخرج مبتسما.

أتعجب من هذه السرعة الغريبة التى يتكلم بها البشر صامتين.  وذلك الاتفاق غير المكتوب على مخالفة القانون بالأصول الجديدة، عقود اجتماعية خفية تسرى هنا وهناك من وراء أنف الحكومات واللوائح.  هذا القانون غيرالمكتوب هو قانون أيضا له قواعده ومواعيده وشروطه والتزاماته، هل يكون مثل هذا القانون هو الذى جعل الإرهاب عندهم لا يؤثر فى السياحة، واللاقانون عندنا فى مصر هو الذى خرب بيت السياحة مع أن الضحايا عندنا ندرة، وعندهم السائح مسئول عن مقتله؟

القانون (الفعلى) عندهم محسوب ومخالفته محسوبة، واللاقانون عندنا، برغم قلة ضحاياه، يجعل الأمر سداحا مداحا.  ولا يستطيع الغريب أن يحسب احتمالات المكسب والخسارة أو المقْتَل والنجاة.

………………

………………

ونبدأ الأسبوع القادم في استكمال  الفصل السابع: “الصلح خير“.(5)

__________________

[1] –  ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *