نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 4-12-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6304
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]
الفصل الخامس
الفصل المفقود: (2)
(الفصل الحادى عشر: من الترحالات الثلاثة) (1)
أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة
من مذكرات 3 يوليو 1950
معذرة لقد نسيت أن أعلق على الحرب الكورية!!!
20 فبراير 1954
قال والدى ونحن نتكلم فى مقدار نصيب الإنسان من الجهد ومعنى الاعتماد على اللّه:
يا إبنى إنى حين أقول أسلمت وجهى لله كل صلاة لا أقولها وأستسلم،
وإنما أقولها لأقبل النتائج، و أتعلّم.
(عود على بدء) 27 / 8 / 1986
“ديكى ديكى، أنت صديقى أنت رفيق البيت، رفيقى
صِح فى الدار، أيقظ جارى، واشرب ماءً من إبريقى“.
هنا فى لبتوكاريا كنت أنا الجار الذى يوقظه الديك، وأنا الصديق معا،
صديق عن بـُعد كالعادة، حتى مع هذا الديك أصادقه عن بعد!!!
8 اغسطس 1987
……………….
……………….
قالت لى ابنتى الصغرى (مى) إنها تريد أن تهدينى من أول مرتب تقبضه هدية ما، وسألتْنى عما أريد، فقلت لنفسى ثم لها : أنت تعرفين ما أفضله: لعبة أطفال أو قلم جاف سنه رفيع جدا، فاشترت لى لعبة لم أحبها، أنا لا أحب اللعب ذات التكنولوجيا الأحدث، ولم أستطع أن أخفى عنها رفضى، قرأَتنى بسهولة، وتألمت وأعادت السؤال، فوجدتنى أنتبه إلى أنها ابنتى الصغرى، لم يبق من أولادى إلا أصغرهم طالبا، فهل آن الأوان لأكتب تجربتى؟ قلت لها أريد كشكولا ضخما، أو عشر رزم مسطرة تقومين بتجليدها معا، وذلك لأكتب لكم وللناس بعض ما هو أنا، ثم أضفت جادّا وكأنى أهزل: على شرط ألا تفتحى هذه الأوراق إلا بعد عشر سنوات من وفاتى، وألا تنـشر قبل عشرين”، يا صلاة النبى وكأن هذه الأوراق هى أسرار المملكة المتحدة، وكأنها سوف تحوى ما يستحق نشره، ولكن يبدو أننى كنت أنوى أن أكتب تاريخ كل خبراتى بحق. وهو ما لم يحدث طبعا، وهو ما لا يحدث أبدا مهما زعموا.
24/3/2000
هذا ما وجدته مكتوبا حين كنت أبحث عن أصول الفصل المفقود، عثرت على اثنتين وثلاثين ورقة من هذا المجلد، الذى أهدتنى إياه ابنتى، واكتشفت أن هذه الصفحات هى كل ما دبجت فى هذه الرزم الضخمة من ورق مسطر (فولسكاب) ويكاد يبلغ حوالى 500 ورقة، وهى مجلدة بغلاف مقوى، لكنها أصبحت قديمة، وقد تكون بعض الصراصير قد زارت أطرافها.
ماذا كنت أنوى أن أكتب من أسرار لا تُفتح إلى بعد كذا سنة؟
لماذا توقفت؟ لماذا نسيت الأمر كلية؟ ما علاقة هذا الذى أكتبه الآن بهذه النيّة.
كنت قد عثرت أيضا على ست كراسات كُتبت سنة 1974 بنفس النية (كنت قد نسيتها أىضا)، لكن هذه الكراسات الست كانت كلها مليئة، وبإسهاب، وأغلب ما فيها كان حول تلك التجربة التى خضتها مع مجموعة من الأصدقاء والزملاء فى محاولة مواجهة جماعية نمائية، كان من ضمنها تجربة “مجموعة المواجهة” Encounter Group، التى لم أتمكن إلا للتلميح لها فى ديوانى بالعامية “أغوار النفس” وفى الجزء الثانى من روايتى “المشى على الصراط” باسم مدرسة العراة، هذه التجربة غير قابلة للكتابة مباشرة، فماذا كل ماعداها؟
نظرت فى الاثنتين وثلاثين صفحة من هدية “مى”، الوريقات قديمة، الصفحات الأولى بعضها ممزق، فـلـصقتها، وجدت عنوانا قرأته بالكاد يقول “قبل البداية” لم يكن تحته أى شىء.
وجدت أيضا كلاما عن بعض المرضى، وأنا عادة لا أكتب عن مرضاى هكذا، فى مثل هذه الأوراق، وهل عندى أوراق مثل هذه؟ خذ مثلا:
10 سبتمبر 1987
منذ أيام جاءتنى مريضة، أو من هى كذلك، تشكو من زوجها المقاول بالصعيد (محافظة قنا) إذ يريد منها (أ) أن تنجب له كل عام طفلا (وقد أنجبت فعلا 4أطفال فى خمس أعوام) (ب) وأن تظل مقيمة معه فى الصعيد. هذه هى كل شكواها. لم أجد فيما قالت ما يخص ما هو مرض نفسى، قلت لها أن هذا شئ طبيعى، وأن طلبها العيش فى مصر ليس مناسبا بعد هذه السنين من الزواج، ومع ظروف هذا العدد من الأولاد، فانبرى شقيقها يدافع عن حقها فى العيش فى مصر، لأنه (زوجها) لا يحترمها، ولا يريحها، ثم إنه يطلب منها طلبات لا يمكن أن يصرِّح بها، وحين ألححت فى الاستفسار لأكون حَكمًا عدل بين شقيقته وزوجها، قال لى شقيقها إنه (زوجها) يعرض عليها أفلام “الثقافة”” ويريد أن تتجاوب معها أو أن تقلدها، فاندهشتُ للوهلة الأولى، وكررت الاستفسار فأكد لى شقيقها أنها فعلا أفلام الثقافة، ثقافة ماذا فى الصعيد لرجل يريد كل سنة طفلا ؟ استدرت إليها أسألها “ثقافة فى ماذا” قالت “إنه يريد أن أعمل معه: “زى الخواجات العريانين دول اللى بيناموا مع بعض فى الفيديو، وأنا ماباعرفش” فهمت أخيرا أن هذا هو الاسم السرى لأفلام الجنس، وتذكرت مريضا شابا كنت سألته عن كيف يحصل على هذه الأفلام من نوادى الفيديو، فقال لى إن هناك “سيم” متعارف عليه فى كل ناد للفيديو، وعلى الزبون أن يعرفه ولو بالتقريب، مثلا هو يتعامل مع ناد يسمى هذه الأفلام بأسماء مباريات كرة القدم، مباراة البرازيل مع الأرجنتين، أو ألمانيا مع فرنسا.. وهكذا.
9/6/2000
اكتشف وأنا أقرأ هذه الاستعارة الدالة ، أن علاقتنا بالأجانب ، بما فى ذلك حكاية الثقافة بالمعنى الشائع يكاد ينطبق عليها هذا المثال، من هذا النوع. بل إن اختيار هذا الصعيدى لهذا اللفظ “ثقافة” هو مناسب جدا لوصف مثل هذه العلاقة تحديدا. هناك من يريد منّا أن نتحضر بهذه الطريقة، بأن نعمل مثلما يعمل الخواجات فى أفلام الثقافة.
والله فكرة! أكثر الله خيرك يا ست هانم. تعلمت منك ومن زوجك الكثير، أدعو الله أن تكونى قد تثقفتِ بطريقتك ، وأن يبارك لك فيما أنجبتِ ، فيكتفى زوجك ويعينه الله على رعايتهم وشكرك.
وجدت أيضا مكتوبا فى 11/9/1987
أعيش هذه الأيام مرحلة جديدة: هى مأزق ختام تربية الأولاد. فأكتشف أنى دفعتُ بهم الواحد تلو الآخر إلى أن ينتهوا إلى تخصصى ـ لست أدرى كيف ـ ، ولعل الدافع الظاهر أو الخفى وراء ذلك هو امتداد مادى، أو محاولة خفية لكسر الغربة التى فرضها علىّ تخصصى، أوكلاهما.
التحدى الصعب ـ دائما صعب ـو هو ما أُمتحن به من مواجهة التطبيق الآخر والمباِشر لما أزعم أنى أعيش به وله، وهو “قيمة العدل” فكم قلت، وقررت وسجلت، وأعدت التسجيل، أن “مالى” ليس ملكا لأحد، وأنه أمانة لابد أن ترجع إلى أصحابها، وأن صاحبها هو “المريض”، و”طالب العلم” (الحقيقى)، وتفصيل ذلك هو ما يشبه الوصية بأن كل قرش أمتلكه فى حياتى وبعد موتى لا بد أن يوجَّه لعلاج مريض أو لمنح فرصة لرواج فكرة جيدة، ناهيك عن منح الأمان للدفع إلى إخراج فكرة (حياة) جيدة.
9/6/2000
ماذا تحقق من ذلك؟ وماذا يمكن أن يتحقق؟
هل أولادى هم الأحق تحت زعم أنهم أقدر على حمل هذه الأمانة إلى ذويها؟
ما المقياس؟ من يدرى؟ من يحكم؟ كيف؟ ماذا أفعل الآن؟
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل الخامس: (الفصل المفقود: 2) (الفصل الحادى عشر: من الترحالات الثلاثة) “أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة” (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.