نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 20-11-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6290
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]
الفصل الرابع
الفصل المفقود: (1)
ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ (9)
…. واللحنُ ظِلُّ الناس فى حُضْن القمرْ
تنوُّعاَت البرق ِ والرعودِ
لــحفر بئرٍ غائر بلا مياه،
وزهرةٍ بلا شجرْ،
وبيضةٍ بلا يمامْ.
وغَارُهَا:
ممَرْ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ.
وعنكبوتُها:
يدبّج النقوشَ فوق طينٍ أَحْرَقَـتْهُ ناَرُ أحلامِ الّذهَبْ
غجريّةٌ فى ثوبِ سهرةٍ عريقْ،
تسحَبُ عَنْزَها الثَّمِلْ.
المقطم 22/3/2000
………………….
…………………..
الجمعة 24/8/1986
كانت الأمور قد ترتبت فى ذهنى من بعيد، ونحن نحزم أغراضنا، طـلبنا من فتى الفندق الحساب لأننا سنغادر فى ساعة مبكرة، قال بسرعة، دون أن ينظر إلينا. إن الحساب مسجل على الحاسوب، وإنه سوف يكون جاهزا بضربة زر، فى ثوان، ونحن نغادر(لم أكن أعرف هذه المسألة بعد)، وقد كان، هذه الآلات تقلل من الحوار الإنسانى المحتمل، توفر وقتا هائلا لنقضيه “فى ماذا؟”.
غادرنا الفندق فى السادسة صباحا ونحن فى رضا ذكّرنى بالرضا الذى ساد معظم رحلة الأولاد. كان الطريق سهلا و.مألوفا. ألم نعبره قادمين منذ أيام؟ وصلنا الحدود بسرعة أكثر مما توقعنا، وتمت الإجراءات أسرع أيضا. نسيت حكاية المعاملة التصنيفية من رجال الحدود، ثم إنه لم يكن ثمة أتراك فى مجموعتنا فى طريقهم إلى اليونان، فضاعت فرصة اختبار المعاملة بالمثل، أو الدراسة المقارنة أصلا.
نحن الآن فى اليونان مرة ثانية والطريق أسهل، نمر على البلد ذات المصانع، أو المصانع البلد، ولا نحبها بنفس الدرجة التى ألمحتُ إليها فى فجر ذلك اليوم القاتم المدخن أثناء قدومنا.
اليوم الجمعة
كان والدى رحمه الله لا يصلى الجمعة، مع أنه يقوم الليل نصفه أو ينقص منه قليلا أو يزيدعليه، وأول مرة عرفتُ أنه يقوم الليل حين تعثرتُ فيه واقفا أثناء قيامى ليلا أبحث عما يروى عطشى، أظن كان سنى سبع سنوات، وحين اصدمت به حسبته عفريتا، ثم إنه كان له وِرْدٌ كما لا بد أنى ذكرت ـ وِرْدٌ تستغرق تلاوته أكثر من ست ساعات يوميا، وحين كنت أسأله عما يردده طول الوقت هكذا،ولماذا؟ كان يربّت على رأسى ويقول: أليس هذا أحسن من أن أمسك سيرة الناس هذا الوقت، مع أنه كان يمسك سيرة الناس مثله مثل غيره أثناء توقف الورد، ولم أر فى ذلك تناقضا، كان لا يصلى الجمعة بالمسجد، ويأمرنا نحن بصلاتها، وحين كبرتُ أكثر.ربما فى سن الحادية عشر. سألته عن سبب عدم صلاته الجمعة، وحاول ألا يجيب لكننى ألححت، فقال لى إن له أسبابه الخاصة ، لكنّه فضّل أن يقدم لى الفتوى الرسمية التى يمكن أن أتصوّر أنه يستند إليها، كان يحكيها لى وهو يبتسم ، ربما حتى لا أصدّقه، وهى التى تقول استنادا إلى مذهب أبى حنيفة “لا تجب الجمعة إلا فى “مصر”، والمصر كما فسره أحد تلاميذ أبى حنيفة (لا أذكر إن كان محمد أم أبا يوسف) هو البلد الذى تقام فيه الشرائع وتحد الحدود، أما التلميذ الثانى للإمام أبى حنيفة فقد عرّف المصر بأنه “البلد الذى به أكثرمن أربعين مسلما، قال والدى إنه يأخذ برأى تلميذ أبى حنيفة الذى يعرّف الـ”مصر” بالشرائع والحدود، وتعجّبت من كل هذا التخريج، الأقرب إلى التبرير، وسألته عن معنى هذا كله، فقال إنه يبدو أن ذلك كان حتى يتجنب المسلمون ـ إذا كانوا قلّة ـ أن يـُـغار عليهم فجأة وهم مجتمعون فـى الصلاة، فيُـبَـادوا عن آخرهم أثناء تجمعهم، وكلا التفسيرين يفيد أن الجمعة تجب ـ إذن ـ حين يكون المسلمون كثرة، ولم أناقشه أكثر فقد كان واضحا أن هذا التفسير هو ما يمكن أن يقدّمه هو لى، وليس هو السبب الحقيقى، فهو يعلم أنه لا أحد سوف يغير على مسلمى قريتنا بالذات إذا تجمعوا، أو لم يتجمعوا. فمن ناحية هم لا يمثلون خطرا على أى كائن من الكائات، ومن ناحية أخرى فإن مسلمى بلدنا باسم الله ما شاء الله يمثلون فائضا يمكن الاستغناء عنه بأى عدد من مصلِّـى الجمعة ومن الممتنعين معا، طبعا هذه أفكار فتى فى الحادية عشر، ومع ذلك فهى ما زالت تراودنى حتى الآن (بينى وبينك) إذن ماذا؟
احترمت كل ما قاله والدى ليس لأنه وجيه أو مـُـقـنع، ولكن لأنه قاله، وفهمت أن التفسير الحقيقى هو خارج نطاق فهمى آنذاك، لكننى تماديتُ فيما يخصنى سائلا إياه أنه ما دام الأمر كذلك، فلماذا يأمرنا أن نصلى نحن الجمعة، فقال تفسيرا (تبريرا) أعجب، قاله وهو ما زال لا يخفى ابتسامة طيبة. قال: لأنه يتعبّد على مذهب الإمام أبى حنيفة منذ كان طالبا يافعا فى المسجد الأحمدى يعد نفسه ليصبح قاضيا شرعيا، لكنه دخل دار العلوم فى آخر لحظة لظروف يعتبرها هو من محاسن تحوّلات حياته، أما بلدنا (هورين غربية حينذاك) والتى ننـتسب نحن (أبناؤه) لها فهى تتعبد على مذهب الإمام الشافعى، وبالتالى – ما زال يبتسم – فهو يحق له أن يتبع رأى أبى حنيفة، أما نحن فشافعيين وعلينا أن نصلى الجمعة، !!! ولمّا كان مازال يبتسم فقد فهمت أنه ينبغى علىّ ألا أسأل المزيد.
لم أكن أعرف أن كل قرية لها مذهبها، وبالتالى لم أكن أعرف أننى شافعى بالمواطنة، واستنتجت فيما بعد أن كل قرية تتبع المذهب الذى درس عليه أحد شيوخها الأهم فى الأزهر، ثم انتبهتُ بعد ذلك أن البلدة المجاورة لنا اسمها الرسمى “كفر نفرة” لكننا نعرفها باسم شائع طريف هو “العَطاعْطة”، هذه البلدة كانت تتعبد على مذهب الإمام مالك، وكان بين بلدتنا وبين هذه البلدة نوع من التفاخر، وأحيانا العراك (تسمّى بالفلاحى: القتْـلـة بتسكين التاء) على مياه الرى، كنا أطفالا نعايرأطفال العطاعْطَا بثلاث معايِرات: المعايرة الأولى: أننا أطلقنا عليهم شائعة تقول إنهم يخافون الهجوم لإطفاء الحرائق بعكس أهل بلدنا، وكان هناك تصوير كاريكاترى لإحجامهم هذا، كنا نقول عنهم أن الواحد منهم يقترب من الحريق ويضع عصاه على مسافة منه قائلا “حدّى وحدِّك” وكلما امتد الحريق أكثر، تراجع الواحد منهم ليضع حدا جديدا، طبعا لم يكن الأمر كذلك، فهو منظر مضحك ومستحيل فى آن، لكنها سخرية أهل بلدنا، ومع أنها كذلك، فقد كانت هى الصورة التى حضرتنى فى تردد وأنا أتابع انسحاب 1967، ومن قبل انسحاب 1956، وأيضا نفس الصورة ما زالت تعاودنى كلما انتهت المفاوضات إلى إعادة الانتشار أو جاءت سيرة ترسيم الحدود (الجديدة). تحضرنى صورة أهل “العطاعْطَا” وهم يتراجعون خطوة خطوة قائلين لـلنار”حدّى وحدّك”، سواء حدث ذلك أو كان هذا هو ما أشعـْـناه عنهم، المعايرة الثانية: أنه ليس عندهم مدرسة ابتدائىة فى حين أن فى بلدتنا واحدة، أما المعايرة الثالث: فهى أنهم لا يمانعون أن يأكلوا من حيث لعقت كلابهم، وهذا بسبب أنهم يتعبدون على مذهب الإمام مالك الأقل تحفظا بالنسبة لمسألة “نجاسة الكلاب”.
على الرغم من أننى أتقمص والدى فى كثير من أيام الجمع محتميا بفتواه المعـلنة، مؤتنسا بتدينه الشديد، فأنا أكثر حرصا على صلاة الجمعة فى السفر أكثر من حرصى عليها مقيما فى بلدنا، ولعل ذلك كان أحد أسباب انتظامى عليها فى جامع باريس، وربما كان لذلك علاقة ما بحرصى على صلاة العيد (على الرغم من أنها سنة وليست فرضا) أكثر من حرصى على صلاة الجمعة، ذلك أننى متى سافرتُ فإن تعرفى على الناس يكون أوثق وأعمق أثناء تأدية العبادات معا، الانتماء إلى جماعة الناس المختلفين مع توحد العبادة يجعل لهذه العبادة دلالة ووظيفة خاصة جدا تمثل موقفا محوريا فى إشكالة وجودى شخصيا.
اليوم الجمعة، ونحن الآن فى أقصى شمال غرب اليونان، ومثلما قلنا فإن كل ما هو حول الحدود تجد تشابها بين الناس والمبانى حول جانبى الحدود، لتدرك ـ كما ذكرتُ ونحن نعبر إلى يوغسلافيا ـ أن هذه الخطوط بين البلاد وهمية. كنت كلما اقتربت من، أو اخترقت. بعض القرى اليونانية قرب الحدود، أحسب أننى ما زلت فى تركيا، ذلك أننى كنت ألمح ما يشبه المئذنة، ولم آخذ المسألة جدا، لعلها مآذن تشبه مآذن بيوت مصر الجديدة، (مصر الجديدة التى بناها امبان البارون وليست مصر الجديدة النزهة، والحى العاشر وإخوته. أعوذ بالله، هذه كلها ليست مصر الجديدة، ولا القديمة ولا النصف نصف)، سألت نفسى: هل يوجد مسلمون فى هذه القرى، وهل تقام الجمعة؟
لم أستطع مقاومة نداء يدعونى إلى الانحراف إلى داخل إحدى هذه القرى بعد أن نظرتُ فى الساعة، ورجحت أن هذا وقت صلاة الجمعة. وقد كان.
سألت بالإشارة (إشارة التكبير) والنظرفى الساعة، وعلامات الاجتماع، فاستجاب لى أحدهم، فالثانى، حتى وصلت إلى مسجد صغير جميل، الوضوء بعيدا عن المسجد تماما فلا رائحة ولا رطوبة، والله سبحانه يحيط بالمكان بشكل مباشر (لا تسألنى كيف)، والناس صفين ونصف فقط، والمنبر من درجتين، والكلام باليونانية (فى الأغلب) لكن الخطبة بالعربية، وكذا الصلاة طبعا. أراهن أن الخطيب لا يفهم نصف الخطبة على الأقل. خرجت وأنا أتعجب، زدت فهما لعمق وظيفة الدين، أنا على يقين من أن الله سبحانه لا يحتاج إلى لغة معينة لنعرفه.
ونصل إلى “أسبراجاليا”، ونلمح المخيم الذى لم يستضفنا إلا ساعة ونصف ساعة، ثم طردتنا عاصفته التى بررتُ بها هروبى فجرا عقابا لزوجتى التى حرمتنى من الاستجابة لنداء ركنى الصغير، ونخترق وسط المدينة بالنهار فنلاحظ أن السوق الأعظم الذى بهرنا ليلا (ذهابا)، لم يعد”أعظم” بطلوع النهار (إيابا)،
حين وصلنا الى سالونيكى كنا بعد العصر، فكرنا أن نسأل عن موتيل قريب أو مخيم، إلا أن سطوع الشمس أغرانى بالاستمرار وذكرتنى زوجتى بوعدى ألا نسير ليلا، فأكدت لها أننى عند وعدى.
لاحت لافتة تقول: كاتيرينا لكن السهم كان يشير إلى الغرب، ونحن نتجه جنوبا، واقترحت زوجتى أن نقضى فيها ليلتنا، لكننى كنت أتمنى بعد ما حُــلّت المسألة (أية مسألة؟) أن أقضى الليلة بالذات فى مكان طيب يليق بحالتنا الطيبة التى هى (حالتى على الأقل) تكاد تكون عكس ما كنتــُـه أثناء الذهاب. كاتيرينا هذه كما تبدو على الخريطة بلد كبير، وأنا فى عرض قرية على الشاطئ، فغامرت بالاستمرار داعيا الله ألا نبلغ مغرب الشمس إلا وقد عثرت على ضالّتى.
بعد أقل من نصف ساعة لاحت معالم تشير إلى احتمال قرب قريــةٍ ما.
فعلا، وجدنا شارعا جانبيا، إلى الشرق هذه المرّة، عليه لافته قرأناها بالكاد كان نطقها صعبا إذا قورن بما اعتدنا عليه، كان اسمها “ليبتوكاريا”، فانحرفنا على الفور دون حتى أن نتبادل المشورة، و على أول الطريق الجانبى، على الناصية وجدنا محل ملابس نسائىة تبدو فاخرة، لكنه محل وحيد، ما هذا؟ من الذى يأتى هنا لهذا المحل المنعزل؟ دخلنا ونحن نتنظر مباراة فى التهتهة ولغة الإشارة، وإذا بنا نفاجأ بعجوز لا تبدو عليه اليونانية، فعلا ما إن سألنا: تتكلم الإنجليزية؟ لا، طيب الفرنسية ؟ حتى انطلق وكأنه وجد لـقيّة، وراح يرطن بالفرنسية بطلاقة لم نقابلها من قبل فى أى يونانى. ورغم خيبتى البليغة وقلة أبجديتى فى الفرنسية إلا أن اللهجة الباريسية التى تعلّمتُ بها الكلام لأغراض الحياة اليومية، تجعل من يسمع الجملتين الأولتين منى يحسب أن تحت القبة شيخا، أسعفنى ما حضرنى من فرنستيى الهزيلة رغم اللهجة السليمة، وهات يا حديث معه بها، فرح بى الرجل كما فرحتُ به، ثم راح يتباهى بأمه البلجيكية وكيف أنه أقام فى فرنسا كذا سنة، وألمحت بدورى إلى السنة إياها التى أمضيتها فى باريس، والتى تحولتُ فيها إلى ما هو أنا، ثم إلى ما هوبعد ذلك، و هكذا تبادلنا تاريخا مناسبا بسرعة. كان المحل يعرض مجموعة من الملابس الجلدية بالذات، كما كانت الأثمان ليست كما تركناها فى اسطانبول ولا كما اعتدنا عليها عموما، كيف فى بلدة نائية مثل هذه البلدة تكون الأثمان هكذا بهذا الارتفاع، ومن ذا الذى سوف يشترى بهذه الأثمان؟ فى هذا المكان المنعزل؟ من هذا المحل المنفرد؟ أرزاق.
مشينا كما أشار اليونانى نصف البلجيكى، وبعد كيلو مترين أو أكثر قليلا لاحت لنا هذه الليبتوكاريا.
بلدة صغيرة جميلة وعلى البحر، هكذا خبط لصق، وجدنا فندقا صغيرا، بسرعة، يكاد يكون خاليا إلا منا، ومن أصحابه، نبهنى صاحبه أننا فى نهاية الموسم، وأن المدارس فى اليونان تفتح فى أول سبتمبر، وأمام الفندق (الموتيل) كان يوجد محل مكتوب عليه كلمة لا فتة لم أفهمها ولا أذكرها الآن، تبينت فيما بعد أن معناها “ستائر”، وتكررت مثل هذه المحلات كثيرا، وعلمت أن اليوغسلافيين (لست أدرى الآن أى عرق منهم) مهرة فى هذا النوع من الشغل والأنسجة وأنهم يحضرون فى الصيف يسوّقون بضاعتهم الرخصية ويقضون بعض الاجازة بما يربحون، وهم يتمتعون ببعض الحرية، الموقوتة، وتكررت مشاهدتى لهذه اللافتات، وتذكرت لعبة بضائع غزة فى الخمسينات وأوائل الستينات، عندنا، ثم رحلات بورسعيد قبل الانفشاخ (أعنى الانفتاح).
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم الفصل الرابع: (الفصل المفقود: 1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ”(10)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.