نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 18-9-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6227
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الثالث
الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (10)
الإشكال عندى هو أننى أتمتع الآن بقدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجاز مما يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى،
وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجَه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا ” .
فكان لزاما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها إلى حيث تصورت أننى يمكن أن ” أقرر“.
السفينة: أدرياتكا ـ البحر: الأبيض، 10/8/1986
……………
……………
تطول الرحلة فى البحر أكثر من رحلة الذهاب حيث ركبنا من فينيسيا وليس من بيريه. أتنفس الصعداء حين نصل الى بيريه، فأبادر بالنزول أستنشق هواء مغايرا فى سماح مغاير، وأقول لهذه البلدة المرحـّبه أن وداعا. لم أكن قد تجولت فى بداية الرحلة فى بيريه، فتصحبنى زوجتى لأعرف بعض معالمها، وأحمد الله أن اليوم (16 سبتمبر 1984) هو الأحد، فالمحلات مغلقة، فلا شراء، ولكن أبدا، فمحلات الحلوى مفتوحة فلا بأس من فستق لأن فلانه تحبه، وهذه البومبونيرة من محل حلويات من باب الذكرى، وتتعرف زوجتى على بائعة الحلوى فقد سبق أن حادثتها بالعربية أثناء الذهاب، وهات يا كلام وذكريات، وتتحسر البائعة على أيام الأسكندرية، وأنها تربت هناك حتى سن العشرين، فأقول لها أن ذلك زمن مضى، وأننى أجد الإسكندرية هنا أكثر مما أجدها عندنا فى مصر، وترد محتجة “أن أبدا” هناك فى مصر يقولون “تفضل”، هناك من يحلف عليك أن تشاركه كل شىء، حتى الألم. هناك من يحيطك بالرعاية دون أن تطلب، أما هنا، وتمط شفتيها، وتشير بإصبعيها السبابة والإبهام: إنه “القرش”. ولا أعقب، وأتراجع عن أحكامى الظاهرية، ولكنى لا أرجع عنها تماما ونمضى فى الشارع على مهل حتى نجد أريكة فى الشارع نجلس عليها.
يتصادف أننا جلسنا مقابل كنيسة جميلة، وجمهرة من الناس من ذوى الوجوه الحمراء المشرقة متجمعة أمام الباب، لعلها صلاة، ولكننا قرب المغرب فلعله حفل عرس خواجاتى، ونتأكد أنه كذلك، فتتمسك زوجتى بمقعدها فرحة فرحة خاصة، فللأفراح عندها جذب خاص، سواء رأت سيارة مزينة، أم سمعت دقة الفرح فى فندق ما، أو سمعت زغرودة فى بلدنا، وهى فى ذلك عكسى تماما حيث أتصور دائما أن حفل العرس هو للعلانية لا للإعلان وأظن أن الفرح هو فى المشاركة لا فى التباهى.
بدأنا حياتنا (زوجتى وأنا) بهذا الاختلاف، وأبلغتُها رأيى أن زواجنا لن يكون بزفّة أو فرح أصلا، فوافقَـتْ (أو حسبتُ أنها وافقت) وتصورتُ أن زواجنا سوف يتم بهدوء وببساطة كما قررنا (كما قررتُ) وأنه ليس لأحد غيرى وغيرها أن يتدخل. ذهبت إليهم عصر اليوم المحدد مع والدتى فقط، واصطحبتُ زوجتى الى بيتنا بعد استقبال طيب هادئ من أهلها الكرام، لكن عيونهم كانت تخفى أشياء لم أتبينها فى حينها، لكن الأيام تمر، وأكتشف بعد أكثر من عشر سنوات أن الليلة السابقة لاصطحابى عروسى هذه كانت فرحا كما الأفراح، ولكن بدون عريس (الذى هو أنا) وابتلعت الغصة، وأخذتُ ـ بعد فوات الآوان ـ أتصور تساؤلات الناس، وإحراج الأهل، وألم العروس، زوجتى، وأتعجّب – بأثررجعى – كيف وافقتْنى هى؟ وكيف تمزّقتْ بينى وبينهم؟ وكيف شرحتْ لهم ؟ وكيف بررتْ؟ وكيف مضت الليلة؟ ولكن المؤكد أنها مضتْ والسلام، وأن الناس فى اليوم التالى قد صدقوا أن ثمة عريسا، بدليل أنها زوجتى منذ ذلك الحين وحتى تاريخه، فــرُحتُ أفسر انجذابها إلى كل فرح كائنا ما كان،، أينما كان، كلما دخلنا بهو فندق وكانت ثمة زفّة وقفت صامتة بعض الوقت ، ثم حديثها عن أحلامها برؤية ابنتنا فى ثوب الفرح،أوابننا فى الكوشة، وأنا ولا هنا. أفسر هذا الآن بما فعلتُه بها حين حرمتـُها من فرح عرسها شخصيا.
يخرج العروسان من الكنيسة. كانا زهرتين فى غاية الجمال، وحولهما الوجوه ممتلئة بالفرح، والمقارنة، والمشاركة، والحقد، والحسرة، والدعوات، والتسليم، والقبلات، وبالرفاء والبنين، وربنا يستر، وربنا يتمم بخير، نفس التعبيرات فى كل فرح، بكل لغة تقرأها على الوجوه كأنها كتاب مفتوح.
نعود إلى المركب حامدين الله أنه لم يبق على وصولنا إلا غطستين (ليلتين) ونهارا، فالليل فى مثل ذلك الجو الخانق فائدته الأولى هو أن تنقضى ساعاته، أما النهار فهو لا بد سينقضى مثلما انقضت نهارات سابقة، وقبل أن نصعد إلى المركب مباشرة أجد معى بعض دراخمات، فأميل إلى محل صغير يبيع مطواه بشوكة وسكين، فأشتريها لزوم الرحلات أيضا، فتسألنى البائعة من أى بلد، فأقول مصرى، فتسألنى عن معنى كلمات بذيئة بالعامية المصرية، كلمات كلها أعضاء جنسية وعملية جنسية، تنطقها بلكنة يونانية وهى تبتسم وهى لا تدرى ماذا تقول، يبدو أن أحد المصريين قد أوهمها أن هذه الألفاظ تعنى شيئا آخر، فلا أترجمها لها، وأنصحها ألا تكررها لأن معناها لا يليق، وأبتلعها على مضض ولا أعرف كيف أعتذر عنهم.
الثلاثاء 18 سبتمبر 1984
نصل إلى الاسكندرية صباحا فنتم بذلك شهرا ويوما، ويستقبلنا الأولاد. هم هم أولادنا. يستقبلونا فى ميناء الإسكندرية مثلما استقبلونا منذ شهر فى بيريه، فنفرح فرحة تغسلنا من ذلك الجو الجاثم، لكن هناك فرق.
يذكّرونى بوعدى لهم بإكمال الرحلة فى الإسكندرية ليوم واحد، وبعد إجراءات لا لزوم لأغلبها، وبعد التشهيل الكريم والثقة الطيبة فى شخصى من رجال الجمارك المرهقين، أخرج بعربتى إلى الشارع المصرى فأجدنى وكأنى قد نسيت القيادة.
كنت فى الخارج حين أُعطى إشارة اليمين أو اليسار، أتصرف باعتبار أن السيارات التى خلفى قد تلقت الرسالة، لكنى تذكرت أنه ينبغى علىّ هنا أن أعطى الإشارة، ثم أُخرج ذراعى، ولا بأس من إخراج رأسى، ثم بعد ذلك لابد أن أتقى خطأ الغير بنفسى، وبسرعة استعدتُ حذقى المصرى القديم وشطارتى الواجبة لمواصلة السير دون حوادث.
بعد استراحة قصيرة فى المنزل نزلنا نزور قلعة قايتباى ـ كما السواح ـ ولم أكن قد زرتها من قبل، وإذا بها شديدة الروعة بالغة التنفير بما حولها من رائحة فى آن واحد، آمل أن تكون الرائحة إياها قد تضاء لت أو اختفت بعد خناقة الصرف الصحى،
يقولون فى بلدنا ” لا زرعك ولا ولدك تغضب عليه”.
فأضيف، ” ولا بلدك”: أولا ودائما.
من سيمسح عنها دموعها، وينقى أجواءها غيرنا ؟؟
[مسحها ونقّاها مؤخرا محمد عبد السلام المحجوب ، ربنا يستر. أغسطس 2000]
الجمعة 14/8/1986
اليوم هو عيد الأضحى المبارك، والمكان هو فندق “ريجينا مارى” فى جليفادا (اليونان) والمنطقة مليئة بالعرب الوسط، إن كان ثم وسط، فالأكثر ثراء تركتُهم منذ عامين فى “كان” ولابد أنهم ما زالوا هناك، أو عادوا إلى هناك، فهم يخلّقون هذا المستوى حيث ينزلون حتى فى بيوتهم على ما أعتقد،
فندقنا هذا مثل غيره ملئ بهؤلاء دون أولئك،
نزل والأولاد فى فندق قريب، فتواعدنا منذ أمس أن نصلى العيد فى الخلاء، وأن ننتقى مكانا نظيفا متسعا فى حديقة قريبة، وأن يكون تكبيرنا عاليا ليلحقنا من يلحقنا من المسلمين،
حين كنت فى طريقى إلى فندق الأولاد فى الخامسة صباحا أهنئهم بالعيد، وأكبـّر وأهلل وأنا أوقظهم كما اعتدت فى مصر، صادفنى فى بهو فندقنا رجل عربى ذو لحية سفـلية يبدو فى منتصف العمر، والساعة الخامسة صباحا،، فقلت خيرا لابد أنه استيقظ مـثــلنامبكرا يصلى العيد، فألقيت عليه السلام فلم يرد بوضوح، لكنه تمتم حتما بالعربية، وهو نصف نائم أو نصف لا أدرى، استبعدت أن يكون قد استيقظ للعيد، الأرجح أنه لم ينم بعد. فخجلتُ ومضيت فى طريقى،
أيقظت الأولاد بنفس الطريقة، بالتهليل والتكبير كمااعتدت، وذهبنا إلى أرض الله الواسعة، المكان الذى عاينّاه أمس. افترشنا الأرض فى الحديقة المقابلة، وأخذنا نهلل ونكبر حتى طلعت الشمس وبعدها بقليل، أقمنا الصلاة وصلينا، وخطبت إكمالا للسنة وكبرنا، ولم يلحقنا أحد من كل هؤلاء المسلمين المحيطين، قلت لا أظلم أحدا، وحساب كل منهم على الله، من أدراهم أننا نصلى العيد فى الخلاء؟ من نحن؟
رجعت إلى فندقى ونزلت لتناول الإفطار فاذا بأغلب من حولى يتكلم العربية، ولا يشعر أى منهم بعيدٍ أو بغيره، لتكن الصلاة سنّة، وليكن التدين موقفا شخصيا بين العبد وربّه، لكن العيد مناسبة اجتماعية أيضا وجدا، لماذا لا يبدو على أى من الجالسين نصف نيام أن لهم عيد أصلا، ألا ينتمون إلى نفس الثقافة ؟ إلى نفس القومية ، ناهيك عن نفس الدين ؟ ما الحكاية ؟
لم أجرؤ أن أقول لأحدهم ” كل عام وأنت بخير”، فضلا عن أن أتقدم لأسلم عليه باليد مهنئا خشية أن يردنى خجِلا. جعلت أتعجب من كل هذا، وقررت الإسراع بالسفر من هنا على الرغم من روعة المكان، أنا ما حضرت هنا لأغترب وسط أهلى وناسى وأنا الذى كنت مؤتنسا وسط غرباء عجم.
للدين وجه إجتماعى غير علاقة الانسان بربه وأدائه فروضه، غير الحلال والحرام، وغير الحدود والأحكام، الدين انتماء، والعيد يعلن مناسبة تسمح لنا – خاصة فى الغربة – أن نعلن انتماءنا ، ولو لبعضنا البعض.
أنا لا أعرف فئة كثرت أم قلت فى أى مكان فى العالم لا تحتفل بعيدها مثلما أعيش هذا الدش البارد الذى تلقيتُـه على يد بعض أخوة العرب المسلمين الأمجاد هنا، هكذا.
نحن لا نتمسك بلغتنا العربية، ولا بطقوسنا الدينية، ولا بأعيادنا، فماذا يبقى؟ الخطب والحديث عن أمجاد عبد الناصر؟
مازال الأرمن مثلا، وهم أقلية فى كل مكان يحتفلون جميعا بأعيادهم حتى لو كان بعض أفراد الطائفة ملحدين،
الصينيون فى أمريكا يفرضون على الأمريكان الحديث بالصينية فى مطاعمهم، وكذا أهل المكسيك،.العيد عيد يا ناس، عيدنا، إلى ماذا ننتمى بعد ذلك إذا لم نعيّد معا؟
كنت قد عزمت الأولاد على رحلة بحرية نزور فيها الجزر الثلاث الأشهر فى خليج سالونيك: “هيدرا “، و” بوروس ” و” أجينا “. صعدنا الحافلة فوجدناها مليئة ـ أيضا ـ بالعرب، ولا كل عام وأنتم بخير ولا يحزنون، حتى الشيوخ والشيخات، أصابهم سهم الله فأصبحوا واجمين. حين قلت للأولاد ونحن وقوف فى الحافلة هيا نفرض عليهم العيد بالتكبير والتهليل وسط الأتوبيس، لم يكن الأمر بهجة طارئة كما غمرتنا منذ عامين فى الشانزليزيه فى باريس، بل كان غيظا وانفجارا وتحديا. فعلناها بضع مرات، فشاركنا شاب أو اثنين لبضع مقاطع، أما الباقون ـ من العرب والمصحف!لشريف من العرب ـ فقد نظروا إلينا فى استغراب، بل لعلّهم خجلوا مما نفعل، وصلتنا الرسالة فسكتنا، حتى الشيوخ نظروا إلينا شذرا!!!
قف عندك، هذا هو: قد وصلتُ حالا الى قرارى الذى قمت بهذه الرحلة الجديدة، للبحث عنه . ألم أقل أنى ما سافرت هذه المرة إلا بحثاً عن قرار؟
هأنذا أقرر أن: ” هذا يكفى”. ما هذا ؟ ويكفى ماذا؟
ليس مهما .سوف أكف عن التعرى هكذا نصف نصف ، فلا أنا أتعرّى كما ينبغى، ولا أنا أتستر وراء لقب أو لا فتة أو تخصص أو ادعاء علم.
إن صحّ قرارى هذا فلن أكتب عن تلك البلاد الساحرة، ولا عن “جليفادا ” التى جمعت بين جنيف وبوسطن وباريس، ولا عن جزيرة هيدرا الأشبه بفينسيا، ولا عن شوارعها الضيقة ودرجها المتصاعد، وخلوها من السيارات، ولـن أشير إلى إدراكى كيف يستطيع المسافر أن يسافر وهو فى بقعة محدودة، لو أحسن تحديد الهدف واختيار ما يناسبه، وكيف أنه يمكن أن يلف العالم دون أن يسافر، بل أكثر من هذا، فإنى أعتذر عن عدم ختم هذا العمل (الناس والطريق) بما رأيت يوما أنه مسئولية حتمية ورسالة واجبة التبليغ وهو وعدى غير الجازم بأن أكتب عن رحلاتى الى جنوب سيناء وخاصة الرحلة الأولى (26/6 ـ 3/7/85)، و أنا أشد النادمين على هذا التراجع.
كم تمنيت أن أكتب عن شعورى بما هو “نفق أحمد حمدى” وما هو تحرير سيناء رغم أنف الذين لم يقبـّـلوا الأرض، ولم يلحسوا التراب، والذين لم يشربوا من ماء “دهب ” والذين لم يتحسسوا صخور سانت كاترين تبركا وحمدا، ورغم أنف القوة المتعددة الجنسيات كأن أفرادها شرذمة من معسكرات ضعاف العقول، أو كأنهم منفيون من بلادهم يقضون مدة عقوبة على جريمة لم يرتكبوها.
كم تمنيت أن أكتب عن الأشياء الصغيرة التى أعادت لى ثقتى ـ وما راحت أبدا ـ ببلدى الحقيقى: عن عامل البنزين الذى أيقظناه فى السادسة صباحا فى رأس سدر، فلم يسخط، وعن ناس وادى فيران الذين ساعدونا حين غرزت السيارة حتى كادوا يرفعونها على أكتافهم، وعن وادى فيران نفسه بخضرة نخيله، وتنوع جماله وتحدى طبيعته، وصدق ناسه، (للأسف لم يعد كذلك الآن :أغسطس 2000) وعن روعة احتضان الجبل له واحتضانه الجبل، بحيث تصورت أنه من بين أحد المواقع القليلة التى يمكن أن أكمل فيها ومنها رسالتى المزعومة التى أنوى أن أكتبها للناس والتاريخ! هذا المكان الجميل (مرّة أخرى ركن بعيد: رَحَمِ جديد لكن فى بلدنا!! ألن أهمد أبدا؟).
كم كنت أود أن أكتب عن الطلمبة المجاورة للدير، فى سانت كاترين التى شرب من الماء الذى تجلبه ـ فى الأغلب ـ سيدنا موسى شخصيا!!، وعن جماجم الرهبان ودلالتها ورسالتها وعن صلاتنا الظهر فى أحد ردهات الدير، وعن لغة الجبال الرصينة من كل جانب حول الفندق الرائع الطيب.
أيضا كنت أريد أن أكتب عن ذلك المرشد البدوى الذى اتفقنا معه أن نصعد الجبل قبل طلوع الشمس فى سانت كاترين لنرى طلوعها بين الجبلين، فحضر ـ حسب الموعد ـ فى الثالثة صباحا، وكان قد جد جديد جعلنا نعتذر، ويأبى هذا المصرى الشهم أن يأخذ مليما ولو على سبيل الهدية، وراح يؤكد أنه “حصل خير” وأنكم لابد عائدون مرة أخرى، وأنه سيكون فى الخدمة، ويمضى راضيا مبتسما بكل عزة وكرم وطيبة وافتخار .
أطمئن أننى حين سخطت على مصرىّى الباخرة منذ سنتين لم أكن أسخط على مصر، ولا على هذا المرشد المصرى. لا . ليسوا سواء.
كان بودى أن أقول لكم ماذا همس لى كل جبل من جبالنا على حدة، فحمّلنى رسالة خاصة أملا فى أن أنقلها إلى أولاد العم: جبال الجيرا وجبال الألب، وربما إلى جبال الهملايا يوما ما من يدرى؟
كنت أود أن أحكى عن شمال سيناء، وعن إغارة غابات الخرسانة على جمال النخيل، وإغارة ناس الوادى على ناس الطبيعة.
كنت أريد أن أحكى عن رفح، وكندا وياميت المرحومة وأوبروى العريش وسوق العريش، ورجل البوليس الطيب يهدينا بود فائق كأننا أبناؤه.
كنت أود أن أحكى كل ذلك وأترك قلمى يتداعى فيحركنى أكثر لأتعرّى أكثر.
أشعر أن داخلى ليس ملكى وحدى،
أشترط على من يحبنى أن يراه ثم نرى.
أخاف.
ثم جاء القرار (المزعوم فى الأغلب)، جاء بكل هدوء وتسحُّب ليجعلنى أتوقف الآن،
وكأنى توقفت
الساعة التاسعة مساء، فندق لندن ـ جليفادا ـ
الحادى عشر من ذى الحجة ثانى أيام عيد الأضحى. الموافق 15/8/1986.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم الفصل الرابع: (الفصل المفقود: 1) “ممَـرُّ حانَةٍ فى عطفةٍ مجهولةٍ بلا هُويةْ”
وانا اتابع ترحالات عمنا بين الداخل والخارج اضطر الي تذكير نفسي بما هو اين انا منذ اكثر من ٤٠ عاما.
ادعي اني عندي رؤية حدية شديدة للواقع ولمحاولة استقراء المستقبل ليس رجما بالغيب ولكن بقراءة موضوعية .
ظللت اتأرجح بين حتم الحياة في بلدي وسط ناسي وبين صدماتي المتكررة مما اراه من واقع الحال في كل مجال بدون استثناء . الي ان وصلت ان الآفة هي داخل النفوس حتما وليس في اي عوامل خارجية . طبعا هناك عوامل كثيرة خارجية تراكمت علي مدي السنين ولكني ايقنت بالاستبصار ان المواقف او الattitudes او نوعية الوجود هي الآفة لا محالة .
فاضطررت ان اهاجر غير مخير وقررت الا اعود ابدا بعد ما ايقنت ان هذا شعب فقد بوصلة الحياة ولا يريد ان يتغير ويعيش كالقطيع في اغلبه الا فيما ندر.
ثم عدت اتابع ما يسرده عمي من ترحالات فوجدت — وللمفاجأة — ان اغلب الحكي والسرد يتابع هذه السلبيات بوضوح شديد. ولكني توقفت ورفضت اصراره علي الايمان بهذا الشعب علي الاقل في هذه اللحظات الفارقة من تاريخه .
ثم استدركت ان عمنا كان يغوص في رحاب الرؤية قراءة للنفس والوجود اكثر من قراءته للواقع . وكان لا يساهم واقعيا في اي تغيير الا من خلال كلمة قد تصل او لا تصل الي متابعيه . وانا لا الومه . ولكني كنت وما زلت غير موافق علي اصراره علي الايمان بهذا الشعب .
فعندي وعنده ان المستقبل يبدأ هنا والآن . ومن الواضح انه ليس هناك هنا ولا هناك الآن .
ولا اخفي عليك اني فعلا مشفق علي هذا الشعب من المصير المجهول الذي ينتظره .
فهو شعب يعيش في دولة اثقلتها ديون اكبر من قدرة سدادها ولو بعد مئات السنين . ودولة تستدين ليس لمشروعات طولية ولكن لرتق رقعة من هنا وهناك .
وشعب يعيش اغلبيته الساحقة بلا ابداع . ويعيش في بطالة مقنعة .
وشعب غالبيته لا يقرأ ولا يتابع .
وشعب يمارس الدين من الظاهر واغلب قوله ليس فعله .
والمأساة الكبري ان اغلبه لا يدري انه في مأساة كبري.
من الناحية الاخري انا هنا باختياري وليس باختياري
فاختياري مفروض عليا لاني لا استطيع ان انتمي او اعيش وسط هذه المأساة التي يعيش بها وفيها شعب مصر
الآن
وليس باختياري لاني اري كل سلبيات الغرب ظهرا عن قلب واكابدها مضطرا واشارك في ايجابياته وآخذ موقفا طول الوقت من سلبياته .
الخلاصة اننا في واقع عموما شديد الصعوبة شديد التحدي في كل مكان تقريبا . وغالبا وجود الانسان نفسه علي المحك بعد ان سيطر اساطين المال والعدم علي مفاصل الحياة بلا هوادة ويجرون العالم كله الي الخراب الاعظم والله اعلم .
ربنا يرحمنا .