نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 28-8-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6207
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الثالث
الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (7)
الإشكال عندى هو أننى أتمتع الآن بقدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجاز مما يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى،
وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجَه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا ” .
فكان لزاما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها إلى حيث تصورت أننى يمكن أن ” أقرر“.
السفينة: أدرياتكا ـ البحر: الأبيض، 10/8/1986
………….
…………
كيف -قبل ذلك- كنت ألوم المرحوم عبد الله القصيمى على كل هذه القسوة وهو يرفض كل عربى؟ ثم أقول أنا هذا الكلام. الآن أتاكد أن شعرى – مهما تواضع – أكثر جسارة منى.
وكيف – بعد ذلك – استجبت لسامح كريم وهو يطلب منى أن أرد على قصيدة نزار قبانى “متى تعلنون وفاة العرب” علماً بأننى أحب شعر نزار حبا جما، ذلك الشعر الذى يذكرنى بتحدى محمد عبد الوهاب أنه يستطيع أن يلحن سطور خبر فى الأهرام. نزار يجعل من الكلام الدارج جدا شعرا جميلا جدا، مرّة ذكرت للأستاذ نجيب محفوظ شعر نزار وسألته عن رأيه، قرأت رأيه فى إشراقة وجهه أكثر من تشبيهه بأنه شعر “مثل العسل النحل”، أنا لا أحب العسل عموما لا النحل ولا غير النحل، لعل نجيب محفوظ كان يقصد كيف تجمع النحلة نقطة العسل مكثفة من رحيق الزهور، وكيف أنها طبيعية بلا أدنى تكلف، فعلا هذا هو شعر نزار، فلماذارفضتُ التشبيه آنذاك، تشبيهات نجيب محفوظ لها عمق خاص. تذكرتُ تشبيهه لموسيقى الشيخ زكريا أنها مثل “التقلية”. مع كل هذا، ومع شجبى شخصيا للعرب كما سلف، كتبت ألوم نزار على قصيدته ، وأرفض هذا النوع من الشجب ، كما رفضتُ شجب القصيمى، بل وشجبى لهم (لنا) شخصيا. إننا بالمغالاة فى موقف الشجب هكذا لانضيف شيئا، نكتب شعرا، ثم نتراجع عنه نثرا (مثلما أفعل أنا الآن) ، أو ينسخ نزار شعره السابق فى 1967 بشعر لاحق بعد وفاة عبد الناصر ، فلا ينفع هذا أو ذاك فى حفز إفاقة مناسبة .
حين كتبتُ ناقدا قصيدة بشار فى الأهرام حضرنى كتاب عبد الله القصيمى الذى استطردت إليه الآن، ثم هأنذا يحضرنى هذا الموقف الحكمى الذى اتخذته شخصيا، وكأنى حين خاطبت نزار كنت أخاطب القصيمى، ونفسى، معا. قلت:
سيدى نزار، يقولون فى بلدنا على من يبصق: إنه إذا رماها إلى أعلى سقطتْ على وجهه، وإذا رماها أسفل سقطت فى حجره، فأين سقطت بصقتُكَ يا ترى؟؟ أمَ أنك ظننتَ أنك ألقيتَ بها ـ بعيدا عنك، لأنك تنخمّتَها طويلا وعاليا، ثم قذفتَ بها لزجةً ملفوفةً، فإذا بها عقربٌ سام لابد وأن يلدغك أوّلا؟
ذكّرتَنى يا رجل بشاعرنا العربى شوقى وهو يحكى على لسان “الست هدى” كان إذا تنخمّا، أرسلها إلى السما
فلست تدرى ما رمى، أعقربا أم بلغما.
……………..
ثم دعنى أستأذنك لأختم ملاحظتىّ هذه ببعض ما سبق أن كتبتُه أنعى فيه ميتاً يأبى إلا أن يعلن موته بنفسه.كان ذلك قبل قصيدتك بأكثر من عشر سنين (سنة 1983) – دعنا ننتبه ألا نقتل القتيل ونسير فى جنازته:…
لا يحملُ نعشَ الميتِ قاتـلُهُ..،
…….
يقضى العصر الملثات:
أن التوقيع يتم بخط الميت،
والميت يرفض أن يعلن موته،
بعد هذه السنين، أتصور أن هذا الكلام ينبغى أن ألقيه فى وجهى أنا أولا.
ليكن فى سويسرا ثلاث لغات، لم تمنع من أن يكون لهم هويّة واحدة، سويسرية.
نحن عندنا لغة واحدة، لم تفلح أن تجمعنا فظللنا ألف قبيلة وملايين الملوك، فصرنا لاشىء. ما لانهاية تساوى صفر،
يغضينى فى جنيف ماتشوه به العرب، و ما تميزت به الكلاب!!! ولا أستثنى نفسى.
ظل الرجل الألمانى صاحب أو مدير المخيم يشخط (أى يتكلم)، لكن بغير زعل، فقد كان مبتسما طول الوقت، أوهكذا أوْحى لنا الجوع والظلام، وحين فشلتْ كل محاولات التفاهم، أخرج ورقة وكتب رقما، فرجحنا أن هذا الرقم هو إيجار الكوخ (البنجالوز) فى الليلة، فرضينا، ولم يكن أمامنا إلا أن نرضى، ومع إصرارنا وقبولنا لكل شىء، يبدو أنه أخذته الشفقة علينا ـ بالألمانى ـ ، فراح ينصت لما لا يفهم، ويستجيب لإشاراتنا التى تطلب مرة بوتاجازا، ومرة غطاء زائدا (فقد بردت الدنيا ـ نحن فى منتصف سبتمبر يا ناس)، وزاد الأمر برودة خلو المخيم من أى صخب دافئ كما اعتدنا أن تكون المخيمات، وأصرَّّ الأولاد ـ رغم ضيق الوقت ـ أن يطبخوا لنا طبخة الوداع، ولسبب آخر: هو ألا يفسد التموين الذى جلبناه معنا من فرنسا شخصيا، وما كان لنا أن نرفض “عزومتهم ” رغم عزوفنا عن قضاء آخر ليلة بوقتها المحدود فى هذا الطبيخ، ومثله.
انطلقنا إلى جنيف البلد نودع، ولم نتمكن إلا من تحية الممشى أمام سلسلة الفنادق على طرف البحيرة، ألقينا التحيه على فندق «البريزيدانت» قائلين له أن “بنجالوزا” تخفق الأرواح فيه وتحيطه رائحة الشواء وتصدح منه الضحكة الرائقة، أحب إلينا من فندق فخم يقدم خدمة رائعة بأنوف عالية تنحنى لقرش وهى تحتقر صاحبَه، وهناك فى هذا الممشى الجميل المتسع أخذت أسترجع كراهيتى للمكان، فسعدت باكتشافى أنه حتى استرجاع الكراهية هو نبع طيب لنبض حياة ثرية، إذ يبدو أن المهم أن نحب وأن نكره، وأن نعاود الحب وأن نعاود الكراهية فنتخذ موقفا فى كل حين، من كل شىء، فاقتربت أكثر فاكثر مما أكره، حتى اكتشفت أنى أكرهه لأنى أمِـلت فيه ما يستحق، فلم يعطنى ما وعد.
ارتبطت جنيف فى خيالى (رغم عدم الود)، بالنظافة والجمال والنظام، وما أروعها علامات على الحضارة بما تحمل من احترام الغير، وتصورت أنه بإمكان زائرها أن ينتقى مما يلقى على حواسه نغمات تؤلف لحنا جميلا رائقا، لكننى وجدت ما يجعلنى أراجع تربيطاتى السابقة، فجنيف هذه الآن قد امتلأت بفضلات الكلاب وسفاهات بعض العرب.
أما العرب فقد سبق الكلام عليهم، وأما الكلاب فقد ملأونى تحديا، وملأوا شوارعها بآثارهم، ولا يوجد جهاز مهما بلغت ملاحقته يستطيع أن يتابع ما تفعله “الكلاب” بالشوارع، اللهم إلا إذا عينت البلدية وراء كل كلب موظف نظافة، أو ربما ألزمت أصحاب الكلاب بأن يتوقفوا عقب قضاء الحاجة يتصرفون بمعرفتهم فيما آذوا به شعور الأخرين والشوارع. أو ربما استلهموا مشروع “بمبرز” من سنبل.
جعلت أتأمل ظاهرة اقتناء الكلاب بهذا التواتر الغريب، وكأن العلاقة بين “الجنيفى” (والأوربى عامة) والكلاب قد حلت محل العلاقة بين الإنسان والإنسان، بل إن المسألة لم تقتصر أبدا على الكلاب، حتى أنى شاهدت مرّة فى حديقة فى باريس بعينى رأسى سيدة شديدة النظافة (والعقل كما يبدو) وهى تجر خلفها أرنبا مدللا(أى والله)، وقد لفّـت جذعه برباط جلدى مثلما يفعلون بالمينى كَلْب (الكلاب المصغرة الدقيقة!!) ـ فيزداد ترجيحى أن الكلاب والقطط والنسانيس والأرانب قد حلت محل الانسان لمّا التهمته خدعة الحرية والندّيةالشكلية، فصارت العلاقات صفقات، وصارت اللقاء ات مصالح سطحية، وفُرضت الوحدة على كل ما هو بشرى “حر”، فُرضت الوحدة الصقيعية اللهم الا من فرقعات التصادم التى تحدث بالمصادفة أو بالجذب اللحظى ثم كل ملهـٌّى فى حاله.
يبدو أن الإنسان مازال يحتاج لمن يربطه ويتبعه، كما يحتاج لكائنٍ يرتبط به ويرعاه ويعتنى به بخصوصية مميزة، والكلاب ـ ولامؤاخذة ـ يقومون بهذا وذاك بعد أن عجز الإنسان والإنسانة أن يأمنوا لبعضهم البعض،.
النظام، وهو أعظم ما يحدد خطى الانسان فى اتجاه غائى، تضخَّم فى جنيف حتى كرهته وكرهتها من مدخل آخر، فقد امتد النظام إلى زهور الشوارع والأرصفة والحدائق الجانبية والعامة، فصارت تنسَّـق بمنتهى الدقة كل صباح، أو كل ساعة، تمادوا فى ذلك حتى حسبت أن الطبيعة قد رفعت يدها عن زهورها، ليحل محلها هذا التشكيل المحكم القاسى، وليس عندى أحن من الطبيعة وهى تهدينا زهرة ما، أو ظلا ظليلا، نهذبه بقدر ما يؤكد انسجامنا مع نغمها الأصيل، أما أن نتدخل كل هذا التدخل حتى ينقلب الحال الى ما يشبه الوسواس “الزهورى” فنجد الزهور وقد اصطبغت بصناعة إنسانية مفتعلة ترسم الشكل، بالملليمتر الواحد، فهذا ما أشعرنى بالمبالغة حتى كدت أشك فى أنها زهور طبيعية، فرُحت ـ فى السفرة السابقة ـ أنقل مشاعرى هذه الى زوجتى، فتوافقنى حينا وتخالفنى حينا، حتى إذا هممت بالامساك بالزهور الـشديدة التنسيق لأتأكد أنها ليست من البلاستيك نهرتـْـنى خشية أن يحسب الناس أنى أهم بقطفها، وأيضا : خوفا على الزهرة من شكوكى.
تأكدت من كراهيتى لجنيف هذه المرة، فرحت أقبل على ما كَرِهْتُ إقبال اليقظ الفرح بصراحة مشاعره، وكان الجو ليلا، ولسعة البرد المنعش تذكّـرنا أننا ما زلنا فى أوروبا وتحاول أن تصالحنى، وقد حصل:
هذه مباراة فى “الباتيناج” تقام بين شباب غض ماهر نشط، ملعبها هو الرصيف الناعم الملمس أمام سلسلة الفنادق قرب ميدان ساعة الزهور، يحيط بالملعب بضعة متفرجين من المارة منّا، والمباراة ـ إن صح التعبير ـ هى بين شابين لا يتعديان العشرين، وقد لبس كل منهما حذاء الباتيناج ذى العجلات، ووقف بقية أفراد الثلة يتابعون، وقد رصوا علب الكوكاكولا الفارغة فى خط طويل وعلى مسافات متساوية أو مختلفة، ويبدأ المتبارى الأول من بعيد منزلقا على عجلاته، فيمر فى خط متعرج يشبه “زجزاج” بين كل علبة وأختها من ناحية إلى أخرى، بحيث لا يجمع علبتان معا، ولا يلمس أى علبة ما أمكن، فهو لو لمسها فى سرعته تلك ستقع حتما وقد تتدحرج بعيدا، يعملها مرة بكلتا قدميه، وأخرى بقدم واحدة، ثم بالقدم الأخرى، ويعد المشاهدون من الثلة (الحكام) عدد العلب التى لمسها (انقلبت) فى كل مرة ثم يأتى غريمه ويبدى من المهارة ـ بدوره ـ ما يبدى وهكذا، وأقف مشدوها معجبا بكل هذه المرونة، والمهارة، والسرعة، والتحكم.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثالث: “الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته“