الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل السادس “مسافر رغم أنفه” (2)

ترحالات يحيى الرخاوى الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل السادس “مسافر رغم أنفه” (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 5-3-2025

السنة الثامنة عشر 

العدد: 6395 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1] 

الفصل السادس

مسافر رغم أنفه (2)

يا جّدنا المصلوب زهواً يحصد الزمن.

قد صار محظورا علينا ننقش القلوبً فوق هامات الحجر.

فى عصرنا هذا أيا جدّى العزيز

لا تطلع الشموسُ دون إذنْ.

لا يستباح للكلاب الآثمة – أمثالنا – أن تسكن العرين.

ما عاد يجرؤ وعينا أن يفخـترْ :

أنـّا بشر.

الاثنين 21/6/1993

………………

………………

صديقى عمر هذا أول كلمة نطقها كانت بحْحّ،، نطقها قبل “بابا، وماما”، و” مَــمْ” قالها وهو يشير إلى البحر فى رأس الحكمة. مرّت عليه بضعة أشهر قبل أن ينجح فى أن يُلحق بالحاء المشددة راءً، لينطقها “بْحر”.

أما أبوه فأول كلمة نطقها كانت “إوَّآ” (يعنى بها “إوعى”). كان ذلك فى اليوم السابق لبلوغه عاما. كان قد تعلّم المشى قبلها ببضعة أيام، فوجدنى واقفا أكاد أسد باب حجرة يريد أن يمرّ منه. فأخذ يزيح ساقى من طريقه بيد عنيدة ناقدة، يزيحنى إلى جانب، بعيدا عن طريقه، ونطق إوّا (ومازال يفعل ذلك حتى الآن) . فى الطريق إلى المطار : افتقدتُ عمر صديقى، ولم أبلغ والده وهو يودعنى أن يسلم عليه، لكنّه سمعنى دون أن أنطقها، ولم يسلم عليه.

 ركبتُ الطائرة وأنا كلى مقاومة، مغلقٌ تماما عن السماء والسحاب، جلستى فى الطائرة بالصدفة بجوار جناح قبيح يحجب عنى المدى والأفق، كرسى منفرد، أحسن، لا أريد “ناسا”، لا أقطع “طريقا”، يشيلنى هذا الجسم الحديدى مكبـّلا ليلقينى حيث لم أعمل حسابى، بجوارى كرسى مقلوب وجهه عكس كرسىّ، أول مرّة ألاحظ ذلك. ما إن تحركت الطائرة حتى جاءت المضيفة وجلست عكسى. ربطت نفسها فى هذا الكرسى القبيح المقدد الذى يعطينى ظهره بجانبى. كأنى أنا المسئول عن خلـّوه وقبحه، أو كأنى آذيت قريبه فلم أضف إليه درجات فى امتحان البكالوريوس. المهم: قامت المضيفة بعد أن استقرت الطائرة فى الجو، فحاولتُ أن أحرك الكرسى المقلوب فإذا بى أتأكد أنه هيكل كرسى فقط، جُـعل خصيصا لجلوس طاقم الطائرة عند الإقلاع والهبوط، الكرسى “عيرة”. جناح الطائرة مثل جثة حوت لفظته أمواج السماء فحال بينى وبين الله الذى أناجيه أكثر: أناجى ربى مباشرة حين أصـّعد فى السماء، وحين أتقدم بين الموج مغمض العينين، وحين تحتوينى جبال سيناء من كل جانب، وحين أتمدد مع صحراء المقطم حين كنت أعدو مع مرضاى، فلماذا الآن ليس الأمر كذلك؟ مع أن الطائرة تحلق على ارتفاع عدة عشرات الألاف من الإقدام.

أخذت أزيح جثة الحوت من فوقى لأسترق النظر ـ بالرغم من كل شئ ـ لعلّى أفهم لماذا أنا فى الطائرة. وحدى أنا هذه المرّة، كنت أحتاج جدّا أن أكون وحدى  هذه المرة، زوجتى ظلمتُها معى، وأكاد لا ألتقى بها إلا حين نسافر معا. كانت آخر مرة رأيتها فيها (رأيت زوجتى رغم أننا ما زلنا نعيش تحت سقف واحد، ونعمل بعض الوقت فى مكان واحد، لكن هذا هو الذى حصل!!) كانت هذه المرّة التى رأيتها فيها فى البتراء فى الأردن لمدة ثمانى عشر ساعة. قابلتُها هناك قبل وبعد شجار له دخان خانق.

مضت الساعات وأنا لست هنا، اكتشفتُ أنى لم استمع لتعليمات النجاة، ولا لتعقيبات الطيار وهو ينبه إلى بعض معالم الطريق بين الحين والحين، ثم بدأت أستيقظ من اللا نوم واللا يقظة (قياسا على ما هو :اللاسلم واللا حرب) ببطء ثقيل. أستيقظ وكأنى أعوم منهكا فى بحرٍ لزج، أستيقظ من خِدْر ممتد على مساحة مجهولة طولها عدة سنوات.

تحسست وحدتى لأتأكد، واطمأننت إليها. وحدى، نعم. إذن فأنا مع كل الناس بلا استئذان. ليكن ما يكون. أزحتُ جناح الطائرة بإصرار هذه المرة. كنا قد اقتربنا من باريس دون أن أدرى كيف مـّر الوقت، فإذا بالخضرة والمربعات الزراعية المقسمة بالمسطرة، والبيوت الأكواخ الممتلئة بالحياة والرقة الغربية والنبيذ والحضارة الآفلة والنظام والاستعلاء والتكنولوجيا والتأمينات الاجتماعية وغير الإجتماعية، كل هذا أطل علىّ مخترقا كثافة الجناح، ما الحكاية؟ ولماذا لم ينزح الجناح هكذا ونحن نقـلع؟

مازالت مسامى مغلقة تماما ـ السيدة الفاضلة خلف نافذة المكتب فى المطار (فاضلة والله العظيم ثلاثا، وحق وجهها السافر) تشير السيدة إلى بوابة ب 2 حتى أنتظر أربع ساعات وهو ميعاد إقلاع الطائرة إلى جنيف حيث أقصد، ذهبت فوجدت ناسا قليلة تنتظر. ماذا سأفعل فى هذه الساعات الأربع؟ معى هذا الصديق الجديد الذى اسمه الحاسوب، وهو ليس كذلك. حاولت أن أنحت له كلمة المـُكـَمـْبـِتْ، أو المـُكـَمـْتـِرْْ، فلم يرض عن ذلك إبنى محمد المناقِش الأعظم، ودارس علم النفس اللغوى!! كَمْبَتَ يُكَمِْبتُ وفى الخليج يقولون عن ثقب إطار السيارة “بنشر” (يبنشِـرُ فهو مبنشِر) وهى كلمة معربة من puncture، فلنكن شجعانا ونرعى لغتنا بإثرائها. معى هذا الشئ الصديق المطيع المُكمْتِر (كَمْتَرَ، يُـكَمـْتِـرُ. لعلّها أخفّ:computor )، قلت أحاوره وأمتطى صهوته وأعبر به، وأناجيه وأتجـوّل معه فيه، حتى تأتى الطائرة إلى جنيف، ولكن أبدا. حالت الظروف، وفرحَ هوَ لى.

عدت للسيدة الفاضلة ذات الوجه السافر، وقلت هل يمكن أن أدخل فرنسا هذه الساعات الأربع، فنظرت فى جواز سفرى فى ثوان، وقالت ما معناه “ياسلام يا سيد، أنت تشرف”. هكذا ترجمتُ ما قالت مما بدا على وجهها لا من كلماتها، وأضافت أن عندى تأشيرة لعدة مرات، فما هى المشكلة، ولم تكن ثمة مشكلة إلا فى أننى تذكرت وقفتى أمام سيد آخر فى نفس الموقف، فى بلد عربى شقيق جدا كنت ذاهبا إليه فى مهمة رسمية، والمفروض أن ناسا رسميين فى استقبالى، ومع ذلك وقفت أمام من هو مثل هذه السيدة هناك من الساعة الحادية عشر وثلث مساء إلى الساعة الثالثة صباحا حتى خرجنا. وقيل فى تفسير ذلك أن رجال الطيران الوطنى لهذا البلد العربى الشقيق  كانوا فى حالة توتر مع رجال الجمارك، لأسباب خاصة جدا، فأقسم رجال الجوازات أن يطلعوا ديننا (لا يخرجوننا منه، ثم إنى لا أعرف تحديدا معنى هذا التعبير المصرى : أطلّع دينك” يطلعه أين؟)، فكان ما كان.

الحضارة شئ آخر. احترام الوقت هو احترام الإنسان.

 دخلت فرنسا والدنيا سهلة، وكنت خارجا من بلدى ـ بلدى الطيب ـ والدنيا صعبة، الحوادث هنا أكثر، والإرهاب وارد، وكل شئ يعدو ويحتاج إلى آلة إدارية عملاقة لتديره، لكن الأمور تسير بيسر أزعجنى على بلدى، منذ شهرين فقط كنت مسافرا بالعربة من نويبع إلى سوريا وعند العودة إلى نويبع انتظرتُ ساعتين حتى حضر من مرر العربة فوق بئر مثل بئر التشحيم ليرى رأى العين فى منتصف الليل إن كنت أنا أو غيرى (بما فى ذلك دبلوماسى نرويجى وزوجته كانا يتقدمانى)، إذا كنا نخبّئ مواد إرهابية، أو ربما مواد تستعمل للدمار الشامل!! فى شاسيه السيارة من تحت أم لا، أليس هذا هو ما يجعل الناس القادمين إلينا يتصورن أن سائحا عندنا يموت كل يوم، كيف يحقق هؤلاء الناس هنا فى مطار شارل ديجول العملاق هذا النوع من الإدارة السلسة. حوادث الإرهاب عندهم ليست أقل من عندنا. من أين لهم بهذه الثقة بى؟ بنا؟

دخلت المطار الذى كنت أكرهه،مطار شارل ديجول، أكرهه رغم علاقتى الخاصة والسرية بديجول شخصا. أحسب أنى كنت أكره هذا المطار لكثرة زجاجه، مثل مركز بومبيدو الزجاجى أيضا والذى كتبت فيه قصيدة قبيحة (البيت الزجاجى والثعبان).

حمدت الله أننى من داخل المطار لا أرى قبح زجاج المطار الأملس جدا، فوجدت نفسى فجأة فى فرنسا شخصيا، بل فى باريس بالذات، لم يُتَــح لى من قبل أن أمكث فى هذا المطار عدّة ساعات مثل هذه المرّة، فشعرتُ أن فرنسا كلها قد جاءت تستقبلنى فى المطار لتفتح مسام وعيى الذى أغلقتـْه رئاسة القسم، ومسئولية المركز، والخوف، والطمع، والروتين، والسن، وتفُّرق الثلة القديمة، وكهولة أصدقائى الأطفال، وسفر الباقين للرزق والرفاهية والهرب جميعا. كل ذلك أغلق مسامى فلم يبق إلا تقطيبة وجه، وعربة مكيفة، ووحدة متفاقمة، وهذا المنظّـم الصديق (المكمتـِرْ) الجديد الذى حلّ محل كل هؤلاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

كل الناس والأشياء ترحب بى، أهلا يا مسيو، أين الكافتيريا، يردّ علىّ الوجه المنمنم ذى الصوت الـُمـَنـْونـِوْ، من جنوب شرق آسيا والذى سبق أن أرشدنى إلى كيفية استعمال الهاتف آتوماتيكيا بكارت جديد علىّ أن أشتريه من أى “بوتيك” مثل علبة السجائر، كنت قد وضعتُ حقيبتى الصغيرة بجوارى وأنا أتكلم فى الهاتف، فمرّ آخر (من أهلى الخوجات الذين ليس لهم أسماء) فحمل حقيبتى من جوارى ووضعها فوق اللوحة أمامى تحت التليفون، وغمز بعينه باسما، استولوا منـّا حتى على شهامة أولاد البلد، فهمتُ أن ذلك يحمى حقيبتى من أن يحملها عنى ويمضى أحد أفراد “الجماعات” الفرنسية (!!!). أثناء انهماكى فى الحديث فى التليفون، ثم يذهب يحارب ـ بثمن ما فيها ـ الجزائريين إن كان فرنسيا عنصريا، أو الكفرة إن كان ولىّ أمر اللجنة الخصوصية لأمة الإسلام.

هذا الخواجة الشهم أبٌ حانٍ، فغمزت له بعينى أن الرسالة وصلت. وضحكتُ لأول مرّة منذ سنتين ونصف.

 أنا لا أذكر أننى غمزت بعينى هكذا منذ هذا الوقت إلا لابن بنتى (أصبحتُ جدا لثلاثة) من بضعة أيام، لكنّها ـ الغمزة لحفيدى هذا ـ كانت غمزة المداعبة التى تستجدى ابتسامة اجتماعية لا يقصدها طفل فى الشهر السادس، ونتصورها نحن كما يحلو لنا. هذه الابتسامة التحذيرية من الرجل المهذب الفرنسى ذى الأصل الأصفر. هى رسالة والديّة كاملة تستوجب هذا الشكر الغامر الذى فك حصرى.

هؤلاء المستقبلون المجهولون أحبهم أكثر وأكثر من المستقبلين الرسميين، وأكثر فقط من المستقبِلين الخصوصيين. الاستقبال الأهلى عادة يكون حارا لكن عمره قصير، وربما شروطه الخفية لم تعد تصلح لى. هؤلاء المستقبلون المجهولون شئ آخر. جاءت باريس كلها تستقبلنى(!!) أنا أعرف باريس من عازفى الجيتار فى محطات المترو، وعلى الأرصفة، ومن السكارى النائمين على سلالم أنفاق تحت الأرض، ومن الرقص فى الشوارع، ومن فتّح عينك تأكل ملبن، وفيما عدا السكارى فى مداخل المترو تحت الأرض وجدت كل ذلك قد حضر لاستقبالى فى المطار.

………………………

……………………….

ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل السادس: مسافر رغم أنفه  (3)

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *