الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل السادس “مسافر رغم أنفه” (4)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل السادس “مسافر رغم أنفه” (4)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 18-3-2025

السنة الثامنة عشر 

العدد: 6409  

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1] 

الفصل السادس

مسافر رغم أنفه (4)

يا جّدنا المصلوب زهواً يحصد الزمن.

قد صار محظورا علينا ننقش القلوبً فوق هامات الحجر.

فى عصرنا هذا أيا جدّى العزيز

لا تطلع الشموسُ دون إذنْ.

لا يستباح للكلاب الآثمة – أمثالنا – أن تسكن العرين.

ما عاد يجرؤ وعينا أن يفخـترْ :

أنـّا بشر.

الاثنين 21/6/1993

………………

……………….

عدت إلى باريس منذ سنتين فى مؤتمر علمى مدفوع الأجر مازلت أعانى من آثاره الأخلاقية حتى الآن. وكانت ابنتى “منى” معى. وحضرت المؤتمر. وكان الطقس أخف والناس أثقل..، فخاصمتُ باريس أكثر، شعرت فيها لأول مرة بعدم الأمان مقارنة بما غمرتنى به من الحنان والرضا ذلك العام (96/86). حين خاصمتُها أصبحت أرى الوجوه الجزائرية أكثر قسوة وجفافا، والوجوه البيضاء أكثر تسطيحا ولا مبالاة، والقبل فى المترو أكثر ميكانيكية. قلت لم تعد باريس هى باريس التى أعرفها فيما عدا المونمارتر والمقاهى الصغيرة فى الشوارع الصغيرة.

أخرجت كتاب “آلان واتس” Alan Watts عن العلاج النفسى بين الشرق والغرب، صدر سنة 1964. لم أتمكن من تصفحه إلا فى هذه الرحلة. هو يشير إلى خبرة الشرق الأقصى وليس إلى شرقنا الأراجوز المشوه. لم أجد فى نفسى رغبة فى القراءة، لن أتصنع ولو لم يبق على جبهتى ـ يا ـ منى إلا المائة وأحد عشر (!!!)، لتذهب الابتسام من حيث أتت إن كان هذا هو مستقرها، لكنها موجودة فى أعماقى  أقوى وأبقى من تصوراتك يا مُنىَ.. لا يغرنك تجهمى يا منى فأنا أحبك حبا كثيرا وأحب الناس وأحب الله حتى لو كنت متجهما طول الوقت . الحمد لله.

سمعت أصوات ضبط الآلات، فى مكان أخر، اتجهت صوبالصوت. يقفون هذه المرّة فوق منصة على شكل مربع  لا دائرة. شباب سود ثلاثة،  وواحد أبيض وفتاة شقراء. فرقة أخرى. من أين؟ أرى السود عادة فى منتهى القوة والحضور الفطرى الجنسى إن صحّ التعبير. أخذوا يضبطون الآلات أيضا. قلت لنفسى متماديا فى خيال المصالحة: ثَبَتَتْ الرؤية: هذا استقبال معدّ لى خصيصا، وهذه هى الفقرة الثانية. كل الناس من حولى يعُدون أو يسيرون أسرع من العدو، وأنا الوحيد الذى يتمتع بهذا العزف والرقص مع  الإصرار والترصد.

صوت عربة البوليس يصيح خارج حجرتى الآن فى الفندق فى  “مونتريه” وأنا أكتب فنظرت عبر زجاج الشرفة، المطر يهطل كما تمنيت. قلت هذه إشارة إكمال هذا الفصل (!!! كيف؟) ـ فلأتماد وأعتبر أن المطر أيضا سقط الآن ترحيبا بى  بالمعنى المناسب لعلاقتى بربى، أقترب منه أكثر كلما سافرت، وكلما نجوت من خطر ما، وكلما فوجئت بفرحة طيبة. هذا ما كنت أحتاجه فى تلك اللحظة. أواتصل الكتابة .

توقف الشاب المسئول عن فرقة المطار السوداء المخططة بأبيض، بدا لى الأكثر شبابا (وليس الأكبر عمرا) وقال بالإنجليزية : “سيداتى سادتى” . لا يوجد إلاىَ  وأربعة آخرون تباطأ سيرهم  ولم يتوقفوا. استمر الشاب الرئيس: أقدّم لكم فرقتنا المكونة من فلان الفلانى من الكاميرون”. انحنى فلان هذا سعيدا بنا- تزايد العدد قليلا . جلست على مقعد من المقاعد حو ل المربع وأنا فى حال بهيج أنسانى كل ثقل الرصاص البارداللزج الذى بدأت به رحلتى. أكمل الفتى: “وفلان من غانا”، وانحنى هذا أيضا وكدت أنحنى أنا بدورى، وعليكم السلام يارجل يا طيّب. (لم يبق فى سيدنا الحسين، حتى فى رمضان غير القهوة على الناصية البعيدة، هى التى فيها حياة، الباقى خـَفـُتَ حتى مات، حتى حمّص الشام لم يعد ساخنا لاسعا. لماذا يا مصر؟؟؟ إلى أىن؟ لا تطردينى بالله عليكِ فأنا لا أصلح إلا فيك مهما تغزلت فى غيرك). و”فلان الفلانى من نيجيريا” وإذابفلان الفلانى الأخير هو هو هذا الذى يقّدم نفسه، فانثنى ونحن نحييه. الظاهر أننى لم ألتقط تقديمه لنفسه بأنه العبد الفقير إلى الله، خدامكم فلان. أكمل الشاب : وفلان من الولايات المتحدة ، مشيراً إلى الشاب الأبيض) الذى نظر إلى زملائه بامتنان أن سمحوا له بأن ينتمى إلى هذا اللون الأقوى. ثم إليكم  “فلانة” (الشقراء)،  لم  ألتقط من أين تحديدا، لم أسمع تقديمها تفصيلا. صفّقنا من جديد.

 بدأوا فى الغناء بكل المكبّرات المميزة، وكأنهم فى مسرح يحضره بضعة ألاف (أصبح عددنا  أقل من عشرة جلوس وأكثرقليلا واقفين). تساءلتُ : لمن يغنّى هؤلاء الناس، ومن الذى سيدفع لهم؟ طبعا كففت عن المضى فى مسخرة أنهم فى استقبالى وهذا الكلام، كانت أغنية جميلة . لم أفهم كلماتها. كانت شديدة الاختراق. صفّقنا بعد أن كدت أهم بالانصراف خشية  أن يمرّ علىّ أحدهم بقبعته يطلب المعـلوم  فلا أعطيه ولا أستطيع أن أدارى خجلى، لكنى بقيت وصفّقت مرة أخرى، ولم يمرّ علىّ أحد. بدا عليهم أنهم فى غاية السعادة أنّهم بسطونا جدّا، “هكذا جدعنة”. من أين يأكلون؟ كيف يصرفون؟ ولماذا هنا؟ فى المطار؟ ومن الذى أعد لهم المكان؟ بأى هدف عام أو خاص؟ وأنا مالى، ربّنا مهيئ الأرزاق، وسبحان من غذّى الطيور فى أوكارها، وقبـّضَ موظفى المجالس المحلية مرتباتهم وأنصبتهم من الإكراميات وهم فى منازلهم، لماذا يا مصر؟ إلى أين؟ إلى متى؟

قبيل وصولنا جنيف شعرنا بمطبات هوائية عنيفة وقال الطيار أننا سنهبط فى خلال دقيقة أو أقل لظروف الجو أو ما أشبه، لكننا لم نهبط، وحمدت الله أن زوجتى ليست معى، فهى لا تحتمل مطبات هذه الطائرات الصغيرة، فى حين أُغـفـلها أنا تماما وخاصة إذا شغلتنى الأجواء الدولية فأهاجت شاعريتى المتواضعية  التى تنشط بمجرد التواجد بعيدا عن حدود الدول و حدود الناس الذين يحددون وجودى بطقوسهم.

 مازلت أذكرها (زوجتى) بجوارى ونحن راجعون بطائرة صغيرة من أبو سنبل إلى أسوان. كانت تمسك بذراعى بين الحين والحين وأنا أنظر إليها متسائلا صامتا، ثم أمضى فيما أنا فيه، كنت أكتب قصيدة فى “رثاء الفخر” بعد أن شاهدت وجه رمسيس الثانى وسمعت المرشد وهو يحكى كيف أن شعاع الشمس يسقط على وجهه يوم مولده ويوم توليه العرش. شعرت بعظمة هذا الرجل وكرهته، تساءلت عن حقيقة انتسابى/انتسابنا/انتمائنا إليه، أنا أستطيع أن أنتمى لأى جد، ليكن. فرحت أكثر بعظمة مهندسيه وتصورت أنهم كانوا يحبونه لا يطيعونه فقط. هل نحتاج دائما لفرعون لكى نحقق المعجزات ؟

لم نعد نفرز إلا فراعين مزيفين، ومهندسين موظفين. نحن مصرون أن نُفَرْعِن من لا يصلح أصلا للفرعنة. المصيبة أنه يصدّق، وبالتالى نصدقه.  لكن الفَراعين المصنوعة محليا بلاتاريخ هى فراعين خائبة لا أحد يحترمها،ولا أحد يفخر بها.

مات الفخر وبقى الادعاء . كنت منهمكا فى كتابة  “رثاء الفخر” فلم أشعر بالمطبات الهوائية التى تبينت فيما بعد أنها سبب زعد زوجتى المتقطع لى، بدأت المرثية قائلا :

-1-

يا جّدنا المصلوب زهواً يحصد الزمن.

قد صار محظورا علينا ننقش القلوبَ فوق هامات الحجر.

فى عصرنا هذا أىا جدّى العزيز

لا تطلع الشموس دون إذنْ.

لا يُستباح للكلاب الآثمة ـ أمثالنا ـ أن تسكن العرين.

ما عاد يجرؤ وعينا أن يفخترْ: أنا بشر

وأنهيتها :

-4-

حَبَك الوليدُ دِثَـارهُ: كَـَفنا

وبلا رثاءٍ وسّدُوهُ لحده : مهدا.

كتبو عليه بلا دموع:

“ما عاش منْ لمْ يولدِ”.

حين نزلنا مطار أسوان، وكانت زوجتى قد شبعت فىّ زغرا، وزغدا بلا زغد، وأنا لست هنا، راحت تلوم الطيار وكأنه مسئول عن مطبات السماء، فلما سألتها عمّا أزعجها، اتهمتنى ـ دون تصريح ـ بفقد الإحساس، هذا هو المعنى الذى أستنتجُه أحيانا من تكرار اتهامها لى أن “اللى فى مخى هو اللى فى مخى”، وأننى لا أهتم بما يجرى حولى، وأننى حتى لا أشعر بالحر ولا بالبرد مثل الناس، فماذا يعنىنى إن ماتت هى (والركاب) رعبا؟ ولم أحاول أن أدافع عن نفسى فقد تعلمتُ أنه لا فائدة من الدفاع، علما بأنه لو حدث شئ من الذى فى بالها فسوف لا يستثنينى هذا الشىء، ولن يشفع لى شعرى، ولا نثرى. ولا بلادة شعورى .

حمدت الله أنها ليست معى الآن وإلا تجمدت رعبا. الطيار مازال  يدور فى السماء فى انتظار الإذن، يحاول  الطيار أن يطمئن الركاب بأنه  سيحاول الهبوط  مرة أخرى خلال عشر دقائق تقريبا، سيحاول؟ لم يقل سنهبط، هل نحن فينا من محاولة؟ لنفرض أنه حاول المرة تلو المرة ولم ينجح ، هل نظل معلقين هكذا فى السماء؟ لابد أن زوجتى كانت على حق. لابد أن أخاف، فبحثتُ عنه (عن الخوف) فلم أجده، ولم أكن ساعتها أكتب شعرا مثل رحلة أبو سمبل. ابتعد الشعر عنى  منذ مدة بعد أن ثبت لى أنه لم يكن السبيل الأمثل لتوصيل ما عندى. أنا راجع من استقبال باريسى حافل. استطاع أن يزيح من على صدرى ثقل بداية هذه الرحلة. تصورت أن ما حدث فى مطار شارل ديجول هو نوبة إفاقة واعدة. فليأت الخوف لأثبت لنفسى، ولزوجتى، أننى أحس. أن الذى فى مخى ليس هو هو الذى فى مخى. نظرت إلى الوجوه حولى، ولم أجد على أى منها أية مظاهر للخوف، هى معتادة دائما. دائما معتادة.

هبطنا فى المحاولة الثانية. فى ثوان. فهمت أعمق معنى “الحمد لله على السلامة”.

………………

………………

ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل السادس:  “مسافر رغم أنفه”  (5)

تعليق واحد

  1. في قلبي غصة ويعلم الله ما بي.
    نحن في ٢٠٢٥ وتطاول اليهود وبلغوا من الجبروت والظلم والقسوة ما بلغوا .
    ولا استطيع الا ان انكر كل هذا بوجداني ووجودي كله.
    واسائل ربي فهو القائل “” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض””
    فهل فسدت الارض. ؟؟
    بيدك الامر كله .
    ولكنك قلت “” الا تنفروا يعذبكم عذابا اليما ويستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا امثالكم “””.
    واخشي ان اقول العذاب قادم لا محالة.
    ولكني اردف هل الاستنفار هو قبل وبعد الجهاد والحرب ام لتغيير واقع شديد البأس والبؤس.
    واقرأ الآن الآية ::- “” واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة “””.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *