نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 9-4-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6430
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]
الفصل السادس
مسافر رغم أنفه (7)
يا جّدنا المصلوب زهواً يحصد الزمن.
قد صار محظورا علينا ننقش القلوبً فوق هامات الحجر.
فى عصرنا هذا أيا جدّى العزيز
لا تطلع الشموسُ دون إذنْ.
لا يستباح للكلاب الآثمة – أمثالنا – أن تسكن العرين.
ما عاد يجرؤ وعينا أن يفخـترْ :
أنـّا بشر.
الاثنين 21/6/1993
………………
……………….
توكلت على الله، وهات يامشى، ساعة، ساعتين، خط السكة الحديد يفصل المدينة عن البحيرة، يعبر الجبل، محطة صغيرة للقطار على الجانب الآخر، قررت أن أعبر إلىها لأختصر المسافة وأرجع قبل أن تحتج ركبتاى. الصبيان والفتيات (حول العاشرة) فزعوا وتصايحوا حين شاهدونى أهم بالنزول للعبور فوق القضبان، ما هذا ؟ هل تصورت أننى أعبرقضيب قطرالدلتا المنفرد والقطار لا يأتى كل عدة ساعات إذا أتى أصلا؟ هل أنا الأستاذ ورئيس القسم الذى حضر إلى سويسرا بصفته هذه؟ لوّحت للفتيات والصبية وكأنى كنت أمزح، اللافتة التى تقول ممنوع تسد عين الشمس، كيف لم ألاحظها؟ منذ متى ونحن نقرأ اللافتات أو نلاحظها؟ منذ متى ونحن -فى بلدنا- ننقد ما هو مكتوب على اللافتة أو غير اللافتة ؟ طبعا ممنوع وهل هذا الأمر يحتاج إلى لافتة؟ لكنها شطارة أهل بلدنا ،رحم الله صالح أفندى ناظر المحطة وسعد افتدى الأشرجى، كانا مسيحين طيبين جدا، أحببتهما بجد، ومازلت.
واصلت سيرى حتى وجدت جسرا علويا طبعا. عدت راجعا من الطريق العام بعيدا عن شاطئ البحيرة. سألت عن الفندق رغم أننى أعرف الطريق إليه مائة فى المائة، مجرد أن تسير فى عكس الاتجاه تصل، لكننى أحب سؤال الخواجات حتى عما أعرف، كل من أسأله يقف، ولا يخاف منى رغم شكلى العربى وغرابة عـَرَقى وبلاء حذائى. كل من أسأله يقف، ويستدير، ويجيب، وينتظر حتى يطمئن أننى فهمت. هؤلاء هم ممثلوا الحضارة الغربية جنبا إلى جنب مع حاملى المطاوى وشاقى الجيوب ورؤساء الدول، لا بد أن آخذ الصفقة على بعضها. تحيا الرقة الغربية. تحيا الدماثة السويسرية.
نظرت فى ساعتى فوجدت أننى مشيت ساعتين ونصف ساعة، الأمر الذى لم أفعله منذ سنوات، منذ أن أصاب ركبتى ما أصابهما. بحثت عن الألم الذى اعتدتُه، والذى خفت منه، فلم أجد له أثرا. هل شفيت؟ ضمور الغضاريف هذا لا يشفى، هذا حَكم السن، هكذا قال لى الأطباء والجراحون معا، إذن ما الذى حدث؟
الذى حدث هو أن الرسالة الآن اتضحتْ، وهى أن هذه الرحلة ليست بالصدفة كما تصورت، وهى ليست رغما عنى كما زعمت، هى رسالة موجّهة، إما أن أحسن الاستماع إليها، وإما ما لست أدرى ـ لم تشفَ ركبى لكننى مشيت ساعتين ونصف ساعة دون ألم، آخر مرة تجرأت على المشى فيها كانت ربع ساعة.
أليس معنى هذا أن الله سبحانه يبلغنى أنه ينبغى علىّ ألا أكون إلا كما صنعنى،
وألا أكتب إلا ما أعتقد وألا أقلد غيرى، وألا أخاف من فقر أو فشل، وألا ألـقـى معاذيرى،….
وألا وألا.وألا .. كنت ما زلت أنوى أن أكتب ذلك الكتاب الثقيل، أو الذى كان ثقيلا، وكان من بين ما وصلت إليه هو شرح عرَض يقال له “ضلال التأويل “Delusional Misinterpetation ، وهو هذا النوع من الضلالات التى يكـتشف المريض فجأة من خلالها دلالات يقينية على غير أساس أصلا، نتيجة لتأويله الخاص جدا لبعض أحداث الحياة العادية. أليس تأويلى لما حدث من مشى دون ألم هكذا،بأنه رسالة من ربى أن كذا وكيت ، وألا وألا .. ، ألا ينطبق عليه هذا التعريف تماما؟ هل يعنى أنى مشيت ساعتين ونصف ساعة دون ألم على الرغم من ضمور غضاريف ركبتىّ وتعرية الأعصاب حولها أننى أحمل رسالة خاصة من ربى؟؟ هل أصابنى مثل ما أصف به مرضاى؟
هذا التفسير الخاص جدا بدلالات رضى الله سبحانه هو أمر طيّب ومفيد. لكننى حين أضعه بجوار مآسى العالم، والمجاعات، وتشريد الأطفال أنتبه أن المسألة فيها حسابات أخرى لا أعرفها، وأن الله سبحانه ليس متفرغا لأمثالى على حساب كل هؤلاء البشر. أستغفره ولا أزيد.
ليكن كل ما قلتُه ليس له أساس من الصحة، لكننى سأجعله صحيحا بما أفعل الآن وما أقرر. فقررتُ أن تمتد الإجازة لغير ما سبب إلا أن أكمل انتهاز هذه الفرصة، فأجعل وجودى المنفرد هكذا لهذه الفترة هو ركنى إياه ، لكنه ركن وسط الناس، ركن سرى، وسوف يريد هو ما أريد.
أليس له عباد إذا أرادوا أراد؟ لا يا شيخ؟!!!.
الخميس 24/6/1993
صدر أمر الإفراج المؤقت من هذا السجن الرائع الذى دخلته بمحض إرادتى بعد أن استسلمت لحكم الصدفة وقهر الاضطرار، أنا الذى أفرجت عن نفسى. كنت قد طلبت من السائق منذ أمس أن يصحبنى إلى لوزان، وجنيف فى التاسعة صباحا، لكنّه رجانى أن يكون ذلك فى الحادية عشرة حيث يبدو أن يومه يبدأ متأخرا، هو نفس؛ البيه” السائق الذى صحبنى من المطار وغمرنى بالأغانى الدينية تهذيبا وإصلاحا. منعت نفسى من أى افتراضات تفسر سهره. وافقت على الساعة الحادية عشرة. سألته عن الوقت الذى تستغرقه المسافة إلى جنيف فقال أكثر من ساعة (وهذا غير صحيح حسب رحلة المجئ، وكما ثبت بعد ذلك). استنتجت أنه يعزف عن تكبد مشقة المشوار والانتظار. أخلاق العرب تغزو بلاد الخواجات. فعدلتُ عن الذهاب أصلا. حولتُ وجهتى إلى وسط المدينة هنا. لا لوزان ولا جنيف. هنا فى مونتريه.
كل أوساط المدن مثل بعضها. كل الفنادق الفخمة مثل بعضها. فلا داعى للترحال لمجرد ذكر الأسماء المألوفة عند الرجوع. أخذنى السائق إلى وسط المدينة، وإذا بى أكتشف أنه لايبعد سوى عشرات الأمتار ، ياساتر يا ربب ، فلماذا هذا الإزعاج والسائق والعربة؟ فصرفته. فضلت أن أكون حرّا.
كنت قد أخذت ـ دون داع ـ قرصا مسكنا أستبق به حدوث الألم، حتى لا تتدخل آلام ركبتى فى تجوالى المحتمل، لم هذا؟ هل أشك فى رضا الله؟ لم أحتمل السوق. لىس لى أى رغبة فى التسوق، عادى. لستُ مدينا لأحد، كل شئ هنا (مثل كل الأسواق !!) هو فى أوكازيون دائم طول الوقت، مصيبة هذا العالم أنه ينتج. أولا ثم يبحث عن تصريف ما أنتج. بل إنه يخلّق غرائز شرائية واستهلاكية ورفاهيتية (!) لتصريف ما أنتج، !!).
على الأقل هم يستهلكون ما ينتجون، أما نحن !! نحن نتقدم حثيثا نحو التخلف العملاق. ننتقل من التخلف المتراخى إلى التخلف المترهل.
الرحالة الحقيقى هو من يعلق حقيبة الظهر ويضع الحذاء المطاط فى قدميه، ثم خذ عندك: بلد تشيله، وبلد تحطّه؟ هو بهذا المنظر إذا تسوّق يصبح حمّالا لا رحالة.
ها أنذا الآن حرّ لا أشترى شيئا أصلا، اللهم إلا بطاقة مصورة تذكرنى بالمكان، لكننى أصدر قرارا بشراء خوذة، ومطواة بها ملعقة وشوكة معا يمكن فصلهما فى الرحلات. ذلك أننى بعد أن أَصَاب ركبتى ما أصابهما قررت أن أقتنى” موتوسيكلا” فى هذه السن و أنا أشغل هذه الوظيفة. اشتريته فعلا قبل سفرى مباشرة. كانت الفكرة قد جاءتنى بعد ما وصلنى معنى “الموتوسيكلات” وأنا فى الطريق من اليونان إلى يوغسلافيا. لما صار العوم هو النشاط الآمن الممكن لم يحقق لى العوم هذا الشعور بالاختراق، خاصة وأنا أعوم مغمض العينين أسبح الله. جاءتنى فكرة أن أستعيض بالموتو (وهذا هو الإسم الفرنسى، وهو اختصار جيّد وسهل نطقه بالعربية) عن الجرى. كأننى بذلك أستعيد هذا الشعور الذى حُرمت منه وأنا أخترق ـ عدوا ـ طبقات الجو أمامى، فأخترق بالتالى طبقات الوعى داخلى. لم أصرح لأحد بتفسير شرائى للموتو، سألت عن غطاء للرأس خاص براكبى هذه الموتوهات، فدلنى أحدهم إليه على الخريطة. قررت تأجيل كل شئ لـلغد حين أعاود التجوال على قدمىّ فى سرية حرة.
تعلّمت أن أذهب إلى مطعم الفندق فى منتصف الوقت المحدد تماما حتى أتجنب نظرات رجل المطعم، الرجل المجلجل الذى لاعيب فيه، كانت الساعة الثامنة حين دخلت، فإذا المطعم على آخره. قلت لنفسى بحسرة، هاهى السياحة عندهم تسترد صحتها، العقبى لنا. انتظرت بالباب. الأدب فضلوه عن الأكل. حضر إلىّ الرجل المجلجل الذى لا عيب فيه، ووجهنى إلى حيث ينبغى أن أجلس. الجلوس فى مطاعم هؤلاء الناس ليس كما تشاء، ولكن كما يشاؤون هم. بعض المناضد عليها كروت، وبعضها لا تفهم ماذا، وبعضها أيضا لا تفهم ماذا (غير الأولى) ـ فتوجّهتُ حيث وجّهنى. حشرنى البيك المجلجل بين منضدتين، وجدت على يمينى امرأة “فاضلة”، ومعها ابنها ـ فى الأغلب ـ ذى الأربعة عشر عاما تقريبا. هو بدين بدانة جعلتنى أتصور أنه جاء إلى هذا الفندق الذى بدأت أدرك أنه فندق للاستشفاء أساسا. أخيراً فهمت أننى فى مركز صحّى مُفَنْدَق، وكله مكسب. لا بد أن هذا الصبى البدين جاء من بعيد لينقص وزنهه، وكأنك لكى تمتنع عن الطعام، لابد وأن تقطع مئات الأميال وتغيّر محل الإقامة!! كل واحد حر “بنقوده” يعمل ما بدا له ـ أنا مالى؟!
على اليسار وجدتها: امرأة فى حوالى الأربعين جامدة الوجه بشكل يكاد يكون متصلبا. تبدو كأنها تجمدت على حزن دفين، هكذا قدّرتُ رغم خلو وجهها من أى تعبير. غلبتنى صنعتى، فقررت أن طبقة ما تحت الجلد تحتوى ما وصفته من حزن متقلص. كنت قد لاحظتها أثناء الوجبات السابقة وهى جالسة فى مواجهتى. ولا حظت رعشة شديدة فى يدها وهى تصب من زجاجة المياه المعدنية الكبيرة جرعة فجرعة بنفس الرعشة القاسية العاجزة المثابرة. وغلبت علىّ مهنتى أكثر فرجّحت أن هذا من أثِر بعض أدويتنا المهدئة الجسيمة نعم تلك النيورولبتات (Neuroleptics) القبيحة التى تقوم باللازم وهى تعالج ظاهر الأعراض وهى فى نفس الوقت تكتم على نفس نبض الوجود. نحن الأطباء لانرى من هذا التصلب إلى جمود العضلات الظاهر الذى قلب وجه هذه السيدة إلى تمثال لفرانكشتينةْ مقهورة. أحاول أن أنسلخ من هذا التفكير شبه العلمى، لكننى تذكرت أن شعورى هذا نحوها كان قد بدأ منذ أمس. هى تجلس بعيدا عنى فى مواجهتى. طنبلتُ (= طنّـشت!) أمس، ونجحت ألا أفسر وأحلل، لكننى حين حشرنى النادل هكذا بينها وبين فتاها “المكلبظ” هذا، اضطررت إلى الانتقام منه بهذا التفكير المغيظ.
الخدمة فى هذه المطاعم بطيئة بطئاً مقصودا، ويد السيدة بجوارى تنقل المياة المعدنية من الزجاجة الكبيرة إلى الكوب جرعة فجرعة بانتظام كأنه اللزمان Stereotypy. لم أستطع أن أقاوم: فجأة أحسست أنى أكاد أفعل مثلها، بل إنى تصورت أن يدى تكاد ترتعش مثل يدها وأنا أفرغ الكوب. فزعت. أحسست بعضلاتى تكاد تتصلب مثلها، وتذكرت أعراضا من أعراض مرضانا تقول أن ما أنا به هو أشبه بصدى الحركة Echolalia حيث يعمل المريض نفس الحركة التى تُعمل أمامه، الله ..الله!! ما هى الحكاية؟ مرّة أتصوّر أن تفكيرى هو يقين ضلالى، ومرّة أكاد أقلّد امرأة متصلّبة مرتعشة وكأن حركاتى صدى لحركاتها، هل أصبت بمرض من أمراض المهنة؟ عذرت زملائى الذين يمارسون الطب النفسى”من الظاهر”. قلت إن معهم كل الحق فهم يحمون أنفسهم من رؤية مرضاهم. ومما أنا فيه الآن. بأن يعتنقوا نظريات كيميائية، وأن يغرقوا مرضاهم بفيض كيميائى يرحمهم من أن يروا وجه الشبه بينهم وبين مرضاهم. ماعلينا. لم أستطع أن أستمر مختنقا بين الصبى البدين، والمرأة المتخشبة فقمت طالبا من النادل المجلجل، أنه إما أن يبحث لى عن مكان آخر، أو أن أنتظر فى البهو حتى يجد لى مكانا آخر، وبترحيب شديد، ودون أى تساؤل عن السبب أو احتجاج أو انتظار، وافق على أن أنتظر فى البهو، وقد كان. بعد دقائق نادانى حيث أجلسنى فى مكان رحب فى مواجهة الجبل وهو يحيط بالبحيرة مثلما يحيط الأب كتف ابنته ذات الخمسة عشر ربيعا بذراعه العارى القوى العضلات الملئ بالشعر.
لكل شئ إذا ما تم نقصان. تمّت الحضارة الغربية على أكمل وجه وأخفاه، الجلوس بالترتيب، والنظام بالمليمتر، والاعتراض مسموح به، والتباديل والتوافيق ممكنة، والصبى السمين سمين، والأدوية المصلـِّبة على أذنه، والمرأة متخشبة مرتعشة بملء إرادتها الغربية الحرة، وصاحبكم يوحد الله ويحمده أن استطاع أن يمشى أمس ساعتين ونصف ساعة.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل السادس: “مسافر رغم أنفه“ (8)