الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل السادس “مسافر رغم أنفه” (8)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل السادس “مسافر رغم أنفه” (8)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 16-4-2025

السنة الثامنة عشر 

العدد: 6437  

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1] 

الفصل السادس

مسافر رغم أنفه (8)

يا جّدنا المصلوب زهواً يحصد الزمن.

قد صار محظورا علينا ننقش القلوبً فوق هامات الحجر.

فى عصرنا هذا أيا جدّى العزيز

لا تطلع الشموسُ دون إذنْ.

لا يستباح للكلاب الآثمة – أمثالنا – أن تسكن العرين.

ما عاد يجرؤ وعينا أن يفخـترْ :

أنـّا بشر.

الاثنين 21/6/1993

………………

……………….

الجمعة 25/6/1993

الفجر هنا أوسع،

لست أدرى كيف، فأنا فى هذه الأيام التى رضيت فيها أن تكون حركتى مثل عبّاد الشمس (اللهم إلا من تجربة المشى أمس الأول) توثقت علاقتى بكل أطياف السماء والأرض والبحيرة، طيف الفجر وطيف الشفق، طيف الكهف وطيف الجبل، فى هذه الأيام المـُشـَرْنقـَةْ عشت فى المساحة بين الخيط الأبيض والخيط الأسود من الفجر، حين كنت صغيرا أحاول الصيام من سن السادسة، وأفخر به، وأهرب منه، وأتصنّعه، كدت أمسك بخيط أسود وخيط أبيض فى الظلام لأسمح لنفسى أن آكل وأشرب حتى أتبين الفرق بينهما. كان يؤرقنى حرف “من” فى قوله تعالى “.. من الفجر”، لماذا “من”؟

علاقتى ببعض ألفاظ القرآن علاقة عيانية مباشرة. أول ما سمعت   أبى وهو يقرأ “يا يحيى خذ الكتاب بقوّة”،- كنت طفلا فى الرابعة -. رحت آخذ منه المصحف مستجمعا قوّتى مثلما يثنى حفيدى الآن ذراعه ويشد على عضلاته قائلا ” شوف أنا قوى ازاى”. ضحك” والدى وربـّت على كتفىْ، ونادرا ما كان يفعلها.

دائما أقول إن التربيت أفضل من إسهال القبل التى نـُغرق بها الأطفال حتى نغمس وجوههم فى عسل صناعى. والحضن الصامت الذى يوصل نبضات القلب ويسمح بإحاطة دفء الصدر أن ينساب دون حاجز ودون إذن هو  الأفضل من الاثنين. أقول إننى هنا، وأنا أعيش فى هذه المساحة الممتدة من الفجر، أُشرق مع الشروق ولا أغرب مع الغروب، وأتذكر بيتا الشعر اللذان كان يرددهما أبى عن الشمس بين تبلج وتفرج، ووجه الحسناء التى كملت محاسنها ولم تتزوجِ، هذه الصورة اهتزت حديثا، فالبنات لا يتزوجن إلا قرب التعنس، هذا إذا تزوجن أصلا، تُـرى هل هذا العزوف يفسر حلّ الاستكفاء الذاتى أو الاستغناء النسوى محل الرجال “الأَىْ كلام”.

 حين كنت عند صديقة زوجتى الاسبانية “كامينو” فى ألكالا (القلعة) إحدى ضواحى مدريد، انطلقت هذه الصديقة تعطينا درسا فى فائدة عدم الزواج للبنات خاصّة، طبعا لم أفهم، ولكن يبدو أن ابنتى فهمتْ، والحمد لله أنها لم تقتنع بما فهمتْ إلا مدة محدودة، تلكأت ابنتى هذه كثيرا فى استقبال رسائل العرض حتى رُعبتُ من احتمال فوتها القطار، لكن الله سلم. كانت هذه الصديقة الأسبانية تصيح وهى لا تكف عن الكلام: لماذا؟ لماذا يتزوج البنات ويفقدن حريتهم؟ لم تكن تعنى تحديدا أى شئ مِن الذى يخطر ببالك الآن، لكنّها كانت تقفز صائحة كلما ذُكرت سيرة الزواج كمن لدغتها عقرب فى مكان حسّاس.

فى هذا الجو هنا فى مونتريه، بدت لى الطبيعة مساحة مجسدة، هذا الفجرالممتد أتجول فيه ـ جالسا ـ هو لا يمرّ بى، بل أنا الذى أتجول فيه. أتجول فى الفجر وأتبين الخيط الأبيض من الأسود منه. هذا التشرنق الحالى الذى لم أعهده من قبل فى رحلاتى السريعة الإيقاع كان فجرا خالصا. الركن الذى كنت أسعى إليه دائما أبدا ثبت أنه موجود بداخلى طول الوقت، أستطيع أن أنصبه وسط أى زحام، أدخله فى جوف الليل أوفى عز الظهر، حين يطلع علىّ الفجر ولا أريد أن أغادره أستعى الليل إلى داخله،  حتى طلوع الشمس لا يستطع أن يقتحمه. ياه !! فلماذا كان كل ذلك الإلحاح  من قبل .هل الحل هو أن يعثر كل منا على ركنه بداخله ليطمئن أنه يمكن أن “يكون” وسط كل الناس دون أن يقتحمه أحد دون إذن.

 أكتشف أيضا أن الفجر أحلى من الشروق.

 كانت شرفتى على شاطئ هذه البحيرة فى حضن الجبل فجرا خالصا.

قام التليفزيون داخل الحجرة بالواجب فى نقل العالم، كل العالم، إلىّ، والإرسال المحلى فى سويسرا باللغات الثلاث، حسب التنويعات العرقية الثلاث، وأنا أحب أن أشاهد الصور الملونة فى التليفزيون أكثر من الاستماع للكلام، حتى فى مصر، وبلغتى الجميلة، يؤنسنى فى رحلتى الأسبوعية إلى مارينا أو الإسكندرية أن أفتح التليفزيون على أى صور ملونة تتحرك، ثم أنطلق فى الكتابة أو القراءة دون أن أسمع شيئآ. تكفى الصور الملونة، بل إنهم بعد اختراع ما يسمى الضابط عن بعد remote control  أصبح التليفزيون هو المنوم العظيم لى من خلال متابعتى لهذه الصور المتلاحقة بلا صوت، ثم هـُبْ، تعيش التكنولوجيا العصرية أحدث منوم عن بعد، تصبح على خير.

هذا الصباح حمل لى التليفزيون خبر حريق فى مستشقى الأمراض العقلية فى”رين”  فى شمال فرنسا، حيث يعمل زميلى- صديقى – تلميذى – د. رفيق حاتم الذى حادثته من مطار شارل ديجول.

أسرعتُ إلى التليفون أطمئن عليه. كان نصف نائم. طمأننى أنه على قيد الحياة، وأن المستشفى ليست مستشفاه، وإن كانت قريبة منه، وأنه يعمل فى عيادتها يوما واحدا فى الأسبوع، فاطمأننت، وإن كان الحادث قد ترك فىّ ما ترك.

تيقنت من مشروعية مبررات خوفى بعد أن علمت أن هذا المستشفى كان به مرضى مكبلين بالعقاقير إياها لدرجة أنى تصورت أن بعضهم لا يستطيع الهرب من الحريق،  اللهم لا علينا ولا حوالينا.

طلبت من صديقى الذى كنت أزمع زيارته فى رين أن يحجز لى حجرة فى الريف الفرنسى الشمالى عند أسرة فلاحة أقضى فيها أغلب إقامتى فى فرنسا هذه المرة. أنا أحتاج إلى نقلة شديدة إلى أقصى الجانب الآخر، ياه !! أين اكتشافى أننى تخلصت من هذا الجذب الملح إلى الركن القصى، وأنه فى داخلى وأن هذا الجذب إلى الركنٍ فى الخارج لم يعذبنى شيئا، وأنه وأنه..؟؟  يبدو أننى مازلت غير مطمئن إلى مصالحة باريس. الخصام السابق أدى إلى أن يختزل باريس إلى الطقوس المعادة، والوجوه المتلفتة إلى غير وجهة، وِالخبز الذى أصبح يصنّع فى مصر فلم أعد أشتاق إليه. ليكن ريف فرنسا فى الشمال هو رحلتى إلى داخلى أكمل بها شرنقتى لعلى أخرُجُ فراشة حقيقية قادرة على البيض من جديد.

استبعدَ صديقى على الهاتف أن توجد مثل هذه الحجرة التى وصفتها له متاحة للإيجار حيث يقيم. أكدت له (لست أدرى كيف) أنها متاحة، ولكن هو الذى لا يعرف لأنه لم يسأل أصلا، وأنه متى سأل عرف، وقد سأل وعرف. حجز لى بصفة مبدئية، وأخطرنى هاتفيا بذلك.

 بلغنى أيضا فى هذا الفجر من التليفزيون مسألة الجماعة السودانيين الذين أمسكوهم فى نيويورك فى اتهام بتخطيط مؤامرة لقتل بطرس غالى وحسنى مبارك وآخرين (حسب القرعة). كانت الأخبار المعادة والخطيرة طول الوقت تحكى عن حادث رشوة مباراة مارسيليا، وعن جريمة البوسنة، ثم ضرب العراق تأديبا على محاولة اغتيال بوش. الله يخرب بيتك يا كلينتون يا ابن الهبلة، وكذلك يا صدام يا حسين فى يوم ليس له فجر.

أشرت سالفا إلى علاقتى بالأخبار وإذاعات العالم حين أكون فى السيارة، وهذا أمر يزعج زوجتى لدرجة العزوف عن الفسحة أصلاً. ذلك أننى كلما خرجت معها للفسحة، أو نكون على سفر، تجد مؤشر مذياع السيارة يتحرك من لندن إلى مونت كارلو إلى صوت أمريكا وكأننى سأمسك بالخط الساخن لأعطى تعليماتى حتى لا تقوم الحرب العالمية الثالثة. فتهمس زوجتى همسة أكثر اختراقا من صيحة استغاثة أفهم منها أنها تتساءل : هل هذه فسحة أم مؤتمر صحفى عن أحوال العالم السياسية. كيف نستطعم العـَشـَاء بعد هذا الدم الذى سال داخل العربة سواء فى البوسنة والهرسك أم فى الضفة أو غزة أم فى الصومال أم فى الفلبين. تجرجرنى هذه الأخبار ـ رغم كل دفاعاتى ـ سحْـلاً على وجهى وأنا متمدد فى مساحة الفجر.

كيف يجتمع الألم الحقيقى بالمشاركة مع هذا التشرنق الرائق فائق اليقظة؟

تقدّم الفجر الخالص ليصبح فجرا متداخلا فيما هو صباح.

 أضع نفسى فوق ساقىّ شاكرا لهما تحمّلى، فتبادلانى ثقة بثقة. لا آخذ مسكنا ولو من بابا الاحتياط. دليل جديد على الثقة. انطلقتُ مبكرا قبل ميعاد استيقاظ السائق إلى وسط المدينة. كنت قد ذهبت أمس خلال عودتى إلى ميدان المحطة أبحث عن خوذة الموتو، وعرفت المكان لكن المحل كان مغلقا. قلت: أول ما أفعل هو أن أذهب أشترى هذه الخوذة، ولم تأخذ المسافة من الفندق إلى وسط المدينة أكثر من عشر دقائق. ما إن اقتربت من شارع المحطة حتى وجدت ما أعرف أن حدسى يهدينى له دائما، ها هى اللافتة تقول “إلى المحطة”، وتحتها مباشرة إلى “المدينة القديمة”، هكذا: شعرت أننى فى بيتى الذى ينتظرنى فى كل مكان. نظرت إلى ركبتىّ واستأذنتهما أن يكونا فتيّتان بالدرجة الكافية، وأن يتمّا جميلهما هذا الصباح، فهمسا لى أنهما رهن إشارتى على شرط أن.. .. ..، فسارعت بالموافقة دون أن أسمع شروطهما. انحرفت يمينا، وفى الطريق وجدت ربوة أعرفها (لم أرها أمس طبعا فى السيارة الفخمة) بها حديقة صغيرة أعرفها أيضا. ظاهرة الأُلْفة هذه هى الأخرى تعتبر عادة عرضا نفسيا، ومع ذلك فأنا فخور بائتناسى هكذا بكل مالا أعرف وكأنه منّى وفىّ من قديم، لتكن ظاهرة سبق الرؤية Deja vu، والحديقة فيها أرائك محدودة كما تعودت. هى هى. جلس كهل قصير على إحداها فى شمس هذا الصباح الحنون. قلت: “نادانى”.

عرجت إليه، وجلست، جلسنا، صامتين متحاورين. سمحت للشمس أن تتخللنى أسوة بجارى، حتى وصلت حرارتها إلى درجة يسهل معها أن نكون موصلين جيدين بعضنا لبعض. أليس البشر مثل المعادن، وأحيانا مثل الأوانى المستطرقة يحتاجون لدرجة من الحرارة ومسالك مفتوحة، حتى يسخن التواصل بينهم فيرتفع إلى نفس المستوى الذى يسمح أن يصبح الكلام كلاما حقيقيا وعلاقات، فنصير بشرا؟ إننا حين انفصلنا عن الشمس والبحر والزرع والجبل جمدت خلايانا فى “فريزر؛ الكلمات والنظريات والأشياء المنفصلة عنا، المهم (تكررت هذه الكلمة كثيرا ـ المهم ـ ولن أرجع عنها حتى لو أفسدت البلاغة!!!) وصلت حرارتنا ـ جارى وأنا ـ إلى ما يسمح بالتواصل فقلت له صباح الخير، فرد عمت صباحا، وسألته كيف الذهاب إلى المدينة القديمة؟ فأجاب إننا على حافتها، وإن أى شارع صاعد فى هذا الاتجاه يوصل إليها. تماديت وسألته إن كان يتمتع بالشمس فقال طبعا. عقّبت : هذا المكان هادئ فعلا، فأجاب: وأنا معتاد الجلوس فيه فى الصباح المناسب. “تعرف أنى غريب” ـ “يبدو ذلك” ـ “وأنت؟” ـ “أنا مولود هنا” ـ “تغيرت الأمور” ـ “جدا ” ـ “خمّن من أين أنا قادم” فنظر مليّا يحاول أن يكون حاذقا، وقال:

 ـ من البرتغال؟

 ـ بل من مصر

………………

………………

ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل السادس: مسافر رغم أنفه (9)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *