نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 14-5-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6465
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”[1]
الفصل السابع
الصلح خير (2)
أهو لزاما أن أجوع بالعافية، لمجرد أن معى نقودا أريد أن أشترى بها أكلاً شهيا؟
أهو لزاما علىّ أن أجلس مع من لا أحب، فأكون من لا أريد؟
أهو لزاما علىّ أن أكتب مالا أريد، لمجرد أن غيرى كتبه أسوأ مما أستطيع؟
أهو لزاما علىّ أن أحضر مؤتمرا يقال له مؤتمر علمى عالمى (إلخ)،
وأن أحتمل ما يجرى فيه وحوله أحضره لمجرد أننى أستاذ جدّا؟
السبت 26 يونيو 1993
…………………….
…………………….
خرجتُ من البوابة رقم (8) كما أرشدنى رجل مطارجنيف متجها إلى الأتوبيس لينقلنى إلى الطائرة، فأشار لى سائق الأوتوبيس معتذرا، وهو يوجهنى إلى طائرة منمنمة تقف بالقرب منا، وأنّ علىّ أن أتوجه إليها على قدمىّ سائرا، وكنت قد نسيت أننى هكذا نزلت على قدمىّ، لكن الصعود على الأقدام شئ آخر يشعرك فعلا أنك ذاهب لتركب تاكسىا أو أتوبيسا – محليا.
وصلنا باريس بعد خمس وأربعين دقيقة دون أى مغامرات أو مطبات هوائىة أو سوء أحوال جوية، أو قصائد شعر. بسرعة جاءت الحقائب وخرجتُ. نسيت المظلة التى جئت بها من مصر- فى الطائرة- أحسن. رددت قول أمى ” إن جت فى الريش بقشيشش”، وقلت: أحرص على ما هو أهم، قرصة أذن واحدة تكفى، كيف لم يطلب منى أحد شيئآ أصلا بالنسبة لتأشيرة الدخول وإجراءات المطار والجوازات والذى منه؟ كيف يحمون هذه الحقائب التى نتسلمها وكأنها تُلقى بالصدفة؟ كيف يحمونها من السرقة؟ لو أن غريبا جاء ووقف على السير والتقط بسرعة حقيبة غيره ومضى بها؟ وكيف وكيف؟ (كالعادة)، لعل هذه التسهيلات وتلك السيولة ترجع إلى أنى قادم من جنيف، وأن إجراءات جنيف سارية فى بنت العم باريس، أنا فى الولايات المتحدة الأوربية فى الأغلب (حتى قبل اليورو).
ها هو صديقى وزميلى الذى يعمل فى رين (أصبح فرنسيا الآن هو و زوجته، تلميذتى أيضا، وبناته صديقاتى جدا. أكتوبر 2000) د. رفيق حاتم “رين” قادم هناك لاستقبالى، ليس صحيحا تماما. تصادف أن زوجته وبناته قادمات من مصر منذ ساعة فى نفس المطار، لم أكن أعلم.. ابنته الكبرى “ياسمينة” هى صديقتى الأولى ، فرحتى الأولى، قبل أن أصاحب الوُسـْطى (فـَرَحْ) أيضا، “نسمة” (الثالثة) ولدت هناك ولم أصاحبها إلا هذا العام (أغسطس 2000)، ياسمينة تتقيأ وهى تقاوم غثيانا صعبا، وأمهم لا تدرى ماذا تفعل، أحسست بحرج لم أتبين تفاصيله إلا فىما بعد، حرج هو الذى كان له الفضل فى مصالحتى على باريس.
الأم الـقادمة من مصر لا بد أنها تحمل معها لها ولبناتها حقائب كثيرة، وأنه لا يوجد مكان فى سيارتهم لحقائبى، فاقترحَ علىّ زميلى أن أترك الحقيبتين فى “الأمانات” لحين سفرى ثانية إلى القاهرة مادامت إقامتى بهذا القِصَر. فرحت فرحة الرحّالة الذى سينطلق خفيفا خفيفا. كان المفروض أن أعتذر أو آخذ تاكسىا. لم يخطر فى بالى ذلك. تصرفت بعشم فلاح مصرى غشيم. يريد أن يستغل الصداقة فى التوفيرأو الاستنفاع والسلام. : ذهبنا إلى الأمانات متصورا أنهم -فى مطار شارل ديجول شخصيا- سيعطوننى خزنة لها قفل أستلمه ولا يفتحه غيرى إلى آخر ما سمعت وتصورت، لكنهم أخذوا منى الحقائب وإحداها مفتوحة. ركنوها بإهمال وسط كوم من الحقائب، أشفقت عليها وعلىّ، أعطونى ورقة، وخلاص. لعِبَ الفأر فى عبّى، حدثت أشياء وأنا واقف أكّــدت لى عدم حبكة الأمانات هذه. لعل الاطمئنان إلى التأمين إياه هو الذى يجعلهم يتصرفون هكذا ، أنا لم ولن أؤمّن، لم أستطع التراجع.
إلى باريس مع العائلة الصديقة، والوعى بطبعى الريفى المستغِل -عشما !!- يقترب، يجر معه الخجل من ثقلى علىهم . استمرت ياسمينه تتقيأ. يبدو أن العدوى انتقلت إلى فَرَح. كدت أشعر أنا أيضا بمثل ذلك، أدرك أكثر فأكثر كم أنا سخيف. كيف أثقلت هكذا على هذه الأسرة دون حساب يذكر؟ فلاح أنا ما زلت لاأفهم فى الأصول الباريسية، ولاحتى القاهرية. لا فائدة. هكذا أزاحمهم وأعطلهم وأربكهم. لا، ليس شوقا هذا، ولا وُدّا، ولا شيئا. هو تصرف مصرى ريفى سخيف وقبيح. ياه!
وصلنا باريس وأمرت صديقى بإلحاح ألا يوصلنى إلى الفندق الذى تعوّدت أن أنزل فىه حتى يتفرغ لأحوال أسرته، وغثيان، ثم قئ ابنتيه. أسمّى هذا الفندق: فندقى، أضيف ياء المتكلم إلى أى مكان أْعمل معه علاقة ولو بضع دقائق، هذا شارعى، وتلك حديقتى، وهذا فندقى، فندق متواضع ذو نجمتين، و ذكريات كثيرة كثيرة، جاهزة وحاضرة، أنزلنى صديقى بالقرب من “ميدان إيطاليا” فتنفست الصعداء، حقيبة الظهر على ظهرى، والمظلة ضاعت فى الطائرة، ويداى حـرتان تتمرجحان حولى حتى كدت أرقص وسط الأشجار العريقة الرائعة طوال شارع “أراجو”.
ينغص على شعورى بما ألحقته بهذه الأسرة الصغيرة هكذا،وخجلى مما فعلت،
أتوقف عن النعابة ، نصف ساعة بالتمام سائرا أهز ذراعىّ على الآخر وكأنى أرقص، وصلت أخيرا إلى ميدان الجوبلان، وابتسمتْ باريس فى سرّها، (نظرت إلىّ نظرة إهلاسا – سرّا ولم تعلم علىّ باسا!!)، وكأنها انتصرت علىّ فى النهاية. شعرت أنها دبّرت كل هذا الحرج حتى لا أتركها إلى رين كما كنت مقررا. مثل الزوجة القديمة المدربة التى سمعت بنية خطبة زوجها فدبّرت مكيدة حتى تحتفظ به (القديمة تحلَى، وباريس ليست وحلة)
فى الناحية المقابلة للفندق مباشرة يوجد المقهى الصغير الذى كتبت فىه قصيدة “الجوبلان” تصفهما: كيف التقيا وكيف تناجيا، وكيف تلاثما، وكيف انصرفا، تلك القصيدة التى أنهيتها بزغم أن مثل هذه الحرية هى نوع من الانتحار، أشعر الآن أن هذه القصيدة تدخّل سافر فى حرية أسيادنا هؤلاء، لو ضبطتْها منظمات حقوق الإنسان سوف يحاسبونى حسابا عسيرا.” أفرِج عن الضحايا تنتحر”. لا يا شيخ. البديل الذى تقترحه بقصيدتك أن نظل محتفظين بالضحايا فى السجن خوفا عليهم من الانتحار، هذه جريمة أكبر من ضرب العراق!! “ماشى”!
تذكرتُ المقهى الأحمر على الناصية الأخرى. هذه هى نهاية شارع “أراجوا” ليبدأ شارع “سان مارسيل”(امتداد).
تذكرت أيضا كيف أردت أن أغيّّر”فندقى” فى الزيارة السابقة لأسكن فى فندق آخر لمحته فى شارع سان مارسيل لأوسع دائرة أصدقائى من الأمكنة. العِشرة لم تهن وفضّلت “فندقى. العادة وولع الأمكنة يحولان دون المغامرة والاستكشاف.
فجأة عاودنى خجلى مما حدث فى المطار، كيف حمّلتُـهم عبء انتظارى هكذا؟ علمت، دون أن أنتبه، أن طائرة البنات وأمهم قد وصلت من القاهرة قبل وصول طائرتى من جنيف بساعتين، صحيح أنهم أوحشونى، وأننى كنت أود لقاء صديقاتى الصغيرات، وأنى لم أكن فى مصر وهم فى هذه الإجازة، كل ذلك لا يبرر أن أفرض نفسى عليهم هكذا.
ابتسامة باريس أخذت تتسع لتخفف عنى، غواية متسحبة. ترحيب هادئ غير ما كنت أتوقع، غير المرات القريبة السابقة،باريس تثنينى فعلا عن هجرها وقضاء مدة إقامتى هذه المرة فى فرنسا فى رين فى الشمال، كيدهن عظيم، فليكن، على عينى يا ست الكل: سوف أبقى فيكِ ومعكِ هذه الأيام، لن أثقل على هذه الأسرة رغم شوقى لصديقاتى الثلاث، يكفى هذه الأسرة الجميلة ما أزعجتُها به، لن أذهب إلى رين، لن أذهب إلى الريف فى الشمال، لن أترك حقائبى فى الأمانات، بل إننى من فرط السماح الذى حلّ علىّ فجأة ، ومن حبكة مناورة باريس لاسترجاعي، قررت أن أمد إقامتى فىها باريس أسبوعا . أسبوع وحدى جدا، مؤتنسا بى، وبها، بناسها، وزوارها، وأمكنتها، ورائحتها، وريحها، وروحها، ليكن.
أنا لا أذهب لملاهى الشانزلزييه، وشبعت وجبات شهية، وخدمة فائقة حين كنت فى مونتريه فى الأيام القليلة الماضية، ثم إنى لا أدخل متاحف. الــلوفر نفسه لا يغرينى مثلما تجذبنى المارة والتجمعات حوله، أنا لا أصاحب فى السفر إلا الخُضرة، والجبال والشوارع المرصعة بالحجارة القديمة، والأرائك الخالية فى الشوارع العامة، والناس الغفل فى صحوهم وقصفهم.
الكتاب الذى حضرت أسرق له أسبوعا اختـَفـَى فى ظلال هذه الروائح والذكريات، أحسب أنه من السفه أن أقيم فى باريس يوما أو عاما لأحبس نفسى فى حجرة أكتب فىها خمس عشرة ساعة، أستطيع أن أفعل نفس الشئ فى بلدى دون سفر.
حين صدر قرار واقعى أن تأتى الكتابة فى المقام الثانى واجهنى احتمال لا معنى له يقول: ليس عندى ما أعمله هنا. كذا ؟ “أهكذا”؟
قررت أن أسترد حقائبى من الأمانات فى المطار فورا ما دمتُ سوف أبقى وحدى فى باريس، اصطحبنى صديقى د. رفيق بعد أن اعتذرت له عن السفر معه إلى رين، كان قد اطمأن إلى وجود الحجرة التى يمكن أن أستأجرها بالقرب منه فى رين، وتعجب كيف عرفت أن هذا ممكن وأنا لم أذهب إلى رين أبد.
قال لى ونحن فى طريقنا إلى المطار إن العلاقات التلقائية والحقيقية هنا تزداد صعوبة، وأنه لم يعد أحد يبذل جهدا أو يعمل حركات لـلحصول على صديق أو صديقة، وما على الواحد إلا أن يعلن فى الصحف عن حاجته وشروطه ليحصل على ما يريد. ثمة أبواب فى الصحف خصصت لذلك، كما أن صحفا بأكملها تصدر لذلك. هذه الأبواب وتلك الصحف تعلن عن المواصفات المطلوبة، مواصفات التى تريدها (أو تريده) ثم يتم الذى منه. والذى ليس منه. وثمة مكاتب لها أرقام تليفون. ويا بخت من وفّق رأسين فى الصداقة. كنت قد قرأت عن مثل ذلك فى أمريكا أثناء رحلة “الصباحية” إلى ابنتى فى لوس أنجلوس. قلت لرفيق: وما الجديد فى هذا؟ قال: نشأتْ مؤسسات جادة لتنظيم هذه العلاقات، وأيضا مكاتب نصب لتزييف وترويج تلك العلاقات، ثم سـَرَى عُرفٌ يُـقَـنـن هذه العلاقات التى أصبح لها قواعد وطقوس، كما أن لها سماسرة وعمولات، وتسمّى هذه العلاقات بالعلاقات “ذات الصبغة الزواجية” maritalement، ويترتب على هذه الصبغة حقوق وواجبات والتزامات وما شابه، قلت له: “أليس هذا هو الزواج بعينه”، ألا يتم كل ذلك فى علانية وتسجيل أحيانا؟ قال: “نعم. . . . ولكن… .
خذ مثلا: إن هذا النظام معفى من مسئولية الأطفال، والتَّرك فيه أسهل من الطلاق، والتعدد سهل أيضا فى بعض الأحيان، وكل شى ء جائز ما دام مدرجا فى اتفاق سابق. كل شئ بمعنى كل شئ فعلا. هناك إعلانات يعلن عنها اثنان (رجل وامرأة- صديقان أو خليلان أو كالزوجين) يعلنان عن حاجتهما لاثنين آخرين مثلهما ليتبادلوا العلاقات كل، أو بعض، الوقت، بتخصيص أو دون تخصيص. وهناك وهناك وهناك إلى آخر ما هنالك، بحسب قدر الحرية مضروبا فى نوع المزاج. . . . ، (فظُنَّ ما تظن أنت أيها القارئ من توافيق وتباديل جنسية وغير جنسية، واعلم أنك لم تشطح مهما شطحت) .
قلت: الله أكبر، خلّنا فى المسألة الأعم، وهى الصداقة الحميمة جدا (والمؤقتة حتما) عن طريق الإعلان، أنا أرى أنها مناسِبة لمن هو مثلى جدا، وأنها زواج بشكل ما، وليست مجرد “كنظام الزواج”، أليست عرضا وقبولا، مع العلانية، إن كل ما يعيبها دينيا هو نيّة الانفصال ابتداء”، فقال: “إن ذلك بالضبط هو ما يميّزها، وأحيانا يعيش اثنان معا عشر أو خمسة عشر عاما ثم يقرران الزواج”، تذكرت مارادونا الذى تزوج بعد أن أنجب ثلاثة زطفال على ما أذكر.
رحت أتأمل الأمر بعمق وأفهم مبرراته حتى لمن هو مثلى، فطول عمرى لا أفهم كيف يكذب شاب على فتاة، وبالعكس، حتى يعلّقها أو تعلّقه باسم الحب، ثم تبدأ علاقة ناقصة موقوته، أو كاملة ومغتربة، وأنت وبختك.
على الجانب الآخر : أنا طول عمرى لا أستطيع حتى مجرد تقمّص إنسان يدفع لا أدرى كم. . ليقذف لا يدرى ماذا. . . فى ما لا يدرى أين، تجارة الهوى هذه كذب وامتهان للشارى والبائع على حد سواء.
النظام الجديد عن طريق سماسرة تجارة ما يشبه الزواج هكذا، وعلى عينك يا تاجر، قد يكون أكثرملاءمة لمن يحاول الصدق، وأنا أحاول الصدق والله العظيم” . شرطى أن ترانى تلك التى سوف أعلن عن حاجتى إليها، ولها بعد ذلك كل ما تطلب. ما أسهل هذا الشرط لدرجة الاستحالة، مرّة قلت هذا الشرط لإحدى تلميذاتى فإذا بها تقول ، “وهل ستحتمل ؟”، فاكتشفت أننى أخدع نفسى، وأننى أريد من ترانى رؤيتى لنفسى، وليس على حقيقتى، ما هى حقيقتى ؟ لا أعرف. خلّ الطريق مستور. شكرا يا ابنتى. نبّتهتِـنى.
هذا النظام – كنظام الزواج – يعلن صعوبة العلاقات الزواجية، وفى نفس الوقت صعوبة التحايل عليها،
قلت لرفيق ونحن فى طريق المطار: كله صعب، لأن الحياة هى نفسها صعبة.
قارنت ذلك بما ما ظهر مؤخرا عندنا مما سمّى “زواج المسيار”،ولعل هذا اللفظ بالذات (المسيار) ينطبق أكثر ما ينطبق على الرحالة دون غيرهم، قلت فى نفسى: لم يعد ناقصا للسيدات، فى مقابل زواج المسيار للرجال، ولعلمى المُضمر بنهاية الحوار المتعدد الأوجه هذا سمحتُ لخيالى بالشطح المناسب، ثم رحت أفكر فى هذه المكاتب التشهيلاتية لـلعلاقات العاطفية والجسدية، ربما يكون أقرب تشبيه لها هو أنها “شركات توظيف الأحوال” قياسا على شركات توظيف الأموال، فكما أن الأخيرة كانت تنافس البنوك الرسمية للاستيلاء على رؤوس الأموال، فإن “شركات توظيف الأحوال (العاطفية ومتعلقاتها)” يمكن أن تنافس المؤسسة الرسمية (الزواج) للاستيلاء على رؤوس الأمزجة والذى منه. والله ما أنا عارف. خفت أن يكون أشرف السعد الذى هرب فى بدايات المشاكل اياها إلى فرنسا بالذات، خفت أن يبلغه أمر هذه التجارة الجديدة وهو هنا فى باريس، فيسهم فىها تمام التمام بما يزيد من حسناته، ويطيل من لحيته، ويزيد من رصيده جميعا، وهو لا يحتاج لأسلمة هذا المشروع الإنسانى (جدا) إلا لفتوى بالمقاس، ومسئول كبير نقتدى به، وبعض عطايا البركة.
………………
………………