الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الرابع: الفصل المفقود: (1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ”

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الرابع: الفصل المفقود: (1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ”

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 25-9-2024

السنة الثامنة عشر 

العدد: 6234 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين” [1] 

الفصل الرابع

الفصل المفقود: (1)

“ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ”

 ….  واللحنُ ظِلُّ الناس فى حُضْن القمرْ

تنوُّعاَت البرق ِ والرعودِ

لــحفر بئرٍ غائر بلا مياه،

وزهرةٍ بلا شجرْ،

وبيضةٍ بلا يمامْ.

وغَارُهَا:

ممَرْ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ.

وعنكبوتُها:

يدبّج النقوشَ فوق طينٍ أَحْرَقَـتْهُ ناَرُ أحلامِ الّذهَبْ

غجريّةٌ فى ثوبِ سهرةٍ عريقْ،

تسحَبُ عَنْزَها الثَّمِلْ.

المقطم 22/3/2000

………………

………………

الذى حدث هو أننى أنهيت مراجعة وتنظيم الكتاب الثانى من هذه الترحالات فى إجازة العيد التى طالت هذه المرة إلى عشرة أيام (أول مرة آخذ إجازة عشرة أيام متصلة داخل مصر منذ 43 سنة!!) وكان قرار نشر “الأعمال المتكاملة” قد بدأ فى التفعيل على أرض الواقع، سلّمتُ خمس كتب إلى المطبعة (من بينها الصورة الأولى للترحال الأول باسم تداعيات السيرة الذاتية) ثم جاء دور هذا الترحال الثانى. كنت قد أنهيت مراجعة قراءتى الخاصة والمشتركة مع د.إيهاب الخراط لمواقف النفّرى، وتعجبت من نوع وعمق علاقتى بمن هو “الله” سبحانه وتعالى.

ما إن وصلت إلى مراجعة الجزء الثانى من هذه الرحلات/السيرة، أو السيرة/ الرحلة، أو ما تبيّن أنه “أدب المكاشفة”، حتى افتقدتُ فصلا بأكمله كنت أذكر جيدا أننى كتبته تفصيلا على الرغم من أننى أنهيت الفصل السابق بإعلان حاسم “أن هذا يكفى”، نعم كتبته و حكيت فيه عن زيارتى أنا و زوجتى -دون الأولاد –  لتركيا (اسطنبول) بعد أن ودّعنا الأولاد فى مطار أثينا بعد قضاء العيد معنا فى جليفادا والجزر الثلاث. أذكر أننى كتبته فعلا. أنا متأكد. سألت زوجتى إن كانت قرأتْه فأكدت لى أنها قرأته منشورا، بحثتُ عنه فيما نشر فى مجلة الإنسان والتطور. لايوجد أثر له. اكتشفت أيضا أن الفصلين الأخيرين من رحلاتى/سيرتى هذه لم ينشرا أصلا لكنى وجدتهما على الحاسوب مصححان كاملان. متى كتبتهما؟ لمن؟ ما الحكاية؟ ماذا حدث لذاكرتى؟ فصلٌ قديم أنا متأكد أنه قد نُشر، أو على الأقل قد أعدّ للنشر كاملا وبالتفصيل، لا أجد له أثرا، وفصلان كاملان أكتشف أنهما كانا مجرد مسودات لم تنـشر؟!!

هل هو السن؟ هل كتبت الفصل فعلا؟ هل هى مجرد ذكريات؟ كيف قرأتـْه زوجتى؟ متى؟ أين؟ هذا الفصل بالذات له دلالة خاصة لأن فيه مفاجأة قرية لبتوكاريا فى شمال اليونان، حيث كتبت مسودة أهم أعمالى فى الإبداع” جدلية الجنون والابداع”، ولأن فيه تجسيدا لحنينى إلى الركن البعيد الصغير، إلى الرحم، ولأن فيه تعميق لـ “برنامج الذهاب والعودة”. كل ذلك يفسر حركتى وسكونى، إقامتى وترحالى.

ابنتى الكبرى “منى” معى فى دهب (أصبحتْ أما لها طفل وطفلة أصادقهما بالتدريج بديلا عن أهلهم أو أكثر من أهلهم)، ترانى مُنَى مهموما وأنا أعيش هذه التساؤلات بعد تلك المفاجئة، التقطتْ مدى جزعى. حدثتها بما بى. قالت لى ببساطة ووضوح وثقة لست أعرف من أىن أتتها: أكُتبه يا أبى من جديد. سوف تكتبه من جديد. كيف يا ابنتى؟ بعد أربعة عشر عاما بالتمام أكتب من الذاكرة ما حدث  خلال بضعة أيام مر عليها كل هذا الزمن؟ قالت ابنتى: أنا متأكدة.

من ماذا هى متأكدة؟  كيف؟

بعد عودتى من دهب صممت أن أجد هذا الفصل ما دمتُ متأكدا هكذا. قلت أبحث فى كل أوراقى القديمة لعلى كتبت مسودته ولم أنشرها بسبب انقطاع ظهور المجلة عدة سنوات، لكن كيف ظهرت الفصول التالية تحكى أحداثا تالية، ومع ذلك رحت أقلب فى أكوام الأوراق المخبأة من سنين بعضها كوّمتُه تحت اسم “أصول” وبعضها باسم “أوراق لـلفرز” وبعضها “أوراق بلا عنوان”.

لم أجد الفصل. لا كله ولا بعضه ولا أى إشارة له. حل بى غمّ أكبر من قيمة ما ضاع، كأنى فقدت شيئا لا يعوّض، مع أنه ـ فى الأغلب ـ فصل ككل الفصول، و مع أنى كثيرا ما أتساءل: ما معنى كل هذه الفصول؟ ماذا فيها مما هو عام بحيث يخص القارئ العام؟  فلماذا هذاالجزع هكذا؟ وماذا لو لم ينشر هذاالفصل أصلا؟ بناقص فصل. بل وماذا لو لم ينشر هذا العمل كله من حيث المبدأ؟ هل سينقص أحد شيئا، هل سينقصنى أنا شخصيا شىء؟ ماذا أضيف بهذا الكلام، وهذا الحكى؟ ما جدوى هذا العمل أصلا؟

فجأة، حضرتْ أمامى صورة ماثلة مستعرضة لأحداث هذا الفصل المختفى. ما هذا؟ ما هذا كله؟ لم أكن أتصور أنى سأتذكر لحظة واحدة مما كان، ولا كلمة واحدة مما كتبت، (إن كنت كتبتها أصلا. بدأتُ أشك). وإذا بكل هذه السنين التى مرّت (14سنة) تختفى، وإذا بى أعيش كل لحظات ما كنتُه، وتذكرت ثقة “مُنى”ابنتى، وفرحتُ أنها تعرف عنى، أوتظن فىّ.  ما سمح لها بما قالت. ابنتى !!  ترانى، تعرفنى!! الحمد لله، ما أجوعنى لذلك.

قررت أن أنفذ اقتراحها. أن أعيد كتابة الفصل بعد أن تأكدت من فقده وقلبت أوراقى المبعثرة عدّة مرّات، سوف أتذكر أغلب المهم، الذاكرة لا تنفى إلا ما لا لزوم له، أو ما لا تطيقه، ليكن، أن أستدعى ما تيسّر مما غاب ، هذا وارد حسب ثقة ابنتى بى، لكن كيف أستبعد ما حضر مما وجدته فى أوراقى المبعثرة؟  مأزق جديد. الأصعب أنتظر ما حضر. أصعب من أن تستدعى ما غاب. ذلك أن ما عثرت عليه مبعثرا فى أوراقى أثناء البحث، بعضه كان مكتوبا من خمسين عاما، والبعض الآخر من ربع قرن، وبالذات خلال عقد من حياتى كان حافلا جدا (العقد الخامس). متى كتبت كل هذا؟ لمن؟ لماذا؟ أنا لست ممن يكتب مذكرات منتظمة؟ لا أفهم فائدتها إلا بقدر ما يكون لصاحبها شأن خاص. أنا لست كذلك. ما كل هذا الذى سجّلته هكذا؟ متى؟ ماذا أفعل به؟ أفكار، وثورات، وخطابات متبادلة مع أستاذ وطبيب نفسى كان صديقا، وما زلت أعتبره كذلك. احتفظت لصديقى هذا بمكان خاص فى نفسى وحافظتُ عليه “كما كان”. تركت له ما فعله بنفسه لاحقا. يبدو أننى كنت أشم رائحة ما كان سوف يحدث. ذلك أننى طلبت منه أن يسلّمنى خطاباتى إليه كما احتفظت بخطاباته لى. كيف نهمل ذلك مع أن الخطابات التى كانت بين فرويد ويونج، أو الخطابات بين ديتويفسكى وأخيه، أو بين فان جوخ وأخيه، أوطه حسين وسهير القلماوى، كانت من أهم ما سجّل مسار فكرهم، .الله الله الله ! ما لى أنا بهؤلاء؟ أين أنا منهم؟

 المهم، وجدت أشياء كثيرة، مكوّمة أكواما كثيرة،حلّت محل  ما تصورته مفقودا، وبدت لى أهم  وأكثر دلالة إن كنت أحاول حقيقة أن أقدم نفسى للناس.

ما العمل؟

مادام هذا العمل قد انتهى أن يكون محاولة مكاشفة، فليكن كذلك، وليكن هذا الفصل بمثابة اختبار للذاكرة من ناحية، وامتداد فى الزمن من ناحية  أخرى.  رجّحت إمكانية اقتطاف معالم الحاكى قبل نصف قرن بما تيسّرمما وجدت.

هل يمكن أن أتنقل بين أوراقى، وذاكرتى المسافرة، وحالى الآن بما يجعل ضياع هذا الفصل إضافة دالة؟

 والله فكرة. تنجح فقط لو استطعت مقاومة أن تستدرجنى هذه الأوراق إلى ما لا لزوم له من تداعيات  هامشية قد تخرجنى عن الخط الأصلى لهذا العمل الذى أقدّم به نفسى، لمن؟ ربما لنفسى!!.

قال لى نجيب محفوظ منذ أيام أنه فى ورطة أدبية (وكنت قد اختليتُ به وحدى على النيل فى فلفلة بالقرب من “كوبرى الجامعة” نظرا لغياب بقية الحرافيش تلك الليلة). دهشت وفرحت فرحة خاصة بتواضعه وصدقه ، وانتظرت أن يُكمل فقال: إنه أرسل الحلمين الأخيرين إلى سناء البيسى (نصف الدنيا) وهو غير راض عنهما (هو يكتب هذه الأيام ما أسماه “أحلام فترة النقاهة). ثم أضاف أنه طلب منها أن تحكم هى إن كانا صالحين للنشر أم لا، وطمأنها فى نفس الوقت أن عنده غيرهما مما هو راضٍ عنه تماما، فدهشت أن يجعل سناء حكما على ما يكتب، وقلت له إنها سوف تتحرج أن تقول رأيها حتما، فأنت مَن أنت، فكيف تجرؤ سناء أن ترفض أو تلوح بالرفض؟ فأكد لى أنها تجرؤ، ولم أؤكد شكى ثانية احتراما لرأىه رغم أنه لم يقنعنى. سألته ماذا لا يرضيه فيما أرسل للنشر؟، قال: إن الحاج صبرى (المكلف بقراءة الصحف له يوميا) حين قرأهما لى، وجدت أنه، ليس فيهما شئ عام. لا بد أن يكون فى الكتابة شئ عام. استفسرتُ منه عمّا يعنيه بالفرق بين الخاص والعام، فلم يزد عما قاله.

تذكرت هذا الحديث وأنا أتساءل: هل فى هذا الذى أكتبه شئ عام، وكيف أفرز العام من الخاص؟ وكيف حكم نجيب محفوظ على هذين الحلمين بالذات  بأنه ليس فيهما شئ عام؟ حين قرأتُهما لاحقا منشورين فى نصف الدنيا وجدتُ فيهما ما افتقده هو. وأكثر. فإن صح هذا فىما تصوّر شيخنا فى كتابة القصة أوالرواية أو الحلم، فهل يصح فيما هو سيرة ذاتية؟، وهل السيرة الذاتية إلا شأن خاص له صدى عام؟ وحتى القصة القصيرة، والرواية، كيف تكون صادقة وباقية إلا إن كانت معبرا سلسا من الخاص إلى العام وبالعكس؟ ثم إنى لست أنا الذى أضعتُ هذا الفصل الرابع، هو الذى ضاع. لتكن تداعيات، ولتصطف الهوامش بجوار بعضها لتصنع متنا هى مسئولة عنه، وما قُدِّر يكون.

بقدر ما فرحت حين عثرت على مذكرة (أجندة) قديمة ترجع إلى سنة 1950 (نصف قرن بالتمام) انقبضتُ. ذلك لأنها ذكّرتنى أننى قبل كتابة هذه المذكرة بعدة سنوات (ربما ثلاثة أو أربعة أى فى سن 12/13سنة) كنت قد بدأت كتابة مثلها،أو ما هو أكثر فجاجة وصدقا منها.

الذى حدث أننى سنة 1949 كنت دخلت “مرحلة ” الاخوان المسلمين، وهى مرحلة كان يمر بها أغلب من هم فى سنى آنذاك، وكانت مرحلة بالغة الدلالة واعدة الفائدة، (طالما ظلت مرحلة وليست مستقبلاً!!). وحين حـُـّلت جماعة الاخوان: كنت أقوم ـ دون تكليف ـ بنسخ نشرة سرية أذكر أن اسمها كان: “الوثبـة”. كان على كل واحد منا أن ينسخ نسختين بيده ويوزعها على من يعرف ممن يهمه أمر هذا البلد، أو بتحديد أصدق : أمر هذا الدين الذى سوف يصلح هذا البلد. كان التفتيش والقبض على بعض الاخوان قد بدأبعد اغتيال النقراشى، أو ربما قبل ذلك بعد حادث سيارة الجيب أو مقتل الخازندار. كان لى ابن خالٍ (من بعيد) متهم (وهو المرشد العام للإخوان حاليا ـ سنة 2000)، لكنه لم يكن معتادا زيارتنا بدرجة تجعل بيتنا موضع ظن. إلا أننا، أخواى وشخصى، وأنا أصغرنا، خفنا من والدى أن يعثر على أوراق من نشرات (رسائل) الاخوان، وبالذات على “نشرة الوثبة” المنسوخة بخط يدنا، فوضعنا كل الأوراق الخاصة بنا عند جارة لنا ليس لها أولاد (اسمها “أبلة نازك”)، وكان من بين ما وضعتُ مذكراتى هذه من سن 12 إلى 15، ثم نسيت (أو نسينا، أو تناسينا) الأمر حتى قامت الثورة.

كان الجو فى بداية الثورة يوحى أن الضباط والإخوان سمن على عسل. فكّرت فى استرداد أوراقى و”أجنداتى” من عند أبلة نازك،  وكنت قد أصبحت طالبا فى كلية الطب، وبدا لى أن مذكراتى هذه تستأهل النظر، لكن “أبلة نازك” أخذت تعِدُ وتؤجل، ثم تعِدُ وتؤجل، حتى انتقلت إلى حيث لا تستطع أن تعد أو تؤجل. رحمها الله. ولعل ذلك التأجيل كان بإيعاز من زوجها الأكبر منها كثيرا، والأحرص منها كثيرا، (أنا لا أذكر اسمه الآن، فقد كان يعرف لدينا بأنه “زوج أبلة نازك”)، والراجح عندى حالا أنها،ربما بإيعاز من زوجها، قد فهمت مغزى أن نودع هذه الأوراق والكراريس عندها، فتخلصت منها بشهامة الأم المنقذة أولادها من تهورهم، وأيضا حرصا على سلامتها. معها حق.

 مع عثورى على أجندة سنة 1950 هذه تصورت أن ما كتبته قبلها فى سن أصغر كان أهم وأكثر دلالة. لا يا شيخ!؟!،حتى لو كان كذلك فهو قد لا يضيف إلا كوما آخر من أكوام الأوراق التى عثرت عليها وأنا أبحث عن الفصل الضائع.

قف.

لنبدأ أولا بما استحضرته الذاكرة بعد أن أوصلنا الأولاد المطار، ولنختبر ثقة ابنتى بذاكرتى. وأننى قادرعلى كتابة (أوإ عادة كتابة) الفصل الضائِع.

………………

………………

ونواصل الأسبوع القادم الفصل الرابع: (الفصل المفقود: 1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ”(2)

ـــــــــــــــــــــــــــ

[1] –  ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة  الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.

 

تعليق واحد

  1. الله يرحمك ويرحمنا جميعا يا عمنا
    عندي ان الذاكرة الحقيقية تحضر فقط عند الاحداث التي لها دلالات خاصة جدا تدور محورها اساسا في ظل رسائل شديدة الوضوح والوميض في نفس الوقت لتؤكد حضور المعية من الله لي حين يرضه لي .
    لا تنمحي وتتجدد بابدية الحضور / المعية في الزمان الذي يختفي حتما لاني اصبحت جزء منه فيه فلا لزوم له اصلا الا بقدر حضوري فيه في وقته .
    وهل الحياة الا هذه اللحظات / الاوقات التي نعرف فيها ما خلقنا من اجله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *