نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 7-8-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6185
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الثالث
الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (4)
الإشكال عندى هو أننى أتمتع الآن بقدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجاز مما يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى،
وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجَه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا ” .
فكان لزاما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها إلى حيث تصورت أننى يمكن أن ” أقرر“.
السفينة: أدرياتكا ـ البحر: الأبيض، 10/8/1986
………………
………………
كنا فى فى “دول” فى أجازة رأس السنة (1968 ـ 1969)، وكنت أنطلق فى الصباح الباكر فى صقيع أول العام، ألفُّ لفَّ المحب الخجلان من اعتافه بمشاعره حتى لنفسه، الخائف من اكتشاف ضعفه، المقتحم الصابر على وحدته، ولم أكن أعرف أنى كنت كل هذا، أو بعض هذا، ولكن هأنذا، بعد كل هذه السنين أتعرف على نفسى ـ حينذاك ـ وأرانى وأنا أخطو فوق طبقات الجليد، وأتحسس أنفى لعله مازال فى مكانه، وكأن ثلج تلك الأيام والأماكن قد جمّـد الخبرة فظلت محفوظة حتى عادت تتحرك الآن حين أتيحت لها الفرصة، وأتمنى أن يشاركنى أحد رفاق رحلتنا هذه أى شئ مما أنا فيه، ولا أطمع فى أكثر من التمنى، فمن أين لهم بأى جليد، أو عباءة أو أنفٍ يتحمّدْ أمشى، فلا أتمادى فى التمنى.
عبرنا خارج “دول” Dole سريعا دون أن ندخلها، واتجهنا إلى اختراق سلسلة جبال الجيرا، وقد سبق لى أن اخترقتها مرة ثانية أواخر عام 1969 وأنا أوصل زوجتى وإبنى إلى فينسيا، وكان يطيب لى أن أقارن بينها وبين سلسلة جبال الألب، وهى تقع فى الجانب المقابل من بحيرة ليمان، ومازلت أشعر أن سلسلة الجيرا هى أطيب وأرحب من الألب الشامخة المتحدية فى صلافة، فللجبال حضور كما الإنسان،
وقد حدثتنى جبال سيناء واحدا واحدا كل بلغته، حدث ذلك لاحقا حين زرتها مرارا، أحسب أن من ينصت جيدا لحديث الجبال، حتى وإن انعدمت الخضرة عليها ومن حولها، لابد أن يعاملها ككائنات حية “تقول” “وتسمع” وتحب ولا تغضب، لكنى نادرا ما وصلنى أنها تكره.
كان عجبى شديدا وأنا أدخل المدينة المنورة من الشرق قادما من “القسيم” (قائدا سيارة أيضا) حين واجهتنى تلك القمم السوداء وكأنها عباءة حماى، تحمى قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، وحين مضيت من المدينة إلى مكة، قبل تمهيد الطريق مثلما هو الآن (كان ذلك عام 67) أخذت أنظر إلى كل هذه الجبال وأتذكر رحلة الهجرة، وأعجب لتصورى السابق من أن الهجرة كانت إلى مكان أقرب، فى صحراء أسطح، فاذا بها مئات الكيلو مترات، وسط سلسلة متحدية من الجبال ناهيك عن الهجرة الأولى إلى جبال الطائف، جبال كلها “تقول”، كلها “تقول”، وصدقونى، ومن لا يصدق، فليرهف السمع إذا أتيحت له الفرصة، ولسوف يسمع حتما ما تقوله الجبال، كل الجبال بكل اللغات.
لكن جبال الجيرا تقول، وتعزف، وتغنى معا. أعبرها هذه المرة بشكل جديد، وأمان مادى جديد، مع صحبة جديدة، وقد تقدم بى العمر لكنى أكتشف أنى أنبهر بها بدهشة أخرى طازجة فتية ـ كأنى أراها لأول مرة. رؤية الجمال فى ظروف غير ملائمة تصل إلينا كأنها مسودة سريعة، أو خطوط عامة (اسكتش) لما يمكن أن يحتوى ويقول، فإذا أتيحت رؤية ثانية، فثالثة فى ظروف مختلفة ملائمة، فان هذا “الاسكتش” يتحول إلى واقع نابض، ثم يتكشف عن طبقات بعد طبقات فى كل مستوى منها شئ جديد، هيرقليطس يقول إن الإنسان لا يستطيع أن ينزل نفس النهر مرتين، بلغنى الآن أن ذلك لا يرجع فقط لأن النهر جار فهو ليس هو نفس النهر أبدا، ولكن أساسا لأننا نَحْن لسنا نحن فى اللحظة التالية. إننى أتخلق من جديد مع كل ما أرى وهو يتخلق بدوره، بى، فيتجدد انبعاث المستوى تلو المستوى تلو المستوى من الجمال المتعدد الطبقات والمتفرع المقولات، موجات البحر التتالية ليست أبدا هى هى، ولا موجة واحدة، تتكرر، كيف يفضل أحادى حمام أسباحة على الحر ؟ حتى الجبال برسوخها و ثباتها أستقبلها كموجات بنفس الطريقة، ولكن من باب وعىٍ متموج آخر، وقد كنت أحب البحر قبل أن أتعلم العوم مؤخرا مثلما أحبه الآن، بل إننى كنت أنزل فى الصباح الباكر وأنا أحذق العوم أقفز وحدى فى حضن موجه عملاقة، كانت عباءتها تهدهدنى وتحمينى فى نفس الوقت من احتمال سحبى فى البحر الهائج، (انظر إن شئت الترحال الأول).
أبطئ بالسيارة وكأنى أتمهل مضغ لقمة سائغة، “أحرك داخلى لأرى ما سبق أن رأيت: ليس كما رأيت”، فقد كانت انشغالاتى الحياتية آنذاك تمثل حاجزا ما، لكنه حاجز مسامىّ غير مصمت، استطاعت الرؤى أن تنفذ من خلاله لتستقر، حتى أعود لأجُـّرها هكذا:
نبدأ فى الصعود فى جبال الجيرا الملتوىة قليلاً قليلا، ثم كثيرا قليلا، ثم كثيرا كثيرا، ثم قليلا، وهكذا، والأولاد يطربون بعد أن اعتادوا اللعبة، حتى لم يعودوا ينطلقون فى الغناء بغية أن يغالبوا توترهم، فأستثير مشاركتهم، فىتلكأون، فأنتهز فرصة صعود سحيق، وأبدأ أنا هذه المرة الأغنية التى ترجمتُـها ـ لهم صغارا لتؤدَّى بالعربية بنفس اللحن، تقول الأغنية ذات الأصل الفرنسى:
هىَّ نازلة مالجابل عالحصان،
هىَّ نازلة مالجبل عالحصان،
هىَّ نازلة ملْجابَالْ، هيه نازلة ملْجابَالْ، هيه نازلة ملْجابَالْ، عالحصان
هبىَّ يايايا، هبِّـى يا.
وهكذا. إلى أن تقول :
هىَّ شايلة مُسَدّسَاتْ فى الحزامْ،
هىَّ شايلة مُسَدّسَاتْ فى الحزام. أو:
هىَّ شايلة مُسَدّسَاتْ، هيه شايلة مُسَدّسَاتْ.هىَّ شايلة مُسَدّسَاتْ: فى الحزام.
ثم
هىَّ قاَبْلِتْ جدّها وهيه نازلةْ.
(نفس التكرار)
هىَّ بَاسِتْ جدها وهيه نازلةْ،
(نفس التكرار)
ياريتنى كنت جدها وهى نازلةْ.
ياريتنى كنت جِدِّها، ياريتنى كنت جدها، ياريتنى كنت جدها وهىّ نازلة.
نقولها مرة بالعربية، وأخرى بالفرنسية، ونهتز معها وتهتز العربة وكأنها ترقص.
أتصور كيف يمكن أن تتهم هذه الأغنية البريئة الجميلة بأنها تخدش الحياء.
أغانى الفلاحين الطيبين الشرفاء فى بلدنا كانت تقول ألطف من ذلك وأصرح، ولم تخدش حياء أحد، ولم تفسد دين أحد، بل إن ما تحمل أغانى أهل بلدنا من رموز جنسية رائعة، أعتبره من أنجح الكلمات التى تزيل الحواجز بين طبقات النفس، وأيضا فيما بيننا، تزيلها فى طيبة جماعية سلسلة وحياء دافئ.
علمت “الود الجنسى”، “واللمز الجنسى” من أغانى قريتنا، كما تعلمت الجنس العارى من حيوانات وطيور قريتنا، ثم من كتب صفراء مفيدة (أنظر قبلاً) مثلا، أغنية تحضرنى أغنيه جميلة الآن تقول:
يا سرير النوم عجلاته حلاوة بيضا، عجلاته حلاوة بيضا،
أخطرى يا عروسه وتعالى فى الأوده، وتعالى فى الأوده،
اسكت يا عريس دنا فرحانة، دنا فرحانة،
…….
يا سرير النوم عجلاته بمبى، عجلاته بمبى،
أخطرى يا عروسة وتعالى جنبى، وتعالى جنبى،
أسكت يا عريس دنا…. الخ
أستعمل بعض هذه الأغانى فى علاجى لبعض مرضاى الذين يخشون “الليلة” الأولى”، أو يتصورون فشلهم فيها، أو يفشلون فعلا، فكنت أقول لأحدهم: عليك ألا تراقب نفسك، ألا تفكّر ولا تتساءل عن رأيها فيك، ألا تنتظر إذنها كلاما منطوقا، لقد أذنتْ، أليست عروسك؟ هى آذنة دون إذن، ثم أحكى له الأغنية التى استقيت منها كل هذا قبل أى علم مستورد،، وأطلب منه مازحا (جادّا) أن يحفظها، وأحيانا أحفّظها له:، تقول الأغنية:
ليه يانا يانا، ليه يا غرامى
خايف أقولكِّ، ولا ترضيش
وإن مارضيتش لانزل واقايس
واحط عينى فى وسط راسى
أرضى لك انت ياسى “فلان” مارضاش لغييرك.
(….ويذكر اسم العريس تحديدا محمد ، إبراهيم، عتريس)
وكنت أؤكد على حكاية، “خايف أقوَّلك، ولا ترضيش”، لأن هذا التردد، وفهم ظاهر التمنع باعتباره رفضا، هو الذى يوقع بعض الرجال البكر فى ذلك الخوف، ومن ثمّ تصوُّر العجز؛ وكان الصديق الهائب (المريض) الذى يسمعنى أستشهد بهذا “الأصل” يطرب ويفهم أكثر بكثير من شرح النظريات العلمية التى تفسّر صعوبته بعقدة أديب وعقدة الرضا. فإذا وصلنا الى أنه رضيت به وله بالذات، دون غيره، على سنة الله ورسوله، داخله زهو أذاب بقايا خوفه.
فانظر معى ـ فقهك الله ـ كيف تُـربينا الأغانى المزعومُ قُـبحها وخدشها للحياء، وكيف تؤدى وظيفتها الوقائية، وكيف تحرك مشاعرنا فى طيبة حانية، أفضل من كتب التربية الجنسية التى يكرر محتواها مدرسون لا يعرفون الجنس أصلا حتى لو ملأوا الأرض ذرية!!
أشعر من جديد أننى أفضّل رحلة السيارة لأنها تسمح بهذا الاقتراب المباشر من الفطرة. فالطبيعة خليقة بأن تفجر فطرة كل من ألقى السمع والوعى وهو شهيد، فمتى يدرك الناس أن دين الفطرة هو الذى يتعهد فطرتنا بالتنمية، فالانطلاق، وأن الفطرة المنطلقة المتفجرة الهادئة الهادية هى أصل كل الأشياء؟
يثيرنى، فى نفس الاتجاه أن أتذكر تلك الليلة التى كنا فيها فى “دول” وذهبنا نزور كهفا من الكهوف التى يصنعون فيها النبيذ، أو ما شابه، وأذكر أن النبيذ كان اسمه “النبيذ المجنون” Vin Fou وكان المسئول عن الرحلة رجل ناهز الستين ضخم الجثة كجثة أنطونى كوين، واضح الملامح كأنه توفيق الدقن، أحمر الوجه كأنه مستر تشرشل. أخذ هذا الشيخ الشاب يردد الأغانى كالطفل المتأرجح يوم عيد طيب، وهو واقف وسطنا فى الحافلة الكبيرة، ونحن نرددها وراءه، وبعد عودتنا اعتبر المسئول الأكبر أن هذا الذى فعله مرشدنا الطفل الكبير الحجم الجميل الحضور هو النجاح المطلوب تماما لتوصيل روح فرنسا الحضارية، لمبعوثى العالم الثالث الذىن هم نحن،
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثالث: “الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته“