نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 16-10-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6255
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]
الفصل الرابع
الفصل المفقود: (1)
ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ (4)
…. واللحنُ ظِلُّ الناس فى حُضْن القمرْ
تنوُّعاَت البرق ِ والرعودِ
لــحفر بئرٍ غائر بلا مياه،
وزهرةٍ بلا شجرْ،
وبيضةٍ بلا يمامْ.
وغَارُهَا:
ممَرْ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ.
وعنكبوتُها:
يدبّج النقوشَ فوق طينٍ أَحْرَقَـتْهُ ناَرُ أحلامِ الّذهَبْ
غجريّةٌ فى ثوبِ سهرةٍ عريقْ،
تسحَبُ عَنْزَها الثَّمِلْ.
المقطم 22/3/2000
……………….
……………….
زوجتى تأخذ شهيقا هادئآ لأول مرة منذ ما يقرب من مائة كيلومتر، ويبدو أنها لم تصدّق بعد أننا لن نكمل الرحلة ليلا إلا حين رجعنا إلى هذه المدينة النصف نصف، نحييها تحية المساء ونتأكد أننا فى مدينة بها كهرباء وناس وسوبرماركت، به فاكهة وأدوات من البلاستيك، وأكياس كثيرة مليئة بأشياء كثيرة، وجه زوجتى يقول إنها مطمئنة إلى أننا فعلا فى طريقنا إلى تركيا وأنها تشتاق إلى استكشافها جدا (لا أعرف لماذا) لم انتبه ـ كالعادة ـ إلى محتويات السوق الأعظم (السوبر ماركت) الذى ظل مفتوحا حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل فى هذه البلدة الـ “أسبراجاليا”، لكن مجرد التواجد وسط الناس، وشراء بعض الفاكهة وبعض التذكارات كان كافيا لعودتى كما كنت قبل حكاية “الركن القصى، والجذب اللحوح”.
كلما ازددت شفقة على زوجتى، واعترافا بخطئى بينى وبين نفسى، ازددت قسوة ظاهرة أو خفية عليها، وكلما ازددت صمتا ازدادت زوجتى توجسا.
رجعنا إلى المخيم أحسن على كل حال، واقترحت عليها أن ننام فى العراء بجوار أى خيمة منتصبة داخل كيس النوم (Sleeping Bag) لكل منا، فلم نجد إلا كيسا واحدة، ففرشنا قماش نصف خيمتنا وكأنها حصيرة، وتغطينا بالنصف الآخر. كان الجو محتمل البرودة.
لا نعرف كم لبثنا هكذا، ولا إن كنا نمنا أصلا أم لا، حيث بدأ الريح يشتد فى تصعيد غير مألوف لنا حتى قامت عاصفة متوسطة أخذت تشتد حتى انتبهنا جلوسا فى أشد حالات اليقظة. لا يوجد حل آخر، قمت قفزا إلى السيارة متصورا أن النهار قد اقترب. حاولت زوجتى بطريقتها المهذبة الحريصة أن تنبهنى، لكن المحرك كان قد دار. محرك دماغى قبل محرّك السيارة. لممنا أشياءنا الصغيرة بسرعة، أيقظنا الحارس بصعوبة ليفتح لنا الباب، ويأخذ حساب الليلة. وننطلق دون أن أنظر فى الساعة أصلا.
الاتجاه شرقا، والعاصفة تشتد، والرؤية محدودة، ولا تهدينا إلا أنوار الشاحنات التى تعلّمتُ كيف أنها تزداد عددا وشطحا بعد منتصف الليل. لم أنظرفى الخريطة. لا يوجد احتمال آخر. إلى الشرق. دائما نحو الشرق،
مدى الرؤية يقل حتى يكاد ينعدم. أستنتج ارتفاعنا عن سطح البحر من علو أنين السيارة رغم قوتها وسعة اسطواناتها.
يقترب فجرٌ آخر. فجرٌ يحاول أن يخترق طريقه إلى جبال لم تظهربعد، تحول بينه وبينها تلك العباءة المتسخة المصنوعة من عدد من الرقع من الـضباب الأسود. نكتشف أن هذا السواد ليس ضبابا صرفاً، وإنما هو مختلط بنسب متفاوتة من الدخان والهباب. تتراءى أشباح مصانعٍ ما فلا أميّز الضباب من الدخان من الهباب. نشاز ليس كمثله قبح. أكتشف أن مزاج أمس ما زال كامنا متحفزا. وسط كل هذا السواد الرمادى المبرقش تتبين زوجتى بصعوبة أننا نـدور حول جبلٍ ما. فوق جبلٍ ما. جبل منسطحة ٌ قمته، لكننا على حافتها. تنظر زوجتى إلىّ متسائلة فى صمت “لماذا، إلى متى”؟ ولا ينادينى الوادى السحيق، فلا أرد عليه.
نخترق البلد الكبيرة التى لم أعتن أن أعرف اسمها، كانت مصانعها القبيحة قد استقبلتنا منذ قليل بهذا الخليط الرمادى المتسخ، وحين تمتص مبانيها بعض عباءتها الداكنة نلمح معالم بشرية، تسير فى عجلة باكرة، ليست هى نشاط الصباح الجميل على كل حال، كما نلمح بعض الأتوبيسات ونتذكر ـ أتذكر ـ أننى لست وحدى فى هذا العالم، هذه التذكرة تقفز إلىّ بتكرار ملح، بلا فائدة على ما يبدو، لسنا وحدنا فى هذا العالم. لست أنا العالم.
ما هذا؟ لماذا؟ فسحة هى؟ رحلة؟ أم قهر ذاتى بلا مبرر؟!
كل ذلك لأننى لم أتمكن من الاستجابة لوهم جذب الركن القابع فى داخلى أُسقطـُه على أى زاوية مهجورة، وأنا على يقين من أننى لو أمضيت فيه عاما أو سبعة أعوام (مثل باتيست جرينوى- العطر. قرأته لاحقا. سبتمبر ، باتريك زوسكن. خِفت) سوف أغادره وأنا أبحث عنه من جديد؟
كيف أكون بكل هذه البصيرة، ولا أكف عن الخيال الواعد خداعا هكذا؟ ماذنب زوجتى ياناس فى هذا كله؟ إما أننا معا على سفر أو: لا.
ومادمنا قد أخذنا تأشيرات تركيا واقتصر هذا الجزء من رحلتنا على تركيا، فما الداعى لـلمراجعة أو التراجع؟
أشعر أن بصيرتى هذه المرة تقوم بعملها أفضل،لا أستعملها الآن للتبرير الذى يغرى بالفهم لكنه يترك الحال على ما هو عليه. شعرت مع اقتراب النهار أنه يحمل معه رحمة ربنا بقدرٍ يكفى أن أتجاوز هذا كله، ومع اقتراب إشارات الحدود، اكتمل طلوع الشمس وهدأَ الداخل، إلا قليلا.
على الحدود كانت الإجراءات بسيطة، والأتراك أقرب لنا، وإن كانت اللغة بدت لى سخيفة الجرْس، لست أدرى كيف أسرعتُُ بالحكم عليها بالسخف مع أن المفروض أن كل لغة غريبة تكون كذلك؟ من أين آتى بهذا المفروض؟ خذ اللغة الإيطالية مثلا، أنا لا أفهم حرفا فىها، لكننى أشعر أنها لغة شديدة الجمال، ألمحتُ من قبل كيف يغنى أهل الوسط فى فرنسا. يغنون وهم يتكلمون، إنك تستطيع أن تميز موطنهم الأصلى أىنما حلوا فى فرنسا. فليست كل لغة جديدة سخيفة الجرس، فلماذا التعميم؟
أثناء إجراءات الحدود كان معنا بعض اليونانيين، شعرتُ أن رجال الجمرك الأتراك قد فصلوهم عنا ،مثلما تفعل عندنا دورية المرور حين تدع العربات الخاصة تمر دون العربات النصف نقل، أو الأجرة، خيّل إلىّ أنهم حجزوهم على جانب، مع أنهم لم يفعلوا ذلك. الوجوه مكفهرة على الناحيتين، والكراهية تكاد تقفز من الحقائب قيد الفحص، وأيدى رجال الجمارك تغوص فى المحتويات وكأنها تقلّب التاريخ بين البلدين، أما نحن (غير اليونانين) فلم يطلب منا أحد حتى فتح حقيبة السيارة، داخلنى شعور بالارتياح الخبيث لم أعرف مدى خبثه إلا فيما بعد، تذكرتُ وأنا راجع من أسبانيا إلى فرنسا حين قسمونا إلى قسمين، الأول: مواطنوا دول السوق الأوربية، والثانى: سائر الآخرين، أولعلهم كانوا العرب خاصة، وفهمت معنى “أولاد الجارية”، وها هم اليونانيون دون غيرهم يوشَمون بوشم “ابن الجارية” على الحدود التركية، ماذنب الأفراد يحملون أوزار حكوماتهم، بل ماذنبهم يحملون حزازات تاريخهم؟ أصعب الأمور على النفس حكاية التمييز هذه بلا ذنب اقترفه المنبوذ، وتطوف فى خيالى كلمة “المنبوذون” فى الهند خاصة، مجرد الكلمة تشعرنى بآلام حارقة وغيـظ مسنن.
أنا لا أتصالح مع ذكرى عبد الناصر إلا حين أقابل أحد “أولاد الناس” الذين ما زالوا يعامِلون غيرهم من الناس على أنهم ليسوا “ناسا” أو على أحسن الفروض كمواطنين من الدرجة التاسعة. بعد كل هذه السنين من قيام الثورة لم تنسَ هذه الطبقة أبدا، أنهم من طينة أخرى، بل إن بعضهم، وهم من تلاميذى، وقد أصبحوا أساتذة طب وعلوم وكذا، أشعر أمامهم أنهم ما زالوا يعاملوننى شخصيا من فوق’، وأنهم يمارسون تميزهم بأصلهم، لا بـِعلمهم ولا بطبّهم، وأنهم يحكمون على واحد مثلى بالتطفل على موائدهم بسبب مجانية التعليم، فما بالك بحكمهم على الآخرين، فأترحّم على عبد الناصر مضطرا. وأقر وأعترف أنه هو الذى كسر شوكة هؤلاء الناس بما ينبغى كما ينبغى، وأقل، أو أكثر. صحيح أن طبقة أخرى أقبح وأقسى وأكثر ظلما تكونت، لكنها طبقة “كنظام” الحكم الفوقى. طبقة لا يتقن أبناؤها ألعاب وأنَفَةِ أولاد الأصول ذوى الدم الأزرق، لا يعرفون كيف يمدون أيديهم لـلسلام نصف نصف، ولا كيف يستعملون “الشفقة” للاستعلاء لا للعطف والتراحم، يعيش جمال عبد الناصر، يعيش غصبا عنى، ولو أنى لا أستطيع أن أنسى له كل ما فعله من “عك”. متى يدفع الواحد منا، قائدا أو موظف أرشيف، ثمن ما اقترف هو فقط، دون ذويه، أو طائفته أو أهل دينه؟
وهذا هو موظف تركى لا ذهب ولا جاء، يمسخر مواطنا يونانىا يعبر حدوده، لأن واحدا يونانىا آخر احتقر بائع سميط من أصل تركى فى نيقوسيا. متى نصير بشرا بحق؟
وعدتُ نفسى أن أقوم بدراسة مقارنة على الحدود عند عودتى إلى اليونان لأعرف كيف يعامل موظفوا الجمارك والجوازات اليونانيين زوارهم من الأتراك وهم يدخلون عبر الحدود البرية؟ هذا بعض فضل السفر بالسيارة.
بصمات التاريخ، فى البلقان خاصة، لا تريد أن تمّحى.
أتذكر سنة 1969 فى احدى رحلاتنا الأسبوعية فى فرنسا، لعلها كانت إلى الشمال. نورماندى، وكانت هذه الرحلات ـ كما أشرت سابقا ـ تضم كل الممنوحين من العالم الثالث (بما فى ذلك اليابان!!!) وكان معنا زميل يوغسلافى شديد الرقة والشاعرية والأدب (اكتشفت الآن أنه صربى!! وماذا فى هذا؟ ليسوا سواء) كما كان معنا زميل تركى شديد الصلافة والاحمرار والفوقية، وحين انتشى التركى حتى السكر على مائدة العشاء بدا مشاكسا عدوانيا فجّا مع اليوغسلافى بلا مبرر واضح لأحدنا، وكنت قد شككت فى ما يدور تحت المائدة بين التركى وصاحبةٍ له ملتبسة الهوية، كانت فرنسية – فى الأغلب – ضخمة الملامح والحضور معا، شككت فى أن شيئا قبيحا يدور تحت مفرش المائدة، فهل كان هذا هو سبب الاحتكاك، وحين اختليت بالصديق اليوغسلانى أخذ يحكى لى تاريخا يبرر تصرفات التركى، وكأنه يحكى عن الأغا فى رواية كازانتزاكس المسيح يصلب من جديد، (ملحوظة: لم يكن التاريخ قد عاد يمارس التصفية العرقية والتوحش البشرى فى البوسنة أو كوسوفو بعد).
نحن الآن فى داخل تركيا. اختلفت المناظر ـ فجأة ـ إلى مالا يسر، الخضرة أقل، الجبال تتوارى والأرض تنـبسط والطريق يتسع، والناس لاهم خواجات ولا هم عرب، ولا هم مصريون، وأتذكر ركاب عربة الأتراك الذين قابلناهم فى طريقنا من يوغسلافيا إلى إيطاليا فى الرحلة الأولى، وأرجح الآن أنهم كانوا أكرادا فعلا. أما أتراك ما بين الحدود واسطنبول فلابد أنهم أوربيون أسلموا مؤخرا. حتى قرب النصف الثانى من الألفية الثانية، كانت القسطنطينية أوربية، وكانوا مسيحيين كيف أسلموا جميعا 001% كيف تنصّر كل أهل الأندلس بلا استثناء، أى قهر تواصل عبر التاريخ كله؟ قف كما وقفت العربة عند أول محطة وقود، محطة ليس بها كل الخدمات التى اعتدناها فى اليونان (وفى أوربا عامة). طبعا نحن لا نعرف كلمة واحدة من اللغة التركية، فأخذنا نشير لعامل البنزين وهو يحاول أن يفهم، وأخيرا أخرجنا إليه بعض أوراق النقد التركية (بالملايين، مثل ايطاليا) فأخذ بعضها وارتسم على وجهه سؤال ما، وكأنه يقول هل تريدون بنزينا بهذا المبلغ؟ ووافقنا طبعا إنهاء للموقف، قام الرجل بمهمته وأنهاها بسرعة وهو يشير إلى عداد النقود (لا عداد اللترات) ولأوّل مرّة اكتشف فائدة أن يترجم لك العداد الثمن أولا بأول، ليست المسألة أن يسهل عليك الحساب وكسور الضرب والقسمة، ولكن ليسمح لك أن تختار بين أن تشترى عددا من اللترات أو بما تشاء من نقود، لايوجد مجال للتقريب (والتطنيش، واللكاعة)، ولغة العيون الراجية، فالفارضة، فالحاقدة، التى يتدرب عليها عمال محطات البنزين عندنا بسرعة هائلة. ولم يتصنع عامل آخر مسح الزجاج الأمامى واقفا أمام مقدمة العربة وكأنه يحول دون انطلاقها إلا إذا دفعنا المعلوم.
وصلنا ضواحى اسطنبول (القسطنطينية) ما أطول الاسم بالعربية، وجدنا فندقا مما يمكن أن نحبه. ما صدقت أنى وجدت هذا الفندق حتى عرجت إليه وكأنى لا أنوى أن أدخل اسطنبول أصلاً. مازال الاحتجاج مستمرا، أحتج على منْ؟ لماذا؟ كانت توجد اتوبيسات صغيرة يمكن أن تنقلك إلى وسط البلد كما تشاء، وتذكرت مخيم الألبادورو، ودقة مواعيد الأتوبيسات إلى فينسيا.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم الفصل الرابع: (الفصل المفقود: 1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ”(5)
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] – ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.