الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثالث: الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (1)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثالث: الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 17-7-2024

السنة السابعة عشر 

العدد: 6164 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”

 الفصل الثالث

الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته (1)

الإشكال عندى هو أننى أتمتع الآن بقدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجا،ز مما يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى،

وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجَه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا ” .

فكان لزاما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها إلى حيث تصورت أننى يمكن أن ” أقرر“.

السفينة: أدرياتكا ـ البحر: الأبيض، 10/8/1986

يشاء السميع العليم أن أسجل بقية حكاية رحلتنا الأولى، وأنا ” أعبر”من جديد، حواجز الذات، والبحر، والناس، والرواسى: الرواسى من الجبال، و الرواسى من الهموم والجشع.

 أكتب هذا الفصل فى نفس السفينة أدرياتيكا، على نفس المقعد، بتوجه آخر، أملاً فى “تثبيت” بعض ما كان واختباره، وربما الإضافة إليه أو تعديله.

أقَرّ أننى قررت القيام بهذه الرحلة الجديدة دون سابق إعداد، فى محاولة أن أنتهز فرصة المأزق الجديد حتى أُضطر أن أقدِمُ على قرارٍ”ما”، ذلك القرار الذى ظل مؤجلا مؤجلا، واعدا مؤمِّـلا، ثم هو لا يأتى أبدا قلت: “أقفز إليه”.

لابد من قرار يمكننى من النجاة، فكانت هذه الرحلة الجديدة، بهذا الهدف الجديد (القديم).

حسبتُ أننى بتكرار نفس الرحلة سوف أتأكد أن الأمور قد تغيرت، وقد وجدت ذلك منذ البداية، فأنا لست أنا الذى ذهب فى المرة الأولى، يـُـلقى بنفسه حيث لا يدرى، فيدرى ما أراد وغيره، مما لا يعرف أنه أراده أم لم يرده، هذه المرة أجد نفسى أكثر هدوءا، وأقل فى عنف التلقى، وهذا سئٌ بعضه، أو سئٌ كله لست أدرى، الرحلة مفاجئة، والصحبة محدودة (زوجتى فقط) فالأولاد سوف نلتقى بهم لبضعة أيام فى أثينا ثم يرجعون لنستمر زوجتى وأنا إلى حيث أريد أن أتخذ القرار،الذى لا بد أن تترتب عليه قرارات وقرارات. فلأحدد “المجال” أولا.

مما لا شك فيه أنى منهك تماما، وأنى أتقدم فى العمر وأنى لم أُنجز شيئا مما تصورت ـ وأكده لى آخرون ـ أنى قادر على إنجازه، ومما لا شك فيه أنى طرقت كل الأبواب، وتكلمت بكل اللغات (عدا لغة التشكيل بالخط واللون، ولغة الموسيقى). تمكنت من لغة العلم وحذقت اللعب بأدواته، وحللت شفرة اللغة الأدبية فى معظم تجلياتها.  قلت ما أتيح لى قوله بكل لسان،

يستحيل على مَـنْ مثلى أن “يقرر” بمعنى أن “يحسم أمره” بالنسبة للخطوة أو الخطوات التالية، فأنا أسلّم نفسى كل صباح لخطوات متتالية من الواجبات والطلبات (والمطالبات)، فيستلمنى هذا ليسلمنى إلى ذاك ساعة بعد ساعة، وعيادة بعد جامعة، وصحيفة بعد مستشفى، وإبنا بعد كتيب، ومجلة بعد ندوة، وجمعية بعد جماعة، ثم أجد نفسى فى نهاية اليوم ” شيئا متبقيا” قد أُفرغت أغلب طاقته فيما يفيد. (أى والله) فأنا مازلت أعتقد أن وجودى فى إيقاعى اليومى ـ بالرغم من كل ذلك ـ هو مفيد بشكل ما، لكنى أتأكد أن هذا الشئ “المتبقى” آخر نهار كل يوم لم يعد به ما يقف بذاته لذاته، كما أنه لابد عليه أن يغيب عن الوعى مساء كل يوم فيما يسمى النوم.

فى الفترة الأخيرة أصبح نومى هو حياتى، أشعر أن داخلى ـ أثناء النوم ـ يتقلب بحرية أكثر، وسهولة أرحب، وانفعالات أعمق، أتحرك داخل نومى أكثر مما تسمح به يقظتى، لكن، ما أن يسحبنى الصباح من مرقدى حتى أمضى مستسلما لاهثا لا أستطيع أن ألملم ما تحرك فى، أو ما تحرك بى، فأجد نفسى وقد استسلمت للنهار التالى بنفس الخطوات المتتالية من الواجبات، والطلبات (المطالبات). يتسلمنى هذا فيسلمنى إلى ذاك… حتى أصل إلى ضرورة غياب الوعى الظاهر ولو ظاهريا ـ فيما يسمى النوم ـ لأسلم نفسى فى اليوم التالى، وهكذا، وهكذا. إلى متى؟ إلى أين؟

الإشكال عندى هو أننى أتمتع الآن بقدر من الحرية، مع هذا الكم من الإنجاز مما يقربنى أكثر وأكثر من مواجهة مسئوليتى عن وجودى ومحاسبة نفسى عن حقيقة إنجازى، وحين أعلن بعض أفكارى هذه على بعض من حولى .. مترددا خائفا، أواجَه بما أتوقع من أنى لابد “طماع” لا يرضينى “كل هذا ” فكان لزاما على أن أجمع نفسى قهرا وفورا، فأنتقل بها إلى حيث تصورت أننى يمكن أن ” أقرر”.

أقرر ماذا؟

كنت عائدا لتوى من “سانت كاترين”، وهى بلاد برة ” الجوانية” بالنسبة لى، عرفتها بعد رحلتى السابقة (1984) واعتزمت أن أخصص لها ولما حولها وما تحويه من باطن المعانى والإيحاءات، أن أخصص لكل ذلك الفصل الأخير من هذا العمل، فمصر أوْلى، ومصر التى لا نعرفها أولى فأولى، وقد فكرتُ أن تكون عزلتى لاتخاذ القرار، هناك، فى حضن الجبل بجوار الدير، أو فى عشّة أؤجرها فى وادى فيران .لكنى شعرت أنى أعجز من ذلك، لأنى مادمت فى مصر، فأنا فى متناول الأيادى والطلبات والمطالبات..، طالما أنا  فى حدود إمكانية العودة فورا..، لا يمكننى أن أخلو إلى نفسى- فى مصر  – حتى أستطيع أن ” أقرر”

صدمنى الموت بعد موت (جاهين بعد صديقى) فسارعت ألحق نفسى لأقرر  قبل أن يقرر لى أحد دون أذنى.

أنا مسافر  هذه المرة كى أفعلها وخلاص، لم أكف طول حياتى عن “اتخاذ قرارات، وفى  كل مرّة كنت أعتبر القرار هو آخر قرار ، ثم يتجمّع فى داخلى ما يتجمّع، ثم يطفو باستئذان أو بدونه، وأتصوّر  أننى أتخذ القرار الأخير بعد كل هذه الخبرة الناضجة على نار هادئة، ثم…وهكذا.

متى أتعلم ؟

أريد أن أختلى بنفسى لأنظر ، وأجيب ، وأختلف .

حين وصلتُ بعربتى الخاصة هذه المرة إلى ميناء الاسكندرية وكنت قد ألفت الإجراء ات من المرة السابقة فقلّـت الدهشة وفتر التأمل، طلبت أن أثبت على جواز سفرى آلة تصوير”فيديو” (لا أفهم فيها شيئا، على وعد من ابنتى بتعليمى هناك)، اصطحبتها معى هذه المرة مستجيبا بذلك لرغبة غير رغبتى، تحت زعم أن ما أصوّره من متعتى قد تتيح هذه التكنولوجيا أن يتمتع به غيرى إذا شاهده، ولم أقتنع بهذا السخف.

 قال لى رجل “الجمارك” أن علىّ أن أدفع تأمينا ” الشئ الفلانى”، ولم أكن مستعدا، ولم يكن هناك من يودعنى أصلا حتى أطلب منه ذلك “الشئ الفلانى” لزوم التأمين، فقررت أن أرجع آله التصوير، وكان الوقت يسمح أن أذهب الى بيتى بالإسكندرية، وبدلا من أسفى على هذا التصرف، والتعنت غمرتنى راحة عميقة  نبهتنى إلى استحالة مخالفة عمق داخلى.

رحت أراجع عزوفى شبه الدائم عن هذه الهواية الطيبة ” التصوير”. على الرغم من أنها تحتفظ بالذكريات، وتسجّل الجمال، وتثبت اللحظة، وتحافظ على الأثر، إلا أنى لا أشعر بقيمة كل ذلك، بل لعلى ـ من عمق معين ـ أجد أن الصور بكل أشكالها (تصوير ورقى، أو شرائحى، أو سينما، أو فيديو) قد تأخذ الانسان ـ أحيانا ـ من الطبيعة أخذا، وقد تكون بمثابة التوقيع فى دفتر”تشريفات الطبيعة “مما قد يفيد فى إثبات ” الحضور والانصراف” ليس إلا، حتى أنى حين تماديت فى تمثل هذا الجانب السلبى، شعرت ـ مخطئا فى الأغلب ـ أن عملية التصوير هذه قد تحل محل التقاط الصور بالعين الإنسانية المجردة، فوم ثم الحوار معها بوعى طازج يستطيع أن يتعهدها حتى تنضج ثم تهضم ثم تتمثَّـل فتصبح زاد الإبداع والتجديد. مثل كثير من الألات، على الرغم من روعة ما أضافت، فإنها حلّت محل أشياء ثمينة جدا ، أن تلتقط الصور بحواسك هو الأصل، ثم تظهر آلة تسجّلها أو لا تسجّلها، أما أن تمسك آلة فتلتقط هى الصور نيابة عنك ، فهذا ما تجنبته أبدا ، ربما بغير قصد. التصوير بالحواس يضيف  وجودا إلى الوجود، أمّا أن التقاط صور بآلة منفصلة عنك، فهو شئ عظيم وجميل ، لكن ..، فقط : لكن…. زمان كان لا بد أن نحمّض الصورة حتى تظهر، لا أعرف ، فأقف عند لفظ التحميض هذا وأتمادى فى السخرية التى أرفضها شخصيا، ومع ذلك أقول : كأن بعض الصور هى “طبيعة مخللة”(حامضة) . آسف ذهبت بعيدا الناحية الأخرى. أنتبه فجأة الى التحفظ الإسلامى على عملية تصوير الأشخاص خاصة، وكيف أنها أُخـذت على الإسلام باعتبار أنه تخلف، وضد الفن… وما إلى ذلك، ورغم أن ظاهر التحفظ ينهى عن تصوير الشخوص دون الطبيعة، ويفسرون ذلك بتجنب محاولة خلق ما ليس فى اختصاص البشر خلقه، أو خشية عبادة الرمز دون الأصل ، فإنى استلهمت من راحتى بالتخلص من هذه الآلة الأحدث، ومن تفضيلى أن تكون حواسى وخلاياى، هى آلة التصوير الأدق، أقول إنى استلهمت من هذا وذاك بعض معنى هذا النهى الإسلامى، معنى يتصل بمحاولة الإسلام دائما أبدا تعميق الفطرة البشرية وإزالة كل العقبات التى تحول دون نمائها ونقائها، فلعل الإسلام ـ إسلامى ـ لا يريد أن تحل الصورة المصنعة محل الصورة الحيوية النابضة، ليحافظ على العلاقة المباشرة مع الناس والطبيعة، من يدرى؟ 

هذا الخاطر جعلنى أواجه تساؤلا ذا دلالة: لماذا يهيج علىّ إسلامى فيقترب منى، وأقترب منه كلما ابتعدتُ عن المسلمين الخطباء والمفسرين والحاكمين والدامغين، فى سفر آخر “عثرت على” معنى للتأكيد على رؤية الهلال بالعين المجردة لتحديد رمضان (فالعيدين) ـ كان ذلك فى باريس، حيث ثرت بعد خجلى من اختلافنا، نحن المسلمين، مع علم الفلك، ثرت حتى رجـّحت أن الاسلام يصر ـ من حيث لا ندرى ـ على ضرورة الإبقاء على هذا التواصل الحى المباشر بالطبيعة الدورية ـ المتمثلة فى دورات القمر، بغض النظر عن حسابات الفلك، وتيقنت أن الله ـ سبحانه ـ لا يهتم إن صمنا يوما زيادة أو يوما أنقص عن شهر فلكى بذاته، بقدر ما يؤكد الاسلام ضرورة احترام حواسنا، وأن نتبع ـ جميعا رؤية ” أحدنا “، حتى لو كان غير مختص، أى من عامة الناس، حتى ولو كانت رؤيته محض خيال ، فتصديقه أكثر فائدة من تقديس آلة لا نباشر حضورها فى وعينا مباشرة، على شرط أن نصدقه لأنه قال، ورأى، وليس لأن هذه هى الحقيقة !!!!

 خطر ببالى أن يكون التصوير تصويران: أحدهما يبرز، ويعمق، ويحرك، ويذكّر: بما يفجر الإبداع ويلهم التجاوز، وهذا حلال وعبادة، والآخر يسجّل، ويسطّح، ويغّرب، ويحل محل، ثم يخزَّن، فيعفى الإنسان من معايشة صوره الذاتية الداخلية، فهو حرام (و الله أعلم) . الحلال والحرام هنا ليس بمعنى الجواز والمنع، ولكن بمعنى الإقبال والادبار (!!!.) فإنما يُعـلن الحلال ويحدد لتسهيل إيقاظ الفطرة للإقبال عليه، وإنما ينبه إلى الحرام ويحدد، لا للعقاب والترهيب أساسا، وإنما لإرشاد الفطرة النقية للنفور منه، أو الانتباه إلى الآثار السلبية التى قد يحملها.

إن  تشويه الفطرة بأى اغتراب، حتى على المنابر بالفذلكة، حرام.

كما أن تنقية الفطرة  بأى تناغم ، يأتى بالتعتعة، حلال.

بهذا الحرام وهذا الحلال تنقى الفطرة وتهتدى  إلى طبيعتها هدى النجوم إلى مسارها.

 أقر وأعترف أن إسلامى (فطرتى) قد هاج علىّ بمجرد استنشاق ريح السفر هذه المرة، فهو لم ينتظر حتى أسافر إليهم وأختلى بنفسى، فى مواجهتهم فأعيش تحدى الاستعلاء والأحكام، فتثور فطرتى ـ إسلامى ـ وهى تعيش الاختلاف والاقتحام،

 ما الذى يهيج على إسلامى فور سفرى؟ أو حتى قبل أن أسافر، بمجرد أن أهم بذلك. هل أحتمى به من أى تشويه لوعيى يمكن أن يغمرنى دون حساب، من فرط البهر، والإعجاب بهم؟

………………

………………

ونواصل الأسبوع القادم  استكمال الفصل الثالث: “الجَمَالُ تتجدّدُ طزاجته

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *