نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 11-9-2024
السنة الثامنة عشر
العدد: 6220
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الثالث
الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (9)
الإشكال عندى هو أننى أتمتع الآن بقدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجاز مما يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى،
وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجَه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا ” .
فكان لزاما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها إلى حيث تصورت أننى يمكن أن ” أقرر“.
السفينة: أدرياتكا ـ البحر: الأبيض، 10/8/1986
…………………
………………..
ما إن وصلنا الى “أيوستا”، بعد ألعاب جبلية بهلوانية، حتى بدأ الطريق السريع، السهل، الخطر، الممل، فانطلقنا مصممين على الوصول إلى فينسيا فى نفس الليلة، وعند ميلانو، ازدحم الطريق وكأنه شارع صلاح سالم فى عز لخبطة المرور عصر يوم فى رمضان، لكننا مضينا فى النهاية، وانطلقنا فى غير كلال ظاهر، وما أن بقى من الطريق ستين كيلو مترا لاغير، حتى شاهدنا لافتة تشير الى قرب مدخل “فينسيا” شخصيا، فأقول لزوجتى: “تصورى أن هذا البلد الساحر البحرى الصغير يمتد قطره إلى ستين كيلو مترا” تعجّبت :”ياه”!! وكأنها توافقنى، فاقترحتُ عليها أن نستكشف هذا البعد الممتد فى اليابسة لهذا البلد المائى جدا!!، وكنا نتكلم وكأننا لم نر فينسيا أصلا، وكأننى لم ألـفـّها سيرا على قدمى مائة مرة، وكأننا لم نعبر الجسر الفاصل بينها وبين”ميستر” (مثل جسر زفتا وميت غمر) عشرات المرات، ونحن نعرف أن حدودها تنتهى بمجرد عبور هذاالجسر، لكن ماذا تفعل فى ما قررناه هكذا فجأة حين اعتقدنا ـ ربما من فرط التعب ـ أن طولها ستين كيلومترا حسب اللافتة؟
المهم أننا خرجنا من الطريق السريع نستكشف”أطراف البلد”!!!! وننوى أن نمضى الليلة فى فندق جديد فى هذا الظرف الجديد، فإذا بنا نفاجأ أنها فسينزا Viscenza ليست فينسيا Venezia . فهو التعب الذى لم نعترف به أصلا، وضحكنا، وأتذكر فجأة، ولعلى لا أكون مخطئا، أنها (فيسينزا) البلدة التى فى ضواحيها صدح اللحن فجأة، فسمعه نيتشه، وعرف أنه زرادشت، فاستسلم لما ملأه، ثم راح بعد سنين يحدثنا على لسان زرادشت بما كان له فى حياتى من آثار لم أعد أتبينها تحديدا، وإن كنت أعلم أنها مما يحافظ على أملى المستحيل طول الوقت..
أتذكر أمى وهى تخاطب مقام السيدة أن”ناديتينى وانا جيت أهه يا طاهرة”، وكأن ثم نداء ، وليس قرارا إراديا من أمى، هو الذى جذبها إلى المقام الطاهر. نداء يأتى فى الحلم أو فى غيره، لكنه يتأكد أثناء الزيارة، وأتساءل وأنا ألف عائدا إلى مداخل الطريق السريع، هل نادانى زرادشت ونيتشه فانحرفت السيارة للزيارة دون إذنى نتيجة لهذا الخطأ الجيد، فأحييهما شاكرا وأنظر إلى زوجتى ملتمسا لنا العذر، إذ يبدو أنه: كم تعبنا، وكم أخفينا تعبنا كل عن الآخر، بل عن نفسه، فنحن نسير منذ أكثر من خمس عشرة ساعة، لكن هذا لم يمنع من تحسرنا ونحن ندخل الطريق السريع من جديد حيث اضطررنا أن ندفع رسوما جديدة، وكان ينبغى أن نعرف أنه لا أحد يتعلّم بالمجان.
نواصل السير فى عناد جديد حتى نصل إلى”بادوفا” التى كنا قد تهنا فيها أثناء رحلة الذهاب، فأقترح على زوجتى أن نقضى الليلة فىها حيث كنا قد تعرّفنا على معالم تستأهل المشاهدة أثناء التوْه الماضى، (هل صدّقتم مزايا التوْه أخيرا؟). ثم إنه لم يبق على فنيسيا وميستر إلا بضعة عشر كيلو مترا، ونمضى نبحث عن فندق فلا نجد إلا فندقا عتيقا عريقا ورائعا، فنحسب حسبتنا، فنجد أننا نستطيع، فنترك فيه أشياءنا ونتجه إلى وسط البلد نبحث عن مقهى أو مطعم، والساعة لم تتعد التاسعة مساء، لكنها: مثل أغلب بلاد أوربا فى هذا الوقت “هس هس!! “» وأعود لتساؤل قديم: لماذا تنام أوربا هكذا من العِشاء؟ ربما لأنهم ناس وراءهم شغل، ونلتقط محل بقالة ومقهى فى نفس الوقت، لذلك هو لم يقفل بعد، فنتقوت، ونتناقش، ونتشاجر، ونذهب للفندق فننام فى حجرة جدرانها من خشب قديم وكأنها من القرن السابع عشر، حتى الحمام والحوض مصنوع من الخشب، أو مغلف بخشب طبيعى ذى نكهة قديمة ونافذة معا !!
الجمعة 14 سبتمبر 1984:
استيقظنا فى هدوء على الرغم من شجار ليلة أمس، ومضينا نتجول فى بادوفا، فوجدناها بلدة مترامية ثرية، فيها كل شئ لكل شىء، تـرى: من يستهلك هذا كله يا ناس؟ (تانى !!)، ونواصل المسير بعد أن تناولنا قهوة الصباح فى قهوة واحد بادوفى رقيق، ثم نجد عندنا من الوقت ما يسمح بالذهاب الى مخيم “المرأة المهرة، مخيم الألبا دورو!!؟العشرة لا تهون، ثم إن المحل الخاص بأدوات التخييم قريب منها، ونشترى بما تبقى لدينا من نقود حاجيات تخييم لازمة لكل الاحتمالات. حتى المرحاض المتنقل وكيميائياته، نشتريها وكأننا سنذهب إلى وطننا من هنا، وهات يا رحلات من هنا (لم نستعمل هذه الأشياء مرة واحدة فى بلدنا حتى الآن يونيو 2000)، ونتغذى فى المطعم الذى قدم لنا الأرز الخاص بالكمون والنكهة المميزة، لكنه لا يقدمه لنا هذه المرّة، ولا نعرف كيف نطلبه فنحن لا نعرف اسمه، ثم نتوجه إلى الميناء فى فينسيا.
تهل علينا روائح مصرية، ليست كذلك تماما، ليست مصر، ولكنها روائح بعض ما حلّ بمصر، فقد كانت الأنظمة حينذاك ما زالت تسمح بهذه التجارة المضحكة التى ُتستورد فيها العربات القديمة بالجملة بتحايل قانونى منظم، وأكتشف ـ عكس رحلة الذهاب ـ أن معظم زملاء رحلة العودة هم من هؤلاء المصريين العاطلين والمغامرين الذين يشحنون العربات والبشر بالجملة، كل عربة قديمة تحملها”ناقلة بشرية” لها جواز سفر، واسم ،ورقم، وهى ناقلة لا تدرى عما يجرى حولها، ومن خلالها، شيئا، كل ما عليها هو أن تسلم جواز السفر، وصاحبه، عدة أيام، مقابل أن تقبض كذا قرشا أو كذا جنيها، وقد لا تغادر الباخرة ولا مرّة واحدة، فقط توقع الناقلة البشرية (المحلل) على عدّة أوراق، وتتناول وجبات الباخرة، وتقبض المعلوم، ويقوم التاجرالمتحايل بكل الباقى.
رأيتُه كما عرفته فى بلدنا، نفس “اللبدة»” ونفس الجلباب، ونفس المسبحة، ونفس التمتمات، كان منزويا فى أحد الأركان يتابع فى حذر وخوف واستسلام ما يجرى حوله، وحين اقتربت منه وفاتحته بطريق غير مباشر قال لى: أنه “و الله يا ابنى ما أعرف، تعالى تعالى، روح روح، وربنا يرزقه ويهدّى سره” ـ يعنى إبنه ـ فقد كان هؤلاء المغامرون يستعملون آباء هم وأمهاتهم كعبـّارات قديمة لعربات قديمة، ولعلهم كانوا يسترخصون الأجر باستعمال الأقربين السذج.
ويقترب منى قبل أن تقلع السفينة رجل كهل أعرج، ذو وجه أكاد أعرف من هو، أو بتعبير أدق، أكاد أعرف ماذا سيقول هذا الوجه قبل أن يقوله، وجه متهدم قد لصقت فى تجويفيه العلويين عينان ترقصان حذرا وقد امتلأتا بما يشبه النصاحة، فيحيينى بالعربية المصرية، وأنه فى الخدمة، ويدلنى على بعض إجراء ات شحن الماكينا (العربة بالطليانى، هكذا ينطقونها)، ولا يصدق أنى اصطحبت عربتى معى من مصر، وأنى لم أشتر عربة أخرى، وأنى لست تاجرا، وأسأله إن كان مسافرا معنا، فينظر حوله، ويرطن بالطليانى لبعض من لا أعرف، ثم يواصل شارحا بإيجاز كيف أنه يقيم هنا منذ أكثر من عشرين سنة، وأنه لا عمل له إلا مواصلة التقاضى مع الشركة التى أصيبت فيها ساقه وهو يعمل بها بحاراـ وينظر إلى ساقه التى يعرج بها، وأنه بالرغم من نيله بعض حقوقه، فإنه لا يزال يستأنف الحكم لينال بقية حقوقه، وأنه لو عمل رسميا لضاع عليه تأمينه، وكذا، وكذا، وحين يطول بنا الحديث بالرغم منى، يميل علىّ قائلا: معك دولارات؟، فأتردد، ثم أجيب أن نعم، فيقول: هل تريد الاحتفاظ بها؟ فأقول طبعا، فيشرح لى كيف يشتريها منى بجنيهات مصرية، فأفهمه أن هذا غير وارد لأسباب كثيرة لا أريد أن أعددها، ويداخلنى إشفاق مؤلم عليه، وعلى بلدى، وعلى نفسىـ ويقبل علينا ونحن نتحدث شاب طويل راقص فى سماجة، فيعرفنى العجوز عليه باعتباره أنه إبنه ويذكر له إسمى خطأ (د.السخاوى) فأغتاظ، ربما لأننى أفترض ـ ولو لاشعوريا ـ أننى نار على علم، لا يصح الخطأ فى اسمى حتى من مغترب عاطل فى فينيسيا، وتنتهى المقابلة باعتذاره عن المقايضة بالجنيه المصرى، ويعتبرنى أبلها أو عبيطا، دون أن يعلنها، فأكتفى بالانسحاب وأنا أكاد أغوص فى غثيان من ثقل ريح حضور ابنه هذا ـ إن كان حقا إبنا له.
أصعد بعربتنا الى المركب بأرقامها المصرية، وألمح نظرات العجب والاستخفاف، ويصارحنى بعضهم أنه: كيف أخرج بها ثم أدخل بها، وكأن المفروض أنه إما أن أخرج بها، وإما أن أعود بها، أمّا أن أخرج وأعود بها هى نفسها فهذا غير مطروح وغير مفهوم بالمنطق التجارى الشطارى السائد، تساءلت : وهل أنا هو أنا الذى سافر ثم عاد؟ أم أننى لا بد أن أغيّر اللوحات نتيجة ما حدث؟ ثم هل يا ترى هذه العربة التى كانت طول الوقت أحد أفراد الرحلة ، هل استفادت هى الأخرى من الرحلة بحيث تغيرت بما تيسر، مثلما أفترض فينا ؟
أحاول أن أتحمل الصياح من حولى: واحدٌ ينادى الآخر أن “السبع عربيات بتوعى” كذا وكيت، ويمضى يقود واحدة تلو الأخرى يرتبها فى السفينة فيذكرنى بترتيب أكياس القطن فى بلدنا على العربة الكارو لتسليمها لـلشونة، ثم ينتقل لحمل الاجساد/الأسماء السبعة التى سيُـدخل العربات باسمهم، ويـكاد يرتبهم فى مقاعد الركاب ترتيب أجولة القوالح الهشة، أبتلع كل ذلك مشفقاَ غير رافض رفضا مطلقا. “كل شئ مباح فى التجارة والنصب”!! (لم تعد الإباحة قاصرة على الحب والحرب). جوّ الباخرة خانق، رائحة التجارة والشطارة تفوح من كل ركن، من كل شبر، تتردد مع كل نفس مختلطة بعرق النذالة وريح استعمال البشر. سحابة من الغثيان تتكثف حول وعيى، وعلى الرغم من أنها نفس المركب، إلا أننا (شخصى وزوجتى) نشعر أنها ليست كذلك، ليست هى مركب الذهاب رغم أنها تحمل نفس الأسم، لا يمكن. والأدهى من ذلك أننا نشعر بالـغُـربة أكثر حين وجدنا أنفسنا بين أغلبية مصرية، فنخجل أن نعلنها حتى لأنفسنا، الأصوات عالية ومختلطة وكأنهم لا يتكلمون العربية أو المصرية، والألفاظ قبيحة وجارحة، متنافرة وخاوية.
وصل الأمر أن أحد هؤلاء الشبان لبس لباس الاستحمام (المايوه) وهم ّ أن ينزل حمام السباحة أعلى السفينة، ماذا فى هذا ؟ مثله مثل غيره. وإذا بأصدقائه يتصايحون عليه يحاولون منعه، حتى قال أحدهم “حتكسفنا يا ابن القحبة” ولعل الشتّام قرر أنه لا أحد يفهم العربية إلا هو وصديقه مع أن أكثر من ثلاثة أرباع الركاب كانوا من المصريين.. كان يجلس حول الحمام أستاذ جامعى فاضل وزوجته أكاد أعرف وجهيهما، فقامت السيدة حين سمعت اللفظ بسرعة وقد امتقع وجهها. بدا لى هذا التناقض مرعبا. أيهما يخجلنا؟ الشاب الذى تصرف تلقائيا ليستحم فى حمام السباحة مثله مثل كل الناس، أم الذى فضحنا أمام أنفسنا وأمام الأغراب وهو ينصح زميله ألا “يكسفنا” وأنه إبن…..!!! تلقيت الصفعة فى صمت عاجز.
يدور الكاسيت الضخم بصوت أم كلثوم عاليا مزعجا فينفّرنى حتى من صوت أم كلثوم، إلى هذه الدرجة يمكن أن يصبح الجمال نشازا إذا غلب القبح من حوله. وأشاهد الشاب الطويل النحيف ـ الإبن المزعوم لـلبحّار الأعرج ـ وهو يتجول فى صالة الاستراحة، أو يطلب القهوة من الكابتشينو بأسلوب ليس كابوتشينيا، وأعجب حين أراه يسحب كلبا صغيرا مربوطا بسلسلة رقيقة طول الوقت، فلا هو يبدو من هؤلاء، ولا الكلب يبدو موافقا على ذلك، وأفتقد العلاقة العميقة الأخرى التى فسّرت بها هذه البدعة الأوربية الحديثة، فهذا الشاب يجر الكلب فى قسوة دون أن يدرى، ولا يناديه باسمه، ولا أرى الكلب يقفز على ساقيه أو يتمسح به، وأقول لعـلها تجارة جديدة مثل تجارة العربات والبشر، وأشك فى طبيعة المهمة، والبنوة، والكلب، والسلسلة، ويصدق حدسى فقد قبض البوليس المصرى على هذا الشاب، هو وكلبه فور نزولنا من السفينة، لست أدرى لماذا. وأنظر فى عينى زوجتى فأجد عندها مثل ما عندى، فأصيح بها وكأنها المسئولة عما خطر ببالنا معاً، أكاد أصيح “لا: ليست هذه مصر” فترد أنها لم تقل شيئا، وتروح تلتمس الأعذار لكل ما أزعجنا، ولكنى أشعر أنها تبتلع الأعذار ابتلاعا وتحاول أن تقنع نفسها بها قبل أن تقنعنى.
…………………
…………………
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثالث: “الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته“
غبار غبار غبار
خانق
جاثم
كيف التنفس
كيف الادراك
كيف الوعي
رطان رطان رطان
يصم الآذان
يريد الهرب
الي شعاب الجبال
يبحث عمن يسمع ويري
يجد اعجاز نخل خاوية.
يرتد الي نفسه
يصيح
يا رب الكون
اغثني
اقبضني
ما لها من قرار.
هل ازفت الآزفة
اقبضني يا رب
لم يعد لي مكان
كي اسبح بحمدك
واقدس لك.