الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الرابع: الفصل المفقود: (1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ” (5)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الرابع: الفصل المفقود: (1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ” (5)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 23-10-2024

السنة الثامنة عشر 

العدد: 6262 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”[1]

الفصل الرابع

الفصل المفقود: (1)

ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ (5)

….  واللحنُ ظِلُّ الناس فى حُضْن القمرْ

تنوُّعاَت البرق ِ والرعودِ

لــحفر بئرٍ غائر بلا مياه،

وزهرةٍ بلا شجرْ،

وبيضةٍ بلا يمامْ.

وغَارُهَا:

ممَرْ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ.

وعنكبوتُها:

يدبّج النقوشَ فوق طينٍ أَحْرَقَـتْهُ ناَرُ أحلامِ الّذهَبْ

غجريّةٌ فى ثوبِ سهرةٍ عريقْ،

تسحَبُ عَنْزَها الثَّمِلْ.

المقطم 22/3/2000

………………….

………………….

المواصلات أصبحت أسهل بينى وبين زوجتى، فتحققت تسوية صامتة بعد مفاوضات سرية، هل رأيتم فائدة المفاوضات السرية!! يا أيها الوطنيون البلهاء!!! هى اطمأنت إلى أننا سافرنا ولم نعد أدراجنا، وأنا اطمأننت إلى أنى وجدت مكانا بعيداعن المدينة، وأننى يمكن أن أبدأ الـمشروع المزعوم لكتابة أطروحة الجنون والإبداع، وحين نزلنا إلى الكافتيريا لنتناول لقمة بعدما تأكد وصولنا، وجدت حولى كل الجنسيات إلا الأتراك، فلماذا جئنا هنا إذن؟ أحيانا أضبط نفسى وأنا أذهب إلى دهب، ليس فقط لأنى أحب جنوب سينا حبا شديدا، ولكن لأكون بين خواجات أكثر من المصريين، أعنى أكثر من القاهريين، هكذاأكتشف مجددا أننى لا أمتطى صهوة الطريق إلا لألاقى الناس الذين يُشعرونى ـ من خلال الاختلاف لا التشابه ـ أنى واحد من الناس، ناس دهب وليس ناس شرم الشيخ، ناس مرسى مطروح (زمان 1966). وليس ناس مارينا، ناس طنطا وليس ناس مصر الجديدة، الناس الذين مازالوا يحاولون أن يظلوا ناسا، أرجح أن كل هذه التصنيفات هى تعميمات متحيزة!!. ففى كلٍّ خير.

بدأت جولات التعرف على المعالم بسرعة، ونزلنا إلى وسط البلد بعد أن استشرنا فتى الفندق الذى يجيد الإنجليزية وكأنه خواجة ابن خواجة، هل استطاع الأتراك أن يصبحوا خواجات بحق؟ كنا قد سألناه بقلة ذوق: هل هو مسلم، فرفع حاجبيه مستكرا، وكأنه لا يوجد احتمال آخر.

كل الأتراك مسلمين. وكل الأسبان مسيحيين. يعنى ماذا؟

عيب والله هذا الذى جرى.

فى الذهاب إلى المدينة، كان من السهل أن تأخذ أى حافـلة صغيرة،ميكروباس، لتوصلك إما إلى وسط المدينة أو إلى حى تاكسيم مباشرة (الحى الذى أوصانا به فـتى الفندق)، أما عند العودة فقد تعجبنا من هذا التنافس العجيب على اصطياد الزبون وكأننا فى موقف كفر الزيات، أو منوف أو حتى أحمد حلمى (قبل إلغائه) والمنادى ينادى واحد مصر أو واحد المحلة، فى كل ميكروباس فتى يقف على السلم ينادى على اسم الجهة المتوجهة لها، هذا جديد علينا يشعرنا أننا فى بلدنا أكثر فأكثر،

أما الذى أفاقنا فجأة لنتأكد أننا لسنا فى أوربا (على الرغم من أننا فى أوروبا!!) فهو عدد المآذن التى امتلأت بها سماء اسطنبول، وأفتش فى ذاكرتى وفيما حصلت عليه من كتيبات تحكى عن ما نحن فيه فأكتشف أن فتح القسطنطينية لم يتم إلا حديثا (سنة 1435).

إذن فقد ظلت أوربية مسيحية حتى هذا التاريخ. إذن…، إذن ماذا؟

لا شىء. الله!!!

أين الفاطميون فى مصرالآن؟  أين الشيعة؟

 ألم يحكم الفاطميون مصر مئات السنين؟

(مرة أخرى) أين المسلمون الأسبان؟؟

 يبدو أن التاريخ السرى يقول إن الإنسان أقسى إبادة لأخيه الإنسان أكثر مما نحسب.

أحبت زوجتى حى “تاكسيم”  بالذات مع أنه لا توجد به فرص تسويق كثيرة، بالنسبة لى كان أقرب إلى الحى الثامن عشر الذى عشت فيه فى باريس فى السنة إياها (86 ـ 96)، رحت أشبّه: الشوارع والميادين بما يقابلها فى باريس، متذكرا ما فعله صديقنا فى بوسطن بتشبيهاته معالم القاهرة بمعالم مقابلة فى مهجَرِه فى بوسطن، رحت أنا كذلك أهمس لنفسى: هذا ميدان كليشى، وذلك شارع كولانكور، نفس النوافذ، نفس الشرفات الصغيرة، شرفات لا تستعمل، هى نوافذ مستطيلة أمامها مساحة ضئيلة جدا ربما لوضع أصص الزهور لا أكثر، نحن فى أوربا فعلا، وحى تاكسيم هذا كأنه جزء من باريس، ثم نفس الحدائق ونفس اتساع الشوارع، لكن الناس غير الناس.

 عدلت مؤخرا عن وصف الناس بأن هذا أحسن وذاك أسوأ، هم ناس وخلاص. لكنهم دائما ناس “غير” بعضهم البعض. بقدرما يشترك الناس فى كونهم ناسا، فإنه لا يوجد ناس مثل بعضهم، حتى لو كان الطريق واحدا.

أثناء عودتنا من “تاكسيم” عرجنا على ما يسمى “وسط المدينة، تاركا لزوجتى مهمة حفظ أرقام الحافلات التى تذهب بنا هنا أو هناك، كنت كمن يحاول إنكار أنى وصلت حيث لم أخْـتَــرْ، فعلى الرغم من كل هذه المصادفات المهدئة كان داخلى مصرا عل نفس موقفه من التحصّن فى الفندق الصغير فى الضاحية البعيدة طول أيام إقامتنا فى اسطنبول، وفى نفس الوقت يبدو أن زوجتى لم تكن تصدق أن الرحلة مستمرة وأن أزمة “البارانويا” أعنى “الباراليا” قد مرّت بسلام، (زلّة قلم محسوبة علىّ بتأويل فرويدى، لكنّها مقصودة يا عم سيجموند، ولاهى لا شعورية ولا حاجة، ضحكتُ عليك)، فراحت زوجتى تمارس دور المرشد الذى اعتادت أن توكلنى به، واثقة فى حاستى المكانية الفائقة. وهكذا حضرتُ إلى تركيا ولم أحضر.

بدأت رحلات زوجتى الماكوكية بين الفندق ووسط البلد وتاكسيم، كما بدأت رحلتى الجدلية بين الجنون والإبداع، تلك الرحلة التى لم أغادرها طول اشتغالى بمهنتى هذه، أو حتى قبلها.

 أرى المجنون مبدعا مُجهـَضا مهزوما، كما أرى المبدع مجنونا متجاوزامخترِقا مسئولا، متحملا لمسئولية ما أقدََم َ عليه مختلفا. وكنت كلما تقدمت نحو هذين المتناقضين معا ازددت معرفة، وازددت يقينا بأن خبرتى فى هذه المنطقة تسمح لى بإضافةٍ ما.

حفظتْ زوجتى المكان والمحلات وصادقت الناس بغير لغـة، وزاد من انطلاقها أنها يئست منى تماما أن أصحبها لبعض ذلك، وفى نفس الوقت لم أستطع أن أنجز شيئا من الكتابة و”الإبداع”!! حتى نزول حمام السباحة لم أنزله أصلا.

ثم إنى وافقتُ على اصطحاب زوجتى فى اليوم الأخير لترينى معالم مارأت ْواكتشفتْ، مما يجعلها منبهرة هكذا طول الوقت.

20/8/1986

هو اليوم الأخير لنا فى تركيا، وأنا لم أخط شيئا فى موضوع الجنون والإبداع إلا عددا لا حصر له من العناوين والخطوط والمقابـَلات والاقتراحات والأسئلة والشطب، فما الداعى للبقاء أكثر. يبدو أنه بالرغم من رخص الأسعار، وتقليد البضائع بنفس الماركات العالمية دون تردد، فإن رصيد زوجتى ابتدأ يهتز حتى وافقت على الرحيل مبكرا، مع أننى كنت أعمل جاهدا أن أصلح ما أفسدتْـه المحـزنة التى أقمتها لحرمانى من تحقيق رغبة فى شىئ ليس له وجود  (ياللبصيرة !! ماالفائدة؟).

 ذهبنا إلى حى تاكسيم الذى أحبته زوجتى أكثر.

عند العودة، مارين بوسط المدينة، قررتُ أن أصلى الظهر فى أحد المساجد الكبيرة فى وسط المدينة، لمحتُ مسجدا أقرب إلى مسجد محمد على بالقـلعة منه إلى مسجد السلطان حسن، دخلت فإذا به خال تماما إلا من بعض الكهول بجوار الأعمدة، لكن هناك فى المقدمة وجدت شابا لا يتعدى العشرين وقد جلس يتمايل أماما وخلفا بانتظام، فعرفت أنه يتلو القرآن، ربما انتظارا للأذان، اقتربت منه دون أن يشعر فوجدته يرتل بنغم هادئ وبسلامة نطق متوسطة، خجلتُ (أو استحرمت) أن القى عليه السلام وهو يقرأ، لاحظنى الشاب برقه فأنهى قراءته وألقيتُ عليه السلام فـردّ بوضوح، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. لكننى عجزت بعد ذلك عن مواصلة أى حوار مفيد، على الرغم من كلامى معه بالفصحى،

كيف يقرأ بهذا الوضوح وفى نفس الوقت يكاد لا يعرف العربية؟

مازلت أتعجب للمسلمين الذين يرددون القرآن بوجْد منجذب، وسلامة نطق جميلة، وحب واضح، وهم ليسو عربا، وفى نفس الوقت أعجب من صاحب اللسان العربى الذى لايستغل هذه النعمة الخاصة (أن لغته هى العربية) التى تتيح له أن يعيش هذا النبض الحى كما أُنزل بلغـته، اكتفيتُ بهذه الجرعة وأنا أتساءل عن إسلام تركيا (كان ذلك قبل حكاية أربكان وحزب الرفاه ثم الفضلية، والذى منه).

كان الشاب الذى يتلو القرآن، على الرغم من رقته، حزينا، لا أعرف لماذا؟ ولا أعرف كيف قررت أنا ذلك، هذا طبعٌ سخيف، لعلّه حـُزنى أنا الذى أوزعه على الناس هنا وهناك.

بعد ذلك بسنوات، أتيحت لى فرصة صلاة الجمعة فى الإسكندرونة فى أقصى الجنوب الشرقى، كان المسجد كبيرا جدا، جدا، عايشت طقوساً لم أتوقعه:  فثمة خطبة بالتركية، وأخرى بالعربية، والقرآن والصلاة بالعربية، ودعاء الرجل بجوارى بين الخطبتين بالتركية (فى الأغلب) .

 “الله واحد” بكل اللغات، والمسلمون هم المسلمون، والدين عند االله الإسلام.

كان ذلك ضمن رحلة قصيرة نسبيا .

انتهزتُ فرصة ترددى المنتظم على دمشق فى شأنٍٍ علمى (الشهادة العربية لاختصاص الطب النفسى) واتجهت مع زوجتى شمالا إلى أنطاكيا حيث عايشت الفرق الهائل بين اسطنبول (باريس ذات المآذن) وبين أنطاكية (سوريا تتأتْركْ)، فى أنطاكية: كان أغلب من تزيد عمره عن أربعين سنة يتكلم العربية الشامية بسهولة وطلاقة وحنين، أما الشباب (عشرين سنة فأقل)، فهم لا يعرفون إلا التركية (عادة)، وتعجبت كيف تتعايش هذه الأجيال معاً فى بيت واحد، اسطنبول (القسطنطينية) لم يفتحها المسلمون إلا سنة (1435) ولواء الاسكندرونة انتزعته تركيا انتزاعا، أنطاكية كانت عاصمة سوريا خلال القرن العاشر والحادى عشر الميلادى، واستولت عليها تركيا ـ أو أصبحت جزءا منها ـ سنة 1923). ما هذه الحدود بالله عليكم؛ بالله علينا؟ إلى متى سيظل العالم يـُقَسَّـم حسب من يملك سلاحا أسرع، وبجاحة أجهز، وسحقا أقدر. العالم يعاد تقسيمه باستمرار: مرّة بالصدفة، ومرّة بالخيانة، ومرة بالصفقة، ومرارا بالحرب؟ والآن يختلط كل شئ بكل شئ لحساب سيد مجهول.

كانت رحلتى إلى أنطاكية ذات دلالة خاصة، وذات دافع خاص، ذلك أننى كنت قد انقطعت عن الترحال بالسيارة لافتقادى الصحبة متعددة الأطراف، والأعمار، لكننى ظللت أتردد على دمشق أربع مرات فى السنة (على الأقل) لنفس الأسباب العلمية السالفة الذكر، ثم قررت أن أذهب إلى دمشق بالسيارة عبر الأردن، لعلى أستعيد “وعى الترحال” فيبـلُ غنى شأن آخر.

فى الطريق من العقبة إلى عمان كنت مؤتنسا مسترخيا، أفتقد دهشة السفر، الطريق إلى عمان ليلا ملئ بالشاحنات التى لم تكن أضواؤها هى المشكلة بقدر ما كانت آثار المازوت الذى يتساقط منها يجعل القيادة مخاطرة حقيقية، حين وصلت إلى عمان حقدت علىها. وعلى عمارتها وهى ملتزمة بالواجهات الحجرية أو الرخامية من نفس اللون تقريبا، رحت أقارن بيننا وبينهم، حتى فى المقطم المفروض أنه منطقة جديدة، وسياحية (حيث أسكن!!) يوجد قدر مقزز من النشاز المعمارى، حتى يخيل إلىّ أن من يبنى مبنى جميلا وسط هذا النشاز،يصبح مُطالـَبا بالاعتذار، وعموما فإن الجمال وسط النشازيصبح نشازا بالعدوى، أو بالأغلبية.

………………….

………………….

ونواصل الأسبوع القادم الفصل الرابع: (الفصل المفقود: 1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ”(6)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *