الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الرابع: الفصل المفقود: (1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ” (3)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الرابع: الفصل المفقود: (1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ” (3)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 9-10-2024

السنة الثامنة عشر 

العدد: 6248 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1]

الفصل الرابع

الفصل المفقود: (1)

ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ (3)

….  واللحنُ ظِلُّ الناس فى حُضْن القمرْ

تنوُّعاَت البرق ِ والرعودِ

لــحفر بئرٍ غائر بلا مياه،

وزهرةٍ بلا شجرْ،

وبيضةٍ بلا يمامْ.

وغَارُهَا:

ممَرْ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ.

وعنكبوتُها:

يدبّج النقوشَ فوق طينٍ أَحْرَقَـتْهُ ناَرُ أحلامِ الّذهَبْ

غجريّةٌ فى ثوبِ سهرةٍ عريقْ،

تسحَبُ عَنْزَها الثَّمِلْ.

المقطم 22/3/2000

…………………

………………….

أعتقد أن أول ذلك كان صيف سنة 1951، لم يكن هناك امتحان بين سنة أولى وسنة ثانية طب، كنت فى الحديقة التى اتخذها أبى بمثابة ركنه الصغير هو أيضا (هذا ما أتبينه الآن بوضوح). حجرتان لا تسعنا نحن السبعة بحال، ومع ذلك اضطررنا للانتقال من منزلنا الكبير وسط القرية (ثلاثة أدوار كل دور ثلاثة حجرات). لم يضطرنا أبى، بل أظن أن أمى، وربما أخى الأكبر هما اللذان وجدا أن هذا هو الطبيعى. هاجر أبى من بيتنا الكبيرذى الثلاثة أدوار غير البدروم  إلى هاتين الحجرتين العتيقتين فى تلك الحديقة التى تقع مقابل المقابر مباشرة، – ذكرت ذلك قبلاً – وكان ثمة مقابر متفرقة بينها مفتوحة بسبب الإهمال أو فعل الذئاب، وكنت فى حاجة إلى عظام آدمية من التى ندرس عليها التشريح، وكنت أحصل عليها ببساطة، وبوفرة تكفينى وتزيد حتى أهدى زملائى القاهريين بعض ما يفيض عنى. لم يكن يعترينى أى تردد أو خوف من تلك المقابر، أتذكر الآن كيف كنت أنسى وأنا أبحث عن عظمة ذراع أو فخذ، أنها مقابر أصلا، وأنها بقايا أعضاء بشرية فعلاً.

فى يوم ما، فى ذلك الصيف البعيد (1951)، سافر والدى إلى إخوتى فى القاهرة، وكانوا لم ينهوا امتحاناتهم بعد. أخطرنى أنه سيغيب يومين. وجدتنى وحيدا، وبدون أى سبب، تحت شجرة مانجو عتيقة جدا، وجدتنى أبكى بحرقة صادقة، ثم أفقت منتشيا وأنا أشعر أن وحدتى تتعمق بشكل رائع، فرُحت أتغزل فىها وكأنى عثرت على كنز ثمين، سجّلت ذلك كتابة (على ما أذكر. على الرغم من أننى لم أجد له أثرا فى أوراقى المبعثرة). حين ذهبت بعد ذلك إلى إحدى المقابر وحدى أستكمل بعض حاجتى من العظام، شعرت لأول مرة بهذا الجذب المريح الواعد، كانت لحظات عابرة لكنّها شديدة الوضوح، ثم نسيت الأمر تماما، ولم أتذكره إلا الآن وأنا أعِد هذا العمل للنشر(7/6/2000) بعد اكتشافى فقد مسودة هذا الفصل.

حتى حجرتى عند مدام كومباليزييه فى الحى الثامن عشر قرب المونمارتر فى باريس، اكتشفُ الآن أنها كانت ركنا قصيا على طرف المونمارتر، بعيدا عن زملائى فى الحى اللاتينى، وبعيدا عن كل ما هو قريب، كانت ركنا على طرف الدنيا، وليست حجرة فى شقة. حين أبتعد،أقترب.

لا تكتمل صورة الركن عندى إلا إذا كان صغيرا (حجرة واحدة عادة) ملحق به،(الأفضل:  فى داخله)  دورة مياه خاصة بها، مهما صغرت، ونافذتين على الأقل إحداهما بحرية،

بمجرد أن أجد نفسى فيه (ولو تخيلا) أهدأ وأترك نفسى لها، لكننى لا أستكين كما يتبادر إلى الذهن، بل سرعان ما يبدأ نزوعى إلى حركة جديدة يقظة متحفزة، لكنها ليست حركة ضجِرة ولا لحوح.

 أحيانا أتصوّر نهاية المطاف بعد التقاعد الاختيارى أو الاضطرارى فأركن إلى ركن خيالى وهات يا كتابة، أيضا ذهابا وعودة، وتقفز احتمالات ما لا أعرف بعد مشوارى الطويل الذى خدعتُ نفسى فيه بمواصلة معرفة المُتاح.

أعتبر هذا المتاح مجرد تمهيد للوعدالملوّح.

بعد صمت ثقيل، قطعنا فيه مالا يقل عن ثلاثين كيلو مترا اكتشفت أن اسم البلد الأقرب لهذا الكوخ الملوّح هو “باراليا،” قلت لزوجتى فجأة، وكأنى نسيت كل ما اهتدت إليه بصيرتى مما سبق، قلت لها جادًا مكفهرا فى غضب لايتناسب مع كل ما اعترفتُ به لنفسى عن نفسى: “إذا مـِتُّ، فأخبرى أحد الأولاد أننى كنت أريد أن أبيت هنا فى هذا النزل على الشاطئ تحت أقدام هذا الجبل، ولو ليلة واحدة.” لم ترد، ولم أشك أنها أخذت كلامى مأخذ الجد، ومع ذلك أكملتُ: أنا أعنى ما أقول، اعتبريها وصية، البلد اسمها باراليا، والمكان هو بجوار أقرب محطة لها فى اتجاه لامييا، ثم أضفتُ أيضا: أو ربما تمكنتُ يوما من العودة إليه وحدى. زاد صمتها غورا واحتجاجا، ورجحتُ ـ كما فرحتُ ـ أنها لم تشعر بالذنب، وأحسب أن هذا من أهم ما حفظ علينا حياتنا، حيث أتصور أن ما أمارسه معها من “تأثيم” كان جديرا أن يخرب بيوتا كثيرة، ونفوسا كثيرة، لكنها كانت دائما أطيب، وأظن أقوى من حركاتى تلك.

وصلنا إلى سالونيكى قرب المغرب، وهى العاصمة الثانية لليونان كما سمعت، وقد تذكرت أيضا، لا أعرف كيف، أن اسمها هذا مرتبط قديما وحديثا بأحداث خاصة وتاريخ متميز (مثل كل بقعة فى الدنيا على ما يبدو).

الجو بينى وبين زوجتى مازال مكفهرا قبيحا، كأنى أُخرجت فعلا من رحم مزعوم قبل موعد الولادة الطبيعية، ولادة مبتسرة دون حضّانة حانية ولو صناعية، أنا لم أدخل هذا الرحم المزعوم أصلا فكيف تكون الولادة دون حمل، حتى لو كانت مبتـسرة؟

 نسأل عن الطريق إلى حدود تركيا، ولا يطول السؤال ولا ندخل إلى وسط البلد، سالونيكى،، وتبدأ عربات الشحن العملاقة تكاد تسد الطريق إلى الشرق، إلى تركيا.

 تتجنب زوجتى أن تسأل، وربما أن تتساءل، عما إذا كنا سنواصل السير طول الليل أم سنلتزم بتحفظى الذى أعلنتُه بتجنب السير ليلا، تقليلا لاحتمالات الخطر، فهى تعلم أنه ما أسهل علىّ أن أُخل بتحفظى، وأن أجد المبررات جاهزة لأى دوران فى عكس الاتجاه. ثم إنه لا يبدو أى احتمال للتوقف أصلا، فلماذا السؤال أوالتساؤل؟

الشاحنات المتعاقبة والمتثاقـلة جعلت الحركة بطيئة، فزادت كثافة الهواء العازل بينى وبين زوجتى جدا. عبرنا سالونيكى من الخارج، وبالتالى أسقطتُها من حساباتى. ذكرت من البداية أنه لا يمكن أن تتعرف على مدينة أو قرية إلا من خلال السير على الأقدام فى حواريها قبل ميادينها، انفرجَ الطريق نسبيا، لكن سجى الليل!!!

مع انفراج الطريق انفرجت أزمة الولادة المتعسرة بالاستسلام إلى الأمر الواقع.

يبدو أنى ولدت خطأ، ولدت فى غير أوانى، إما قبله وإما بعده.

هذا الجذب اللحوح، أحلام الرحم، نص (برنامج) “الذها ب والعودة”، يقول ذلك.

 اختفى الطريق فى عباءة الظلام تماما، ولم يبق أمامنا إلا الأضواء والعلامات، فالعلامات والأضواء، وحين وصلنا إلى بلدة متوسطة نوعا، وكان الطريق يخترقها ولا يلف، لمحنا لافتات تشير إلى مخيم وأكثر، فقررت فجأة، ربما رحمة ًبزوجتى، وربما اعتذارا لها، قررت ضد انطلاق العربة وضد مزاجى النافر، وضد القصور الذاتى، أن نمضى بقية الليل فى أحد هذه المخيمات التى لمحنا الإشارة إليها.

البلدة اسمها “أسبراجاليا”، أثناء عبورنا وسطها لمحتُ محلا مضاءً كبيرا لا يتناسب مع حجم البلدة،”سوق أعظم” (سوبر ماركت) فهمست لنفسى أن جولة قصيرة هنا قد تبلّغ زوجتى ما عجزت ألفاظى عن قوله من أسف واعتذار، وقلت لها:نطمئن على مكان المخيم أولا ثم نرجع فى جولة قصيرة. لم ترد، ولعلها لم تصدق.

المخيم على بعد كيلو مترين، به مكان لنا طبعا، ميزة المخيمات أنها لا تمتلئ بروادها أبدا،لا تتخلى عنابر سبيل،  اطمأنت زوجتى إلى عدولى عن مواصلة السير ليلا وأنا فى هذا المزاج المشحون من الداخل والخارج معا. سجلنا أسماءنا، وكنت أعرف يقينا أنه لا وقت عندنا لنصب الخيمة ولمّها بعد بضع ساعات، وزوجتى تعرف ذلك، وتنتظر المفاجأة، أو المفاجآت.

رجعنا الى البلدة المتوسطة التى رحمتْ زوجتى من مواصلة الرحلة ليلا، كنت قد حاولت حفظ اسمها بالطريقة التى كنت أحفظ بها اسماء البلاد فى دروس الجغرافيا فى الابتدائى، قطعت الاسم إلى نصفين، ورحت أردد فى سرّى “أسبرا” من الاسبرين و”جاليا” شئ أشبه بالجالية، الجالية الفرنسية، الجالية الإيطالية!!،

تذكرت اقتراحا ساخرا مؤلما كان قد اقترحه أحد الأصدقاء فى إحدى المناسبات التى تـُذكرنا بتهميشنا أو إلغائنا أصلا: التهميش يجرى عندنا طول الوقت لكنه يزداد حدّة فى مناسبات الانتخابات، أو بمناسبة إصدار قوانين جديدة، وربما إعلان حرب، أو معاهدة سلام، كل هذه المناسبات العابرة البسيطة (!) التى لا يريدون أن يشغلونا بها حتى نتفرغ لمهمة المواطنة الخاصّة المغلقة، والمهذبة، والمسالمة، وهذا ماجعل صاحبنا يقترح أن نقوم بتسجيل مجموعتنا باسم الجالية المصرية فى مصر، وراح يشرح فكرته:

“بما أننا مجموعة متجانسة، موطننا الأصلى حسب شهادة النشأة هو بلد يسمّى مصر، وبما أن لنا أصول عرقية متقاربة، ولغة موحدة، وتاريخ قديم، فإن من حقنا أن تكون لنا جاليتنا الخاصة فى هذا البلد المضيف الذى نحن لا جئون فيه، والذى تصادف أن له اسم يشبه اسم موطننا الأصلى، والذى تفضل بمنحنا حق الإقامة دون حق الانتخاب الحقيقى، ولا بأس من إبداء الرأى بلا لون ولا طعم ولا فاعلية ولا لزوم”. انتهى كلام (منطق) صديقنا المغترب،

عاودنى كل هذا وأنا أتحايل لتذكر اسم النصف الثانى من هذا البلد “جاليا”، “أسبراجاليا”، وكان أسهل علىّ أن أحفظها على وزن اسم “داليا” بنت أختى!!.

 …………………

………………….

ونواصل الأسبوع القادم الفصل الرابع: (الفصل المفقود: 1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ”(4)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *