نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 30-4-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6451
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]
الفصل السادس
مسافر رغم أنفه (10)
يا جّدنا المصلوب زهواً يحصد الزمن.
قد صار محظورا علينا ننقش القلوبً فوق هامات الحجر.
فى عصرنا هذا أيا جدّى العزيز
لا تطلع الشموسُ دون إذنْ.
لا يستباح للكلاب الآثمة – أمثالنا – أن تسكن العرين.
ما عاد يجرؤ وعينا أن يفخـترْ :
أنـّا بشر.
الاثنين 21/6/1993
…………………..
………………….
يا جماعات يا دينية : إثنين وإثنين أربعة، فماذا أنتم صانعون؟ ؟ إخص على بعدكم عن الله، ألم يعلّمنا الطائر “لير” أن أربعة وأربعة ثمانية، ماذا تريدون بعد هذا التحديد البديع منى أو من الطائر “لير” الذى يعلن ببساطة أن اثنين واثنين أربعة، حتى أن الستة عشر هى مجموع ثمانية وثمانية، تريدونى ألا أرى الله هنا فى وجه هذه السيدة النمساوية، ولا فى صوصوة الطيور فى الأفق أو فى حجارة هذه الكنيسة وفى قلبى معا، أعذركم، وأدعو لكم، وأدعو لى معكم بالهداية جدا،
لا بد للإكتئآب القومى الذى نعيشه من نهاية، حتى لو لبس دعوى التدين القابض المجمّد، يا رب اشرح صدورنا إليك، إليهم، إلينا.
نزلت الدرج عابرا خط التليفريك دون خوف أصلا هذه المرّة. نزلت لأجلس على أريكة فى الساحة المجاورة للكنيسة المطلة على الدنيا. كان هناك رجل وامرأة يتحدثان بما يشبه كركرة قلّة متوسطة الفتحات. عرفت أنهما يتكلمان الألمانية، بدرجة أهدأ مما كان دفق الكلام القوى من ألمان مخيم جنيف منذ عشر سنوات.
سألت الرجل وهو يمر بى، سألته بالفرنسية إن كان “هنا” هو نهاية مطاف المدينة القديمة. وقبل أن أكمل جملتى قال نو “NO” وقدّرت أنه لم يفهمنى، فقلت له ماذا عن اللغة الإنجليزية، فكرر أنه، “نو”، ولم أعرف إن كان ذلك الصوت “نو” يعنى “لا” أم غير ذلك، ثم تذكـّرت أن “نو” هذه موحّدة فى أغلب اللغات (الفرنسية ـ الألمانية ـ الإيطالية ـ الإنجليزية) فى حين أن “نعم” تختلف من لغة إلى أخرى، فابتسمت، وتصورت نقاشا مع إبنى الباحث فى سيكولوجية اللغة.
انصرف الرجل وحده حتى كدت أظن أن الرجل ليس معه أحد. لكن سرعان ما اقتربت السيدة التى ذكرنى وجهها بصنعة الخالق البديع. اكتشفت أنهما معا، ويبدو أنها سمعت طرف محاولاتى مع الرجل، فاقتربت منى متبرعة ودار حديث قصير بالإنجليزية. أنا من مصر، وهى نمساوية لا ألمانية.
قلت تتكلمون الألمانية هناك؟ فقالت بما يشبه الغضب، نحن من النمسا، وتذكرت أننى لم أزر النمسا رغم الإغراءات الكثيرة التى لاحت لى أثِناء إقامتى فى باريس وتجوالى بالعربة المرّة تلو المرة ما بين هولندا وبلجيكا، وألمانيا، ثم بين أسبانيا وسويسرا، فلماذا لم أزر النمسا أبدا؟ ولو من أجل خاطر عيون المأسوف على سيرته سيجموند فرويد، قلت لنفسى إذا كان فى العمر بقيّة، وفى الركبتين ثقة، فلتكن ضمن قادم الرحلات.
قلت لها عددكم فى النمسا قليل لكن عطاءكم كثير،. فابتسمتْ، فأكملتُ خشية أن تتصور أنى سأطلب منهم عطاء تسهم به مع صندوق النقد الدولى فى حل أزمتنا الاقتصادية. أكملت أن فرويد كان نمساويا، وأن التحليل النفسى نشأ هناك وترعرع، وأن عطاء التحليل هو الذى أعنى. لا أظن أنها تابعت شيئا فقد انتقل الحديث إلى أنهم ثمانية ملايين وأننا ستون مليونا غير ساقطى القيد.
فى طريق عودتى عرجتُ إلى الميدان الذى كنت فيه أمس والذى حال حرصى على عدم التأخر عن السائق عن التعرف على تفاصيل أركانه، وترحيب مقاهيه، وحوار عاملات البيع فيه، كنت مشغولا بخبرالصباح الخاص بمحاولة اغتيال بطرس غالى ومبارك فى نيويورك، والذى لم أستبن تفاصيله بسبب اللغة ومفاجأة الخبر. وجدت مكتبة على رصيفها، بين الصحف، صحيفة ” الحياة ” العربية اللندنية. شئ طيّب هذه الحركة الصحفية العربية فى الخارج، لولا الشك فى مصادر التمويل وحقيقة الدور الذى تقوم به تلك الصحف، دخلت إلى المحل وقال لى راعى المكتبة أن ثمن الصحيفة ثلاثة فرنكات سويسرية (حوالى ثمانية جنيهات مصرية). لم أجد معى سوى فرنكين، قلت له ذلك، فقال ما عليك؟ هل أنت ذاهب بعيدا؟ قلت هنا أو هناك، قريبا. قال: خذها ثم نرى فيما بعد. أعطيته الفرنكين.
تصوّرت أنه مثل بائع الصحف الذى كان يعامله والدى حين يتفق معه على أن نقرأ كل الصحف والمجلات مقابل “اشتراك شهرى”، فيما عدا الاحتفاظ بصحيفة واحدة، وأظن أن “الأبونيه” كان ريالا كاملا فى الشهر، غير ثمن الصحيفة (خمسة مليمات)، وكنا نعانى الأمرين حتى نتمكن من قراءة المجلات التى تأتى وأغلب صفحاتها مغلقة من أعلى أو من جانب، مما يحتاج منّا أحيانا إلى إتقان سلسلة من الحركات البهلوانية أو حركات اليوجا حتى نتمكن من قراءة بعض موضوعات المجلات، أو حتى مشاهدة الصور، دون أن نفتح الصفحات الملتصقة، ولم يمنعنى ذلك أنا أو أخى من أن نقطع صورة لسوزان هيوارد أو إستر وليامز نحتفظ بها بين طيّات كتاب الأحياء. وكان والدى يرى أن هذه العملية ـ القراءة بالاستعارة ـ هى من حقنا حلالا زلالا، لأن الصحف تصدر لتــُقرأ، ونحن بذلك نحقق الغرض الاساسى من صدورها، أما الأغراض الأخرى وهى الأهم عند والدتى، مثل تلميع نحاس وابور الغاز أو فرش الأرفف بكرانيش مزركشة من ورق الصحف كنت شديد الإعجاب بها، فيكفى لتحقيقها تلك الصحيفة الوحيدة التى نحتفظ بها، ولم يكن الأمر يتوقف عند هذا الحد، فما كان يتراكم من صحف بعد ذلك ولو بعد ستة أشهر كان يبيعه والدى بالأقة لمقلة لب، لم يكن والدى بخيلا لكنّه كان ناصحا .
أخذتُ الصحيفة من الرجل وأنا لست مستوعبا تماما مغزى تساؤلاته عن مدى جولتى وهل هى قريبة أم بعيدة، أعطيته الفرنكين والودّ ودّى أقول له خليها باثنين فرنك “جدعنة”، فأهرام الجمعة عندنا قدرها مرّتين ونصف وهو بربع جنيه (لاحظ تاريخ هذا السفر). انصرفتُ ظانا أننى سأقرأ ما أريد مقابل الفرنكين (مثل اشتراك أبى) ثم أعيد له الصحيفة بعد قراءتها. فى القهوة المجاورة قرأت الصحيفة كلها حتى الأخبار التى لاتهمنى كى آخذ حقى ما دمت لن أحتفظ بالصحيفة رغم حاجتى إليها لزوم الوظائف البيولوجية التى حصل لها مع قراءة الصحف ارتباط شرطى، فأمعائى تأبى أن تطلق سراح ما تمسك به إلا بعد أن تطمئن على أخبار العالم، وتبتسم مع مصطفى حسين وأحمد رجب كل صباح ، وتكشرأحمد يوسف القرعى على تحمّله بعض ما يضطرلنشره،. أخذت حقى كاملا من الصحيفة الإيجار، فى حين أنها لو كانت ملكا خالصا فربما كنت اكتفيت بعناوين الصفحة الأولى ظنا منى أنى سوف أعود لها فيما بعد.
لم يحضرالنادل مبكرا وأنا أعلم أن بعض المقاهى تتطلب أن تذهب أنت لتأتى بطلبك شخصيا، شئ أشبه بنصف نظام الخدمة الذاتية:”ساعد نفسك”، وبما أن الجلوس على رصيف المقهى هو هدفى الأصلى وليس تناول شئ بذاته، فقد حققتُ هدفى دون حرج أو غرامة، ومن البديهى ـ مثلما هو الحال عندنا أن الجلوس على مقاعد أى مقهى هو مشروط بالطلب، “.. اللى حايطلب راح يقعد، واللى ما يطلبشى يبعد، طب يا للا بينا يا مِسعد شارع الترماى”، لكن النادل حضر، وسألته: تقبل الأميريكان إكسبريس، قال طبعا، فطلبت قهوة، فقال الحد الأدنى للتعامل بهذا الأمريكانى السريع هو كذا فرنك، فاستأذنت منصرفا، لم تكن معى عملة سويسرية جاهزة، وكنت قد شبعت جلوسا وحوارا صامتا فى الفترات التى استطعت أن أهرب فيها من إلحاح سطور الصحيفة.
فى طريق عودتى قلت لنفسى من أين لهذا الرجل بائع المكتبة أن يثق بى وأنا أستطيع أن أعود أدراجى دون المرور عليه، لكن ذلك لم يكن أبدا ضمن ما تعلّمته من أبى، حتى الصور التى كنا نقطعها من بعض المجلات خلسة كنا متأكدين أنها ليست سرقة لأنها لن تنقص المرتجع شيئا. مررت على المكتبة وأرجعت الصحيفة. ظهر ظل دهشة على وجه الرجل، فألهيت نفسى بشكره مجددا، وهممت بالانصراف، إلا أنه نادانى وأعطانى الفرنكيْن معا. فهمت أنه يبدو أنه كان علىّ أن أحضر الفرنك الباقى لا الصحيفة، لكن وجه الرجل البشوش لم يوصّل لى أدنى عتاب. ولإزالة الحرج بعد أن كدت أقول له خلّ يا رجل لا يوجد فرق، سألت عن كتاب “تاريخ الجنون” لـ”فوكوه” فى العصر الكلاسيكى، فذهب الرجل بمنتهى الجدية، وأخرج كتابا كبيرا كدليل التليفونات وأخذ يبحث عن الإسم، واعتذر أنه ليس عنده، وسألنى إن كنت أريد أن يدلنى فى أى مكتبة أخرى يمكن أن أعثر عليه، فنبّهته أننى أريد أن أعثر عليه بالإنجليزية، فاعتذر أن فهرست كتب بالإنجليزية ليس فى متناوله الآن.
ما كل هذا التحضر والجدّية ؟ ما كل هذا؟ مقابل ماذا؟
شكرا يا أهل الطيبة والإتقان،
ورحمك الله يا أبى رحمة واسعة.
انتهت مهمتى والحمد لله فى مونتريه. تم تحديد موعد السفر غدا إلى باريس. أخيرا سأخرج من القفص الذهبى . قفص مفتوح الباب ومع ذلك فسجنه أحكم.
لا خوف أن تطير الطيور من باب القفص المفتوح،
طيور بلا أجنحة ، ولا وِجهة .
غدا أهرب بجلدى داعيا لهم بالسلامة .
………………
………………