نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 13-3-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6038
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الأول
(الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة)
الموت: ذلك الشعر الآخر (3)
“يختل مجرى العمر والأمل،
(لماذا ياصديقى؟؟)
دائرةٌ ملتاثة:
(عَجـّـلتَ بالنهاية؟)
تقضمُ فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام الجائعة،
(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)
ثارت أجنة الخلايا تصطرع“.
تعملقتْ فطرتك الأبيةْ
لم ترعَ عهداً، لا، ولمّا تنتظر
لــمْ نـقوَ بعدُ ياصديقى
(فيم العجالة والسام؟)
تقفز خلف الحدِّ، بعد العدِّ، تقتحمْ
ترجع نحو عشها اليمامةْ.
الأربعاء: 29 يناير 1986
الساعة الخامسة وعشر دقائق (صباحا)
…………………
…………………
وأنبـّه أحمد معابثا أنى كنت أسأله عن رجل الأعمال الذى يدير عيادتهم الجماعية بالقرب من شيكاغو فإذا بنا فى سيدنا الحسين، فيضحك حتى يستلقى، فتهتز سلسلة ذهبية حول رقبته وهى تتدلى بشكل ظاهر من قميصه المفتوح حتى تلامس أثر جرح عملية القلب التى أجريت له منذ بضع سنوات، وأقول له إنى لا أستطيع أن أتصوره ـ وهو الرائق البال، السهل المعاشرة، المتجلى الضحكة ـ وقد أصيب بانسداد فى شرايين القلب (ذبحة صدرية!) لدرجة تستدعى هذه العملية، والا فماذا أبقى لأمثالنا من المهمومين المكتومين الحائرين، فيوافقنى ناظرا إلى صدره ضاحكا مخاطبا قلبه قائلا: “كسفتـِنـِـى الله يخيبك”، ويحكى لنا:
إن المسألة لم تكن إنسدادا معـلنا، وآلاما وأعراضا مثل خلق الله المذبوحين صدريا، وإنما الأمر قد اكتُـشف بالمصادفة أثناء الكشف الروتينى، ذلك أنه بصفته شريكا فى العيادة الجماعية التى كنا فتحنا الحديث عنها، قد اعتبروه ـ شخصيا ـ جزءًا من رأسمال المؤسسة، وبالتالى عليه أن يتبع نظاما دقيقا للفحص الدورى حتى لو لم يشكُ من شئ، عليه أن يجرى الفحوصات المفروضة مثل أى اختبار لأى جهاز سوف يستعملونه فى العيادة الشاملة، كما أن عليه أن يجرى العمليات الجراحية المناسبة إذا لزم الأمر ليدخل إلى الشركة مضمونٌ عمره الافتراضى وكفاءته حتى لا يتعطّل العمل إذا ماحدث شئ كذا أو كذا، وأشعر ـ ويوافقنى ـ أنهم قد أجروا له هذه العملية من باب أن “الاحتياط واجب”، وأكاد أتصور أنهم قد جددوه، مثلما نغير الإطار الداخلى فى إحدى عجلات السيارة قبل أن ينفجر، مادام قد كاد يـُستهلك حتى لاينفجر فى مكان غير مناسب، فيوافقنى على كل ذلك، وعلى الرغم مما يبدو فى كل هذا الإحتياط من تقدم علمى وطبى، فإنى شعرت بأن المسألة كلها هى من باب “حسابات الجدوى” لصالح المؤسسة التى يعمل بها أولا وقبل كل شئ، وأن عمليات “الصيانة الآدمية” هذه لا تختلف بحال عن عمليات الصيانة لأى جهاز فى نفس المؤسسة، وأكاد أرفض ذلك وكأنى أفضل الموت وسط ود دافئ على أن أصبح هكذا مجرد جزء من آلة كبيرة يحافظون على حياتى لأن ذلك أرخص من وفاتى، التى ستضطرهم إلى شراء آلة طبية بشرية جديدة تملأ الفراغ الذى سأتركه، وأكاد أضبط نفسى متلبسا بهذه الشاعرية البدائية، وأنا أرفض أن يعتنوا بى كمصدر ربح للمؤسسة أساسا، أو تماما، كأنى أفضّل أن أموت بالصدفة على أن يصلحونى دوريا، أو يجددون ما هو معرّض للتلف فىّ قبل الاستعمال، قبل أن أتمادى فى الادعاء حتى أكاد أصدق نفسى ألتفت بإطلالة سريعة فألمح هذا الوغد الزاحف المتربص يطل من عمق عيون صديقى المترنح من الآلام، ألمحه يمتد وسط الضحكة العريضة، فأرفع كلتا يدى معتذرا مستسلما، وكأنى أعلن قبولى أن أكون ـ ويكون ـ قطعة غيار بشرية، نُصان كما تصان الآلة “لعل وعسى”. ترى هل يمنع ذلك من أن يزحف الموت إلينا وغداً يتلمظ؟ همست لنفسى بلا معنى مرة أخرى : لعل وعسى؟! أىُّ لعل وأىُّ عسى؟ إن مرض صدىقى لا ينفع معه احتياط ولا صيانة ولا “لعل”،ولا “عسى”، فالخلايا المغيرة ملتهمة متقدمة لا يوقفها ولا الشديد القوى، لم يكن بالإمكان عمل أى شئ فى أى وقت كان، قالها صديقى منذ عام وبعض عام حين اكتشف تلك الدائرة الغريبة قابعة فى أيسر كبده، اكتشفها بالموجات الصوتية بمحض الصدفة وهو يبحث عن احتمال حصوة ناحية الكلية اليمنى!!، وحينذاك وضع المسألة برمتها فى جملة مفيدة، ظلت للأسف هى الحقيقة الأولى والأخيرة فى كل ما جرى بعد ذلك، قالها بشجاعة الفرسان، وحكمة المؤمنين :
“هذا مكان خطير وتلك علامة دالة، فإن كانت المسألة حميدة فلا داعى للتدخل، وإن كانت غير ذلك فلا فائدة من التدخل”. وأكاد أسمع الخيام يصفه دون غيره:
فاذا ساقى المنايا أوجبا:
شربةً غصّت ومرّت مطمعا،
فأحسُ جلدا خمرة الموت الزؤام.
ومع ذلك: ما أن عاوده الألم عقب العيد الصغير الأخير، ثم تبين ما تبين، حتى عدنا نهتاج ونقول ونعيد فى ما لا يفيد، وأنه “لو كان كذا..لكان كيت” كلام فارغ فى فارغ، وتثبت الأيام أن رؤية صديقى الأولى هى الأدق، والأشجع، وأنه بقراره البسيط الشجاع ذلك، قد سرق من الزمن عاما وبعض عام، تهيأ فيه للرحيل، كما أحسن الوداع، لكن الضعف البشرى ينفخ فى العناد أمام عدو متفوق فى العدة والسرعة ووسائل الإبادة، ولا نتعلم من العجز، ولا نتعلم من الموت إلا قليلا، وحتى هذا القليل لا نطمئن إلى مدة بقائه فى وعينا، بما يسمح بتحرير سلوكنا، بما يتضمن هذه الحقيقة الراسخة البسيطة:
“الموت “حتم القدر”.. ونسيانه فى كل لحظة هو حتم البشر.
أفيق لأجد نفسى ما زلتُ جالسا فى عيادة صديقى الخالية فى شارع قصرالعينى، لكن الممرض يدخل معلنا حضور كشف، فأبتسم منصرفا، فيبتسم صديقى فاهما، (أنه: “ولو”، لنضحك على أنفسنا قليلا).
أنزل على السلام المظلمة مفضلا ألا أنتظر المصعد.
السلالم قذرة. العمارة حديثة شارع قصر العينى.
أطل علىّ فجأة وأنا نازل، وسط الظلمة والقذارة والرائحة القبيحة، كلٌّ من وجه ريجان الأمريكانى العارى من كل شئ، وكل تعبير، وكل نبض، وحتى كل تمثيل، ثم ماركوس الفلبينى تدفعه زوجته الجميلة فوق كرسى هزاز ملطخ بنزْف وروث، أى والله، أهلوس أنا مثل مرضاى!!!
هؤلاء الناس (ريجان وماركوس وأشباههما) ألم يبلغهم نبأ ماهو الموت، مع أنهم ميتون الآن أو بعد باكر، فإن كان بلغهم، فلماذا هذا؟ وإن كان لم يبلغهم، فكيف؟
أسئلة طفلية، وبديهيات ردودها جاهزة والعظة فيها شكلها حسن لكن يبدو أنها ـ من كثرة تكرارها على منابر المساجد والكنائس وفى محفوظات المدارس والدعايات الانتخابية قد أصبحت ديكورات للحياة الدنيا، وليست الوسيلة الأولى لتغيير الحياة كلها وتطوير الوجود،
أى قانون تطورى جديد يحكمنا الآن؟ “البقاء لمن؟”: للأقوى (ذريا)، للأنفع (يهوديا)، للأسبق (استغلالا)؟ البقاء لمن؟ وهاهم: ريجان، وماركوس، وشارون، وديفاليرا يعيشون “جدا”، فى حين أن الموت يقترب من صديقى دون سائر الناس،
أضبط نفسى متلبسا بالنظر فى البديهيات القديمة، مثل طفل يتعرف على الدنيا الماثلة بعيون متجددة، نفس الآفة القديمة. يعاودنى هذا التسأول المزعج:”لماذا يعيشون؟” بالنسبة لأولاد الخنازير هؤلاء يبدو السؤال معقولا، إلا أنى أذكر أنى عشت نفس التساؤل فى ظروف أخرى، غريبة ومرفوضة.
ذلك أنه مر على حين من الدهر، فى فترة غرور الفتوة وتصور احتمال تحقق الحلم، كنت فيها أسأل نفسى هذا السؤال عن الناس العاديين ممن لا أرى لحياتهم معنى أفهمه أنا بحساباتى الواضحة (التطورية والعياذ بالله!!) وكأنى موكل بدراسة جدوى استمرارهم لصالح أفكارى (هل تذكر راسكولينوف فى الجريمة والعقاب؟)
وكان لى صاحب آنذاك (طبيب نفسى أيضا) ينبهر لما أقول، رغم أنه يرفضه فى البداية، ويناقشنى فىه بحماس شديد، لكنّه اذا اختلى إلى نفسه صدَّقنى، فراحت أفكارى تتردد فى وعيه بلا إستئذان، فيذهب يتساءل بدوره: لماذا يعيش هذا؟ ولماذا لا يموت ذاك؟ وتزداد المصيبة حين يطلق السؤال عشوائيا فيصيب صدفة أحد أقربائه من الوادعين فى الحياة ممن يبدو عليهم أنهم أقـفـلـوا حساباتهم مبكرين، فأخذوا يدورون فى محلهم فى رتابة مستسلمة، واذا بصاحبى “المقتنع” هذا يراهم بمنظار أفكارى فيكتشف أنهم “مستمرون بلا داع”، وكان يعود إلىّ ثــائـرا علىّ، لاعنا يوم عرفنى ويوم سمع منى، ويوم صدّقنى، فأعتذر له مؤكدا أن تسأولاتى هذه لا تعنى الرغبة فى التخلص من هؤلاء الذين حسبَهم “زيادة عدد”، ولكنها مجرد تساؤلات خائبة، تعلن عجزى عن فهم قوانين الحياة الأعمق، بدليل ـ مثلا ـ أنى لا أدرك فائدة دولة النمل المهـولة، ولا أعرف أسرار عالم القنافذ، وإن كنت كثيرا ما أشعر بالزهو أنى أنتمى إلى نفس الوجود الحيوى الذى ينتمى إليه الفيل والدرفيل وحمام الزاجل والنورس، لماذا؟ لست أدرى، إذن فهى تساؤلات عجز تطلع منى بصوت مسموع، لكنها أبدا ليست مواقف رفض أو تبريرات قتل.
قد حدث أن ضبطت نفسى متلبسا وقد انطلق منى هذا السؤال يدور حول مغزى حياة “من لا يتطور”!!، كان السؤال يحوم حول خالتى، هى أمى الثانية، أو الأولى، حملتنى ـ على كتفها ـ وهْنا على وهن، وقد عاشت وحيدة بلا ولد ولا زوج بعد أن طُلقت وأنا فى الرابعة عشر، ولم تقبل أن تواصل حياتها معنا فى بيت أمى على الرغم من أن أمى هى شقيقتها الوحيدة، ذلك أنه “يادارى ياستر عارى يا منيّمانى للضحى العالى”، وقد تعلمتُ منها فى مسألة الحياة والموت ـ فى كِبَرى ـ أضعاف ما تعلمت أى شئ من أى أحد فى صغرى. كانت علاقتها بأشيائها ـ مع عدم وجود هدف مقنع ـ غاية فى الدلالة.
………………………..
……………………….
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الأول من الترحال الثانى: “الموت: ذلك الشعر الآخر”