نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 14-8-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6192
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الثالث
الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (5)
الإشكال عندى هو أننى أتمتع الآن بقدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجاز مما يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى،
وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجَه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا ” .
فكان لزاما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها إلى حيث تصورت أننى يمكن أن ” أقرر“.
السفينة: أدرياتكا ـ البحر: الأبيض، 10/8/1986
……………………
…………………..
وكان من بين ما أنشد هذا المرشد الشاب (!!) الطفل الفحل أغنية تبدو شديدة الصراحة، وهى فى عمقها شديدة الذكاء والرقة، كانت كلماتها تقول:
“جانوتون” أخذت فأسها، (لاريناتو لاريناتو ـ أو: لا غيناتو… الخ)، لتحصد القمح حصدا، فى الطريق قابلتْ أربعة صبيان حلوين وأشقياء (لاريناتو… الخ)، ـ كان الأول خجولا، فقـبـّلها على ذقنها، (لاغيناتو… الخ)، ـ وكان الثانى أقل تعقلا فرفع طرف “جونيلتها” البيضاء ـ أما الثالث فكان أقل فأقل تعقلا فأوقعها على الحشيش، لكن ما فعله الرابع لا يمكن ذكره فى هذه الأغنية،
وتنتهى الأغنية بإعلان الحكمة من كلماتها قائلة:
إن مغزى هذه القصة هو أن الرجال خنازير
ثم تردف:
لكنّ مغزى هذا المغزى هو أن النساء تحببن الخنازير.
وأعجب لهذا القدر من التلقائية التى كنا نعيشها دون أن تثير فينا “أدنى الغرائز” بل أكرم “الضحكات” وأرقى المشاركة، وحين يكشف الناس بهدوء واحترام طبيعة هذه النزعات الفطرية التى خلقها الله فينا، يأتيها الهواء المعرفى النقى فيقترب بعضنا من بعضنا فى تكامل لابد أن الله يحبه،
سبق أن أعلنت حذرى فى هذا العمل وغيره مما قد ننحدر إليه تحت عنوان محاربة الأغانى الساقطة وعدم خدش الحياء، وكأننا لانعرف كيف نفرق بين “الحياء” وبين “الكبت”، بين الحياء الظاهرى الذى ندعيه، والقتل الخفى الذى نحمله بين جنباتنا، دفاعا عن دفاعاتنا المجمدة المتجمدة.
تبدأ السيارة فى الهبوط الحاد، وعادة يبدو لى الهبوط أصعب من الصعود، لأن السيارة تندفع وتسحبنا سحبا ما لم نكن فى أتم حالات اليقظة، وكنت أشعر أحيانا أن قلبى يسبقنى “إلى تحت” مع السيارة المندفعة، قبل أن يلحق بهما تحكمى، وننزل أكثر فأكثر، هابطين الى تحت (العسل النحل!!) لأنى تذكرت تلك الأغنية العارية أيضا، وأقارن فأقول أنه إن كانت الأغنية الفرنسية قد “حضرت” ونحن نصعد الجبل فى لطف ودندنة، فلتحضر أغنيتنا الريفية تغنى أيضا فى لمزٍ وتورية:
ياللا بينا على تحت،
العسل النحل
العسل النحل
لبّــسته البدلة البمبى
قّلعته البدلة البمبى
واحدة واحدة على جنبى
وانت نازل على تحت
العسل النحل
العسل النحل
ثم البدلة الحمراء، والبدلة الرصاصى، وفى كل بدلة: واحدة واحدة على جزء حساس من جسدها، لحين ينزل “على تاحْت”، “العاسَالِ الناحل”
هكذا خلق الله البشر، فأين خدش الحياء رحمكم الله.
ثم إن العلانية والجماعية فى هذه الأغانى الجميلة تحمل ما هو تعليم رقيق خفى، والعلانية ليست فجورا ولا قبحا، العلانية تؤكد ـ إذا ما تناسقت بمسئولية ـ نقاء الفطرة، والتشرف بشجاعة الإعلان عنها، وسلاسة انسيابها.
أقول لنفسى إن كل ما خالف الفطرة باطل ومعوق ومؤقت، ثم يا ترى حين تنهار هذه الحواجز الكاذبة بيننا وبين فطرتنا بالانفجار، أو حين تخفت بالهمود، ماذا سيتبقى من نبض البشر النامى؟
نقترب من الحدود السويسرية (إن كان ثمة حدودا حقيقية) ولكن قبل أن يتمادى الهبوط المتلاحق ينادينى منظر “موتيل” صغير نظيف، فأتوقف معتزما أن أتعرف عليه، وأعرض على صحبتى وقد اقترب الليل أن نبيت فيه فيعزفون، فلم يبق أمامنا سوى ليلة واحدة، وهم يفضلون أن يمضونها فى جنيف لإحياء الذكرى أو للتحية، ولكننى أصر على الاستعلام، ولو للمستقبل، فأعرف أن أجر الإقامة فى غرفة متوسطة، بحمام كامل مستقل، لشخصين هو 68 فرنكا فرنسيا (كان الدولار أيامها بثمان فرنكات إلا قليلا وكان يساوى أقل من جنيه مصرى).
أحسب حسبتى فأجدنى أستطيع أن أمضى بقية حياتى هنا بلا عمل، (من أعمالى القهرية!!) فى هذا الجبل قريبا من نفسى، من الله، من كَلِمَتِى وخبرتى، فماذا يدفعنى بعد ذلك للعودة، فالشقاء، فالتحمل، فالمحاولة فالإحباط؟ وماذا يمنعنى أن أعتزل الآن ما دمت سأواصل العطاء بلغة أخرى، من موقع آخر، سدادا لدينى للناس؟ نعم من موقع “الكلمة” و”رصد الخبرة”،(وكلام من هذا)، ولا أجرؤ أن أعلن أفكارى هذه لرفقتى، وخاصة زوجتى، فأبتلعها دون أن أنساها، وأحتفظ بصورة المكان فى ركن خاص من وعيى، وأقول له هامسا: رغم كل شئ فإنى عائد إليك حتما، متى؟ هذا ما لا أدريه.
لا أنتبه هذه المرّة بوضوح إلى أن علة “الحنين إلى الركن” قد عاودتنى، فهى أحيانا ما يصاحبها بصيرة حادة، و كثيرا ما تتخفى وراء حجج تبريرية تغطيها، أوتعطيها اسما حركيا خفيا (مثل التفرغ، والإنجاز، والإبداع، وإعادة الولادة وكلام مثل كلام الخطبة العصماء التى ذكرتها حالا، ومثل كثير من الذى سيأتى ذكره).
نمضى هبوطا، والآذان تمتلىء، وبعضها يصفر، والأدمغة تصفق، وبعضها يطقطق، ويعضنا الجوع، فنحن لم نتوقف منذ الصباح، بل منذ أمس!!، فنتوقف قبل الحدود عند محل بقالة طيبة (لاحظ تكرار “وصف الفرنجة” بالطيبة، وهذه ليست مجاملة) ونتزود بمئونتنا بالعملة الفرنسية، لأننا نعلم ما أكدته لنا البقال(ة) (كانت سيدة!)، أننا بمجرد أن نخطو إلى سويسرا سوف تشتعل الأسعار، وتؤكد لنا البقالة أنها ـ شخصيا ـ حين تنزل إلى جنيف، تصطحب معها حاجياتها الضرورية حتى لا تضطر إلى التعامل بالفرنك السويسرى.
ثم نمضى ونمضى حتى ننساب مرة أخرى عبر حدود وهمية إلى جنيف، ونكاد لا نـلمح رجال الحدود وهم يشيرون إلينا أن “مروا” فحسبناهم من رجال المرور لا من رجال الحدود، وحين قلنا نتزود بالبنزين من محطة ظهرت، كنا نتصور أننا سنتزود بالفرنك الفرنسى، وإذا بنا نكتشف أن حللنا سويسرا شخصيا دون أن ندرى.. نفس الخبرة بين إيطاليا وفرنسا قادمين.
دخلنا جنيف بعد العصر بكثير.
مازلنا الأربعاء 12 سبتمبر 1984
أبدًا لم أحب فى جنيف، الا جنيف القديمة، أما جنيف الساعة الزهرية، وجنيف حول طرف البحيرة، ومنطقة الفنادق والمحلات والبنوك، وهى المنطقة التى يتكدس فيها العرب باعتبار أنها هى سويسرا، فإنى قد كرهتها فعلا، ولم أحاول أن أبرر كرهى لها، لكن هذا هو ما اعترانى وسط السائحين من بعض أثرياء العرب، وفى كل مرة أحاول أقيم معها علاقة ما، أجدنى أفشل، وأشعر أن السويسريين، أعنى الجنيفيين يضعون مسافة بينهم وبينى (بيننا)، هل هذا هو التفاعل الطبيعى من واقع ما خبروه من الضيوف العرب الأمجاد؟، أم أنهم هكذا يحسون بالانتقاخ العنصرى والأنفة السيادية، وكأنهم يقولون: “سياحة، وأنا سيدك”. تصورت أن أغلب السويسريين قد تركوا البلدة فلم يبق إلا من هو لزوم التجارة والسياحة، إذن، فهؤلاء ليسوا هم السويسريين الذين لابد أن أحبهم لنظافتهم ورقتهم ونظامهم، إلا أن ثمة أمور أخرى ربما تبرر لى هذه المشاعر السلبية.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثالث: “الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته“