نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 31-7-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6178
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الثالث
الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (3)
الإشكال عندى هو أننى أتمتع الآن بقدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجاز مما يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى،
وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجَه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا ” .
فكان لزاما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها إلى حيث تصورت أننى يمكن أن ” أقرر“.
السفينة: أدرياتكا ـ البحر: الأبيض، 10/8/1986
……………….
………………..
كان زميلنا هذا (أستاذ امريكى فى التخدير!!) ذهب فى مهمة علمية إلى إنجلترا أواخر سنة 1967 (لاحظ السنة!!) ثم مِـنها إلى أمريكا، ثم إنه تأمْرَكَ، إذ تجنس، وأقام، فراح يقول لنا وهو يصطحبـنا إلى بيته فى إحدى ضواحى بوسطن حيث يقطن: “هذا هو كوبرى قصر النيل” (مشيرا إلى أحد الكبارى التى تشبه كوبرى قصر النيل فعلا لعله جسر البوابة الذهبية) وهذا كوبرى أبو العلا (يشير إلى كوبرى آخر من الحديد)، وهذه هى جزيرة المنيل، وهذه هى الجزيرة (حاف)… سيقول ذلك ليس بلهجة المشتاق إلى أسماء كبارى القاهرة، وإنما ليقنع نفسه أنه واجد ما هو مثل مصر وأحسن. يردف: فما حاجتى إلى مصر بعد أن خدعنا وطردنا عبد الناصر، كان يقول هذا الكلام بعد حوالى عشرين سنة من رحيله، وهو زميل متوسط الحال لم يضار شخصيا لا بعبد الناصر ولا بغيره، بل لعل فَضْل إكمال تعليمه حتى صار طبيبا كان يرجع إلى عبد الناصر، ثم إنه قد غادر مصر بمحض إرادته، وبقى هناك بمحض إرادته، فأستوضحه،
فيقول بمرارة غاضبة:
“صور لنا عبد الناصر الجاهل أن مصر هى أم الزراعة، وربة الصناعة، وسيدة الحروب، ورائدة العالم، وكنت محتاجا أن أصدقه، فصدقته، ثم رمانى جنديا فى الصحراء، بعد الهزيمة، بلا حرب، ولا تطبيب استدعونى فى حرب لم تحدث أصلاً، رمونى فى الصحراء وأنا طبيب التخدير فى الجامعة لأقوم بما هو أقل من التمريض، وياليتنى وجدت من أمَرِّضه، كل ما فعلته أننى عدت سائرا على قدمَىّ، حتى أوامر الانسحاب لم تصلنى، رأيتهم يعودون مهرولين فعدت.
هربت بجلدى إلى انجلترا فى أول فرصة. إنجلترا التى اسمها انجلترا، تزرع أكثر منا وأخضر (أكثر اخضرارا) تزرع، وتصنع، وتحارب وتحترم الإنسان.
لماذا كل هذه الأوهام التى نشأنا نجترها دون وعى؟
فهمتُ وهو يتحدث بكل هذا العتاب المـّر أنه لما رأى أوربا الخضراء طول الوقت طولا وعرضا، ولما رأى مدى احترام الفرد، ثار حقده الوطنى مثلما حدث لى شخصيا، ولكنه وجه آثار هذا الحقد سخطا على عبد الناصر وليس أسفا على قلّة المطر، وقيظ الصحراء وخيبتنا القوية، وكأن عبد الناصر هو المسئول عن ضيق الشريط الأخضر الذى نتجمع حوله فى الوادى مثلما يتجمع النمل حول آثار”سرسوب” عسل أسود. أنا شخصيا لا أذكر أن عبد الناصر ـ أو غيره ـ قد أفهمنى كل الذى قاله زميلى هذا، وإن كنت أعرف أن ما بدى من سطحيته وغروره وقصر نظره قد برر لصديقى أن يجعله مسئولا عن غربتـه التى يبدو أنه لا يتحملها رغم التجنس والتأمرك، فراح صاحبنا يرسم حول نفسه “مصر بديلة”، وكأنه بتشبيهه معالم ما حول بوسطن بمعالم القاهرة قد نقل مصر إلى ولاية ماساشوستس الأمريكية مادام لم يستطع هو أن يعود الى مصر. وأحاول أن أهدئ من غلوائه، فأضحك معه قائلاً “حاسب على نفسك يا أبو على (اسمه حسن حسن على)، حتى لا تأكل الأحماض بقية جدار بطنك” (وكانت قرحة معدته من ضمن علامات توتره المزمن) فلا يرد مباشرة وينطلق يحدد اتهام عبد الناصر بأنه السبب فى ما آل اليه، حتى القرحة فعبد الناصرمسئول عنها، أليس هو الذى أكرهه فى عيشته، وهو الذى خدعه بما هو ليس نحن، إذ نفخ فى صورته دون حقيقتنا حتى انتفخ ثم فشّ فجأة حين سافر وتبين الحقيقة.
يبدو أن صديقنا هذا حين ارتطم بحقيقتنا “(حقيقة مصر) الموضوعية” بعد أول سفرة له إلى إنجلترا تبين أننا كنا نزرع ونصنع ونبدع ونتحضّر بالخطب والتحريض أكثر من أى فعل موضوعى ممتد، وأحاول أن أهدئ من ثورته التفريغية فأمزح وأنا أقول له إنها “أرزاق؛، فما ذنب عبد الناصر فى اخضرار أوروبا وأمريكا هكذا؟ فيصيح دون تردد: إنه (عبد الناصر) راح يمد الخطى فى غير اتجاه الواقع، قَــفََز بنا فى المجهول، فهبطنا بلا مظلة إلى أرض غـُفل، أسقط علينا أحلامه فرُحنا نرقص ونحن نهتف له، بدلا من أن نزرع ما نستطيع فى تراب وجودنا المتواضع، وبدل أن نعيش على قدرنا لنكبر واحدة واحدة، ونتعلم ممن سبقونا، ونحترم قدراتنا. ألتقط الخيط مرة ثانية وأقول “وحتى إذا صح ذلك فلماذا تركتََـنَـا وجئت إلى بلاد الآخرين؟ ثم تبدو وكأنك تعايرناً. “فيعود يلقى إلىّ الكرة صائحا “البركة فيك إفعل ما يمكنك، أرِنَا شطارتك، وسوف ترى ماذا سيفعلون بك، فما زال عبد الناصر يحكمكم من داخلكم، ومن خارجكم وأنتم لا تدرون، أُخرج إلى الخارج، أخرج من نفسك، وانظر من بعيد وسوف ترعبك الرؤية الحقيقية فتفيق، أو تستسلم،”
فأسكت غير مقتنع، ولا معترض تماما.
تذكرتُ كل هذا وأنا أسترجع أين كنت أسبح منذ تركت الطريق السريع بعد أن خرجنا من باريس إلى الجنوب فى طريق العودة، كنت أسبح فعلا بين أحضان موجات الخضرة المتلاحقة على اختلاف درجات خضارها، وكأنى أغوص فى طبقات بلا نهاية من الأشجار والأزهار والمحاصيل والمراعى، وأقول لربنا: (لا لعبد الناصر): أما آن الأوان؟ أما آن الأوان؟ والى متى سنهرب من واقعنا إلى أحلامنا، ومن أحلامنا إلى أمريكا حيث تُجتث الجذور ليتوقف التواصل بيننا وبين أولادنا. صديقى هذا ـ حسن حسن على ـ نفسه يكاد يكون غريبا عن إبنه هناك:
حين وصلنا إلى منزله (كوخه الجميل ـ أو قل قصره الصغير) فى عربته الفارهة فى بوسطن، لمحنا شابا فى حوالى السابعة عشرة من عمره يلف بدراجته الرياضية الجميلة، وقد مرّ بنا وأشار لنا بيده أنْ: “هاى” فتمتم زميلى هذا رادّا أنّ “هاى”، لأعلم بعد قليل أنه ابنه من أمه المصرية لحما ودما، فما لهذا الشاب لم يعتن بلقائنا، ولم يرحب بنا ولا بوالده، ولم ينزل من على درّاجته مثلما اعتدنا عندنا؟ أو يهم بفتح باب الجراج مثلا. على أنه لم تكن ثمة حاجة إلى معونته، فقد وشوش صديقى”جانـّا” تكنولوجيا فى عربته أن “افتح ياسمسم” فانفتح باب الجراج وحده دون حاجة إلى معونة ابنه هذا، ودخلنا.
وأحسب أن مضيفنا قد قرأ أفكارنا تجاه ابنه وغياب زوجته على الرغم من علمها بقدومنا، فأخذ ينادى أن ” ياعمر ياعمر” ولستُ متأكدا- رغم التزام صديقنا بطقوسه الدينية ـ لست متأكدا إن كان قد أسمى ابنه هذا على اسم عمر بن الخطاب أم عمر الشريف، ولم يرد عمر فورا، لكنه عاد يتمتم بكلمات فيها “دادى” وما أشبه، فجعل الوالد يستدرجه فى رفق أن سلم على أعمامك “من مصر”، فكان أنْ، “هاى” أخرى، قلت فى سرى “هاى عليكم ورحمة الله وبركاته”، وتلف الدراجة بنفس السرعة،
أنا شديد الحساسية لقياس نجاح الوجود الأبوى (أو الحل الوالدى) بنوع النتاج البنوى، وقد أشرت كيف أنى كثيرا ما أخطئ و أقيس أفكارى وأفكار من أعرف (ومواقفنا) ـ وخاصة اذا تمادت فى المثالية والادعاء ـ أقيسها بما أنتجت هذه الأفكار مجسدا فى طبيعة وجود وسلوك أولادى وأولادهم، همست لنفسى ـ مخطئاً ـ أنه بهذا المقياس، فإن عمر “هذا” يعلن فشل أبيه الأستاذ الطبيب الأمريكى/المصرى بشكل أو بآخر، فوالده الذى لم يستطع أن ينتزع مصر من داخله، فراح يرسم لنفسه مصر خيالية فى بوسطن، هذا الوالد قد “أسقط” كل سخطه على عبد الناصر، وإحباطه فى مصر، أسقطهما على ابنه فانتزع من جوهره كل ما هو مصرى بحق، فلم تبق ثمة “علاقة” بالوطن الأم إلا اسم”عمر” أو بعض طقوس دينية، من يدرى، وربما تبرٌّع، أو إعلان، أو احتجاج (فى حب مصر!!!!) ثم إن هذا الوالد نادى ابنه من جديد ليلتقط لنا صورة “تذكارية”. جاء الولد على مهل ممسكا بآلة تصوير جاهزة، ثم قال لنا فى عجالة أن: “قل جُبن”say cheese، فلم أفهم، وترددت، فكررها، وجعل والده يستجيب له دوننا، فخجلت،وترددت حتى أنهى الشاب مهمته، وصوّرنا، ثم انصرف متململا، أو باسما بسمة لا طعم لها، ألعن من التململ.، خطر ببالى أن تكنولوجيا التصوير الحديثة تجعل الكاميرا تصوّر حين تسمع مِن الذى سوف يتصوّر كلمة بذاتها تفك شفرتها !! هذه الكاميرا مع الولد ربما لا تعمل إلا إذا قلت لها “تشيز” (جبن)، وربما لو كانت الصورة بالألوان فإن كلمة السر ستصبح “حلاوة طحينية”، مثلا، أما كاميرا الفيديو فقد تحتاج أن نقول “محشى ورق عنب ” وهكذا، من يدرى؟ كل شئ بالكمبيوتر جائز والعياذ بالله، تجرأت وأعلنت أفكارى هذه ساخرا، فراح صاحبى يشرح لى السر الأعظم: وهو أن إبنه طلب منا ذلك ـ حتى إذا نطقنا “تشيز” كشرنا عن أنيابنا بطبيعة نطق الكلمة وكأننا نضحك فنبدو فى الصورة بـُلـَهاء مُنْفَرِجى الأفواه، ظاهرى الأسنان (أكثر بياضا!!)، ولم أتمالك داخلى أن يصيح “يا خبر مثل الهباب” حتى الضحك أصبح زائفا، فماذا لو صورنى متجهما ألعن ملـّة أهل أى أمريكى لئيم، هماز مشاء بنميم؟ أو وأنا متألم سارح خجِل مما آل إليه حالنا؟ أليس هذا أصدق وأكرم؟ فإذا تصادف أن صورنا ونحن نضحك لنكته مصرية، فليكن، وحتى إذا كان المصوَّر مصِّرا على أن نظهر فى الصورة فرحين ببيتهم وحديقتهم فليطلب منا أن نبتسم ونحن وشطارتنا، إن نجحنا كان بها، وإلا فيمكنه أن يمزق الصورة بعد رحيلنا،
جعلت أعابث صديقى المضيف بأفكارى هذه، محاولا فى نفس الوقت أن أسرِّى عن صديقى المتألم الذى كان يتابعنا وهو يجز على أسنانه حتى لا نلاحظ، واستطردتُ أننا لو حاولنا أن نقتبس هذه البدعة للتصوير عندنا فلابد أن نغير فى الألفاظ فنقول: قل: “مِعيز” أو “تـِغـيظ” أو “عزيز” (مع التحرج من ذكر اللفظ الآخر الذى لا يغيب عن بداهة القارىء) ويا “عزيز” يا “عزيز” كبة تاخد الانجليز والأمريكان وكل من انتزعنا منا دون أن ندرى حتى انتزع حقيقة حجمنا المتواضع ليغرينا بما لا يكون، أو لنقبل أن نكون خدما درجة ثانية بلا انتماء، كبة تأخذ هؤلاء جميعا. لكن يبدو أن الكُبّة حتى لو أخذتهم بالقضاء والقدر أو من فوق المنصة، لا تأخذهم تماما، فعدوان صديقنا هذا على عبد الناصر وتحميله إياه مسئولية كل ما جرى، ولومه له على أن انجلترا تزرع، ونحن “لا”، كل هذا لا يختلف عن اعتمادية وبلاهة أولئك الذين يقدسون عبد الناصر ويحسبون الزمن بحساب ظهوره وينتمون إلى اسمه، هذا وذلك جميعا من مخلفات العبودية الشائهة المشوهة، لا أكثر ولا أقل، ويبدو أنها مازالت تحتل وجداننا وتغلف وعينا مهما بعد بنا المسار أو تأمركنا أو تَـسَـفْـيَـتْـنَا.
تنبهنى ابنتى الصغرى، منى السعيد، ـ المرشد الذى عليه الدور ـ أنى لم أطلب اليوم ما يكفى من وقودى من المياه الغازية المنعشة، فأنتبه أننى لم أفعل فعلا، ربما لأنى أرتوى من هذه الخضرة المتعددة بما يكفينى وزيادة، ولكن تنبيهها يدعونى أن اعتدل فى وقفتى التأملية، لأنظر الى علامات الطريق، فأجدنا قد اقتربنا من انحناءة تخرجنا من الطريق السريع الى “ديجون” Dijon، فتهب ريح “دول” Dole وسلسلة جبال الجيرا.
أتذكر كيف كنت أخرج من مدرسة البنات مبكرا مبكرا متلفعا بعباءة المرحوم حماى، وكأنه يؤانسنى بدفئه وطيبته وصمته وأميته فى هذا الصقيع الرائع، تلك العباءة التى كانت من فرط فرحتى بها وتعدد استعمالاتى لها: تكاد تحاورنى حين تلتف حول رأسى، أو تتدلى بجوار جسدى، أو أوسدها وسادة تعلى رقبتى (كما اعتدت) أو أضيفها غطاء إذا خف الغطاء، أو أجمعها فى حيز متواضع فتضم نفسها وتقبع منتظرة إياى، ولى فيها مآرب أخرى: رحمه الله.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثالث: “الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته“