نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 21-8-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6199
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الثالث
الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (6)
الإشكال عندى هو أننى أتمتع الآن بقدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجاز مما يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى،
وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجَه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا ” .
فكان لزاما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها إلى حيث تصورت أننى يمكن أن ” أقرر“.
السفينة: أدرياتكا ـ البحر: الأبيض، 10/8/1986
………………….
…………………
كنت قد نزلت ـ كما ذكرت ـ فى العام السابق لكتابة هذا الكلام ـ ضيفا فى أحد فنادقهم الفخمة (فندق الرئيس: بريزيدانت President) لم أحببه بسبب فخامته الفائقة، وكنت ضيّقا بوضعى كضيف، وضيّقا بالمسافة بينى وبين السويسريين، وضيقا بمعاملتى ـ بصفتى عربيا ـ كأى صنبور نقود، يفتحونى، فأوقع، ويدفع المضيف، فحرمونى من نفسى، ومن حرصى، و.. ومن كرامتى يا شيخ، (دون أن يمس طرفى أحد والله العظيم)، فجعلت أتطلع إلى اللافتات بالحروف العربية مثل لافتة “البنك العربى المحدود (سويسرا)، مكتوبة بالعربى والمصحف الشريف، أنا لا أترجِم، وتصورت أنه لو فتح نفس هذا البنك فرعا عندنا فسنكتبه وسنقرؤه هكذا “ذى أرابك بانك أف سويتزر لاند ليمتد!!”، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قلت لنفسى وأنا أمر بين الفنادق والبنوك، “هنا يصب البترول بلا عائد حضارى، حقيقى، وهنا ـ وأمثال هنا ـ ستدفن حقبة من تاريخ أمة أعطاها الله فلم تقتنص الفرصة، فضيعت الأمانة”، سوف
لا أحد يحتاج من العرب الحاليين شيئآ غير نقودهم وأسواقهم، ثم بترولهم من قبل ومن بعد، لا أحد يحتاج فكرهم، ولا إبداعهم، ولا اختلافهم، ولا حوارهم، هم يحتاجوننا لهم بقدر ما ننزف حتى ننتهى، وهم يسخرون منا ونحن نتسفه بما أعطانا الله، خطر ببالى أننا لم نستقلّ أصلا، وحتى البلاد التى لم تُحتل ابتداء، قد سعت إلى هذا الاحتلال الجديد بنفسها وبإلحاح، وبمقابل!!!،(كتبت ذلك مثلما سبق أن شعرت به، حتى قبل الاحتلال “المدفوع الأجر” بعد خيبة العراق البليغة) وأكاد أقسم أن فخرنا بالاستقلال التام هو بلاهة ما بعدها بلاهة، فالاحتلال العسكرى الصريح له مزاياه التى لا يمكن إغفالها من أول التنفيرللتحدى، إلى التذكير بالواقع، إلى لم شمل الفرقاء فى مواجهته، وغير ذلك كثير. أما هذا الاحتلال السرى المخادع فنحن لا نرى آثاره الا بعد أن نُستنزف، فنضعـُف، فنستجدى.
اقترح على الأولاد أن نبيت فى نفس المخيم الذى أمضيتُ فيه ليلتين سنة 1969، فيوافقونى مجاملة، مع أنهم ألمحوا أنهم أمضوا فى طريق عودتهم فى العام الماضى ليلة فى مخيم على بحيرة ليمان مباشرة وكانوا يفضلونه، وشكرتهم فى نفسى، وأحاول أن أتذكر اسم مخيمى فأعجز، ولا أتذكر إلا “الاتجاه” ناحيته، فتظهر إشارات مخيمية، أتصور أنها هى، ولكنها تؤدى بنا الى مخيم آخر مهجور، الساعة متأخرة، وليس أمامنا خيار كثير، وكان الليل قد أطبق، ثم إنها ليلة واحدة لنا واثنتين للأولاد، فاستخرنا الله وقلنا نتحمل سواد الليل كيفما اتفق، المهم أن نضع جنبنا على أرضٍ ما، ونلتحف بسقف ما، نعم كان مخيما مهجورا، لم نلمح فيه سوى نزيل أو اثنين، وكان يبدو بلا صاحب وكأنه ترك بقية الموسم صَدَقَة جارية لمن يريد، وقلنا همم، وهاى، و ييا، بلا فائدة، ثم ظهرت قافلة من القطط غير الضالة تتقافز حول شبح قائم فى الظلام (كما فى السينما!!) فتبينا أنه المسئول عن المكان يزفه ويتقدمه موكب القطط التى لا بد أنها كانت ضالة فلمـّها، فصارت حرسه الخاص وعشيرته. كان وجهه جهما، لكنه مرحب فى هدوء صارم، وأخذ يكلمنا بلغة غريبة رجحنا أنها الألمانية من كثرة ما امتلأت لهجته بالشخط والـ “خاء ات” وما يصاحب هذا وذاك من نفخ متكرر فى شدقيه. وأنت تستطيع أحيانا أن تميز بعض اللغات بموسيقاها، أو بقراء ة ملامح الوجه والشفاه أثناء نطقها، ولكن ماذا نستفيد من تمييز أنها الألمانية (يا فرحتنا!!) ونحن لا نفهم فيها حرفا ـ وتذكرت وأنا أكتشف من واقع الحال أن ثمة سويسريين ألمان (!!) كما أن ثمة سويسريين فرنسيون سواء بسواء، (بل وإيطاليون أيضا) أعنى يتكلمون بهذا اللسان أو ذاك، ولكن ـ بينى وبينك ـ المسألة ليست مسألة لسان، بل كيان، رحت أتساءل من جديد: ما الذى يربط هذه الشعوب ببعضها داخل حدود دولية (آمنة) ومعترف بها؟!!، مع اختلاف اللسان هكذا، وما الذى يفرقنا نحن العرب عن بعضنا عبر حدود لا آمنة ولا معترف بها (بما يعنى الاستقلال الحقيقى) ونحن نتكلم نفس اللسان ومن قديم الأزمان، ومع ذلك لا يربطنا اللسان، ولا البيان، ولا الأمان المزعوم، ولا رَبَطَنَا حتى اللاأمان فى مواجهة الوحش الإسرائيلى، إن وحدتنا العربية يمكن أن تسمّى الوحدة الصوتية الخطابية، فى مقابل وحدتهم الاقتصادية النفعية.
أتذكر صديقى القاسى الطفل الملحد الجميل «عبد الله القصيمى» صاحب كتاب “العرب ظاهرة صوتيه” ـ كنت كلما زرته فى بيته فى الروضة بجوار كوبرى عباس، على النيل، رحّب بى كمن ينتظرنى بوجه خاص، عرّفنى به صديق يمنى رائع، هو على محمد عبدالله، يلقب الآن بـ “السناتور” حين نجح لمرّة واحدة فى الانتخابات اليمنية ثم فشل بعد ذلك (ربما لأنه نبيل، وأمين، وبسيط، ورائع) . كان الشيخ “عبد الله” (هكذا كنا نلقّبه رغم أنفه) يفتح النار علىّ بعتاب ساخر باعتبارى طبيبا، وطبيبا نفسيا. وكأنى المندوب السامى الراصد لكوارث الكون، وليس بالضرورة المسئول عنها . كانت حدته بالغة وهو يتهم الطبيعة وخالقها بالقسوة والعشوائية والإضرار والظلم. حين أهدانى كتابه العرب ظاهرة صوتية كتب بخط كبير جميل ما غطى الصفحة الأولى حتى كاد عنوان الكتاب يختفى بين ما كتب من إهداء، كان يدعونى أن أسخّر (أنا وزملائى) الطب الذى تعلمناه لإصلاح ما أفسدته الطبيعة وخالقها. كتب فى إهدائّه:
إلى الإنسان المداوى من هجمات وعدوانيات وجهالات وبداوات ووقاحات الـ…. والطبيعة، المداوى من كل البلادات والسفاهات والتشوهات والآلام والأخطاء فى ضمير وأخلاق وعضلات ونيات الـ… والطبيعة… أى الصديق “شخصى” محبا وشاكرا وذاكرا ومتداويا”
طبعا حكاية متداويا هذه من باب المداعبة، فمثل هذا الشيخ الجليل كان يمثل لى وجودا رائعا أتعلم منه ما لا تتيحه لى علاقات المجاملة والمناورة. لم أكن أتفق معه إلا فى أقل القليل مما ينادى به، مثلما كنت لا أتفق مع شيخنا الجليل محمود شاكر على الجانب الآخر، لكننى لم أملك إلا أن أحبه جدا،
ذات مرة، زرته بعد وفاة المرحومة زوجته، وكان قد قارب التسعين، فتح لى بنفسه (كالعادة) وكان وحيدا تماما . رحب بى وقام على خدمتى وأنا أحاول أن أثنيه، بدا لى أهدأ قليلا، وأكثرنحافة، وربما انكسارا، عزوت ذلك لفقد زوجته، لم تمض بضع دقائق حتى ثارت ثائرته وتحركت براكينه التى يحاول أن يغطى بها إيمانه العميق وطفولته المجروحة، كان من القلائل الذين لم أستطع أن أركن إليه والدا، بل لعل العكس هو الذى حدث .
مرة أخرى وجدت عنده أربعة شيوخ أفاضل من مصر واليمن والسعودية والعراق، وكان الجميع يرتدون الجبة والقفطان والعمامة (ما عداه طبعا) . كانوا أصغر منه سنا. لعلهم من تلاميذه الأوائل. عرّفنى بهم . رغم الاختلاف البادى فى المظهر والفكر، لا أذكر إلا أنهم كانوا يحيطونه باحترام وحب حقيقىن. كما كانوا يتجنبون الدخول فى التفاصيل حتى لا تشتعل النار أكثر،
تجرأت هذه المرّة مؤتنسا بحضورهم وقلت له عن رأيى فيما يصلنى منه من إيمان راسخ، وأن ثورته المزمنة هذه على الطبيعة وخالقها لم تنجح فى تخليصه من عميق إيمانه، تعجّبت لاستجابته. نظر فى الأرض يخفى ظل ابتسامة، ثم رفع رأسه وداعبنى، فأكملت جادا كالمداعِب أننى أتصور، أو آمل، أن الله سبحانه سوف يتغمده برحمته فى آخر لحظة ، أو حتى بعد آخر لحظة، وأنه سوف يعطيه مقلبا ويدخله الجنة. ضحك المشايخ ولم يعلّق هو ، وصلنى منه – لست متأكدا – خليط من الحمد، والشك، والرفض، والتخوّف.
كان سخطه على العرب يصل إلى درجة الإهانة،
كان يردد بفخر وعرفان موقف البرلمان المصرى فى الأربعينيات حين قبل إيواءه بعد الحكم عليه بالإعدام فى السعودية. (حسب ما تسمح به ذاكرتى الآن)،
لم يكتف أن يسب العرب فى كل صفحة من الثمانمائة صفحة التى يحويها كتابه “العرب ظاهرة صوتية” وإنما كتب على الغلاف ما كرره حرفيا على الصفحة الأولى:
“إنه لا أضْيَع أو أخْسَـر أو أرْدَأ حظّا ومجدا من كتاب عظيم أو جيد يتكلم اللغة العربية ويكتب بها مخاطبا الإنسان العربى… إن اللغة العربية لن تكون إلا كفنا لكل فكر أو معنى عظيم أو حر أو صادق أو شجاع أو مبدع يكتب بها، أى لو كتب بها وهل حدث أن كتب بها؟”
لم يكن ينكر على العرب وعلى اللغة العربية حاضرها فحسب بل وماضيها أيضا، ومن أشد ما لفت نظرى هجومه على المتنبى مثلا فى الفصل الذى أسماه “المتنبى يروى معارك سيناء والجولان”.
قبل أن أتمادى فى رفض رفضه حضرنى موقفى الباكر فى القصيدة التى أرسلتُها فى سن 14 سنة لشيخى محمود شاكر واصفاً فيها ناسَنَا بأنهم:
“فحتَّى المحاكاةُ لم يتقنوها : مسوخ قرودٍ بقايا بشر”.
هذا الشيخ الجليل يصرخ ألما لم أعرف مداه إلا مؤخرا.
إن حال العرب صعبة فعلا .
فى سفرة عاجلة، (1980) انتقلتُ فجأة من باريس إلى بلد عربى، مرورا بالقاهرة لليلة واحدة، كنت منفعلا جدا ضد سلبيات ما هو “غربى؛ كان قد حرّكنى فيلم “كل هذا الجاز”و “آخر تانجو فى باريس” (كما أشرت سابقا) وإذا بى أجد نفسى فجأة فى مواجهة سلبيات وخيبة ما هو عربى، خلال ثمان وأربعين ساعة ، فوجدت نفسى غراقاً فى كذبة آسنة أكثر إثارة: جزعتُ حتى قلت :
وبلادٌ تركبها الفِيَلةْ،
والناس تُساقْ.
أفكار الواق الواقْ
النقش الوهمُ على الأوراقْ.
المنزول الترياقْ.
……………
أبشرْ بالخير. أبشرْ بالشر.
لا فرقَ اليوم: الأحد السبت الجمعةْ.
والناس سواسية والرجل السمعة.
……………
والثورة “سابقة التجهيز”.
تشفى كل الأوجاع
آلام الرؤية، ولزوجة الاستماع
إلى أن قلت:
فضّ الشيخ بكارة عقل الأطفال السُّذَّجْ.
أقرأَهُم فأعادوا لغة العصر الأعرجْ.
باسم الموت الذهب الأصفر والأسود،
الأشطرُ ألزجْ، والأحوجُ أغنجْ.
والقرش لمن يحذقُ خَطْفه، أو ساسَ الناسْ.
……………
لا تسأل عن شئ إن يظهر لك تكفُرْ.
فاشكرْ، واصبرْ.
من حضر القسمة يقتسمُ.
من أخذ الصرة يبتسمُ.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثالث: “الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته“