نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 6-3-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6031
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الأول
(الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة)
الموت: ذلك الشعر الآخر (2)
“يختل مجرى العمر والأمل،
(لماذا ياصديقى؟؟)
دائرةٌ ملتاثة:
(عَجـّـلتَ بالنهاية؟)
تقضمُ فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام الجائعة،
(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)
ثارت أجنة الخلايا تصطرع“.
تعملقتْ فطرتك الأبيةْ
لم ترعَ عهداً، لا، ولمّا تنتظر
لــمْ نـقوَ بعدُ ياصديقى
(فيم العجالة والسام؟)
تقفز خلف الحدِّ، بعد العدِّ، تقتحمْ
ترجع نحو عشها اليمامةْ.
الأربعاء: 29 يناير 1986
الساعة الخامسة وعشر دقائق (صباحا)
…………..
…………….
لا أجرؤ أن أنظر فى شعرى المسودة هذا ثانية أبدا، حتى أنى نسيته تماما إلى أن عثرت عليه بالصدفة وأنا أبحث عن الفصل الضائع (الرابع/العاشر أنظر بعد). أتذكر أُُنسى الحاج ومعركته مع فكرة السرطان والإشعاع النووى، فأرتعد من فكرة خالدة سعيد وهى تجسد رعب “الحاج” من هذا الزحف المفترس، ما أشد عجز الإنسان ووحدته، حتى جسده يسلمه ويخونه، الجسد يخون، نعم هذه خيانة، وخيانة نذلة، من سمح له أن يأخذ القيادة؟ من سمح للخلايا أن تجن؟ من سمح للحدود أن تنهار؟ خيانة!!، ولكن من يخون من؟ من يخون ماذا؟ ماذا يخون من؟ آه. (لماذا لم يستطع سعد اللله ونوس أن يصرع هذا الوغد المفترس ؟ خاطرلاحق أثناء المراجعة).
هو الموت يتقدّم بخطى واثقة، وإن كنت لا أعرف تحديدا كيف، ومن أين سيقطع شريان الحياة فى نهابة النهاية، ودعوت الله أن يلطف بنا فلا يثقل جسده، ولا يهين صورته، ولا يختبرنا وأهله بما لا نقدر عليه، وعلى الرغم من لطف ربنا وعفوه، فقد مرّت الخطى ثقيلة، والحسرة غائرة، والوعى شائكا، كما كان العجز أمام المرض الزاحف والألم الضاغط مخجِـلا طوال هذه الشهور السبعة، وحتى هذا الأسبوع المريع.
قبل هذا الأسبوع الأخير كان صديقى قد تماسك بعناد محبى الحياة ممن يواصلون العطاء والتجلد فى كل حال، فاستطاع أن يذهب إلى عيادته: يشخص الداء، ويصف الدواء، ويتقبل الود والدعاء من مرضاه المعترفين بفضله، وحين مررت عليه فى العيادة أدعم خطوته تلك بلقاء وحديث بعيدا عن تمديد السرير وعجز القربة الساخنة: جعل يتعجب ـ حامدا ـ من موقفه الطبى المعالِج، وهو لا يجد سبيلا إلى علاج نفسه، وأحاول أن أنتقل بالحديث بعيدا عن مواجهة العجز:
رحنا نتذكر تلك الليلة التى قضيناها فى بيت صديق لنا فى “نيوارك” (وهى بلدة بجوار نيويورك، لكنها ليست هى رغم تقارب الاسم كما يبدو)، حيث كان صديقنا هذا يعيش وحده بعد أن هجرته زوجته الإيطالية الأصل مصطحِـبة ولديه، ذلك أنه حين تكون فى أمريكا، إفعل كما الأمريكان، فما بالك وقد أصبح مضيفنا أمريكيا بالتجنس والتعود، إذن فقد فعلها بالأمريكانى وأكثر، فراح صديقنا المتأمرك د. عاطف غندر، يدفع ثمن مزاعم الحرية والغربة والرفاهية: انفصالا أسريا، فطلاقا موقوفا حتى يتفقا على قسمة شقاء العمر وعرق الغربة بينه وبين هذه المرأة (زوجته) التى يبغضها كما لم أره يبغض مخلوقا من قبل، كنت أعتبره لا يستطيع أن يبغض أصلا، يبغضها هكذا على الرغم من أنها أم ولديه الذين يقيمان معها ـ كل هذا وضحكتُه لا زالت تجلجل ـ كما اعتدناها من ثلاثين عاما فى منزل نواب المنيل فى قصر العينى، مازالت تجلجل فى منزله الخالى حتى من الأمل.
كان زميلنا هذا د. عاطف غندر قد أبلغ اثنين من زملائنا المصريين (المتأمركين أيضا) بوجودنا وبسبب وجودنا كذلك. اتفقنا أن نلتقى جميعا عنده ذلك اليوم، فحضرا من أطراف القارة لنعيش ليلة من ليالى منزل النواب (58/1959). نعيشها سرقة من وراء الموت الزاحف، ونحن محاطون بأجواء الألم المروَّض مؤقتا بالمسكنات والذكريات.
السبت 3/8/1985
كنا خمسة، صديقى المريض السعيد الرازقى والمضيف د. عاطف غندر، وزميلنا القادم من شيكاغو حاملا معه كل ريح “ساقية أبو شعرة”(موطنه الأصلى!) د. أحمد رشيد، ثم د. محمود شعلان أخصائى الباثولوجيا الإكلينيكية. على ما أذكر،وزميل رابع (لم يكن من زملاء بيت النواب)، كان قد حيل بينه وبين مواصلة الدراسة معنا عاما بعام. حين مُنح أجازة إجبارية (إخوانية) فى معتقل ناصرى لمدة عشر سنوات خرج بعدها يعدو إلى أى مكان فى العالم إلا مصر، حتى صار أمريكيا رغم أنفه، لكنه أمريكى معمم دون عمامة، وهو ما زال إخوانيا (ربما رغم أنفه كذلك)، وكان مازال لا ينادى أيَّا مِنّا الا بـ “يا مولانا”.
رحت أطيل الحديث عن تلك الليلة عّلنىّ أنسيه فراغ عيادته بعد أن كانت تعج بالمرضى، فهم لم يعلموا بعودته بعد، ويقول لى هل لاحظتَ أن أحدا من زملائنا هؤلاء ـ فى أمريكا ـ لم يتغير على الرغم من عشرات السنين، وأقول له إنهم لابد يقولون عنا مثل ذلك.
ويذكـّرنى حين كنّا فى نيوارك كيف راح احمد رشيد، صديقنا “الجلدى الجراح (جراحة الجلد أصبحت تخصصا حديثا!!) يحكى لنا ذكرياته فى قريته التى تعيش معه فى أمريكا، وكيف أن هذه الذكريات ظهرت نابضة، وكأنها جاءت معنا من مصر ليعيشها صاحبنا من جديد، ذكريات أثار بعضها أننا جلسنا معا فى تلك الليلة، فى بيت مضيفنا عاطف غندر، نأكل على الأرض، نغمس من طبق واحد، فجعل يحكى لنا أحمد منطلقا بلهجته ذات الرائحة الريفية الأصيلة التى لم تتغير، وكأنه لم يغادر قريته إلى المركز فضلا عن القاهرة، فأمريكا، يحكى بتصوير دقيق حتى كدنا نرى حكايته ماثلة أمامنا.
حكى أحمد رشيد ونحن جلوس على الأرض أنه ذات يوم وهو بعد طالب ثانوى، حين كان فى ساقية أبو شعره، وقد اجتمع (مثلما نحن مفترشين الأرض) مع أولاد عم له حول طبلية محدودة المحتوى، راح ابن عمه الأكبر ينهر أخاه هامسا أنه “ماتحـفّش يادسوقى”، ربما إكراما للضيف الذى هو صديقنا، أو توفيرا للطعام حتى يكفى الجميع، لكنّ أخاه ولا هو هنا، فيكرر الأخ الأكبر مغيظا أكثر: “ماتحـفّش يادسوقى”، ودسوقى يمضى فى مهمته بجد أكبر، فيهيج ابن العم الناصح المجامِل، ويهجم على البيض المقلى مشمرا ساعده ممسكا بلقمة طرية تكاد تزيد عن نصف رغيف حالفا أنه “طب علىّ الطلاق لانا حافف”، وتستعـر المنافسة بين دسوقى وإبن العم، أما ثالثهم ـ صديقنا أبو تيريك ـ فقد راح فى الرجلين ضحية هذه المنافسة التى لم يـُـدْعَ للاشتراك فيها، فلم يلحق شيئا مما فى الطبق.
كان أحمد رشيد يحكى لنا الحكاية وكأنه يعيشها الآن بكل تفاصيلها، ياه!! هو أحمد رشيد، مازال هو هو، رغم الزوجة الأمريكية والإبن الطفل “تيريك”، اسمه طارق لكن زوجته الأمريكية لا تسستطيع أن تنطقه إلا هكذا، فحذا حذوها وإلا ارتبك الطفل الذى لايعرف جملة عربية واحدة، وحين قلت له: إذا كان هو مازال هكذا كما هو، فلماذا لا ينزل مصر على مدد متقاربة، فيأخذ جرعات منشطة من هذا الوجدان الأعمق؟ فيضحك احمد ويجيب حاكيا أنه :
حين نزل فى المرة الأخيرة (منذ عدة سنوات) نزل فى بيته، بيت أمه، فى ساقية أبو شعرة (عادى)، وكان قد حضر بجواز السفر الأمريكى، فإذا به يعلم أن عليه أن يبلغ السلطات ، أى رئيس النقطة فى القرية !! (أو شيئا من هذا القبيل) أنه ينزل عند أمه، أو إن شئت الدقة: كان على أمه أن تبلغ السلطات بواقعة “إيواء أجنبى”، ويستمر فى الضحك مشيرا إلى نفسه “… أنا؟ على قبة فرننا؟ أجنبى؟؟!” ويسوى الأمور مع السلطات حتى لا تنزعج أمه، ويظل يحكى ويحكى وكأنه يريد أن يتأكد أنه مازال قادرا على كل هذه الطلاقة بالعربية، أو كأنه يفرغ مخزونا طال حبسه وراء أسوار لغة أخرى، ورموز أخرى (“يا”)…. (“يا”)… بتثقيل الياء وميل الألف قليلا!!)، وأسأله: “وهل تحلم يا أحمد بالعربية؟، أم بالأنجليزية؟” فيسكت للمفاجأة، ثم لا يجيب، كأنه يدفعنى بعيدا حتى لا أعرّى نومه فى غربته.
يتدخل زميلنا “الاخوانى” شارحا: كيف أن الأنسان منا مهما طالت غربته “يامولانا” فهو معجون بماء النيل من تراب مصر، و (لهذا) فهو يطلب أن نبحث له عن عروس مصرية، وزميلنا الأخوانى فى سننا، (أوائل العقد السادس) ـ ونكتشف أنه لم يتزوج بعد، وما أن يعلننا برغبته فى أن نبحث له عن عروس حتى يضحك الزميلان المتأمركان، فندهش أنا وصديقى السعيد، ونتبين بالسؤال أن “مولانا” هذا لا يقابل مصريا يعرفه فى أمريكا، أو قادما من مصر، إلا ويمارس معه هواية أن يوظفه له خاطبة خاصة، ويا ويل من يأخذ المسألة جدا، لأن “مولانا” هذا لا يتعدى مرحلة نية الخطوبة أبدا، وهو لم يذهب حتى لمشاهدة أية عروس رشحت له، وكأنه لم يستطع بعد أن يزيل آثار العدوان الناصرى على وجدانه، وانتمائه، وأمانه، وآماله، فتقطعت حباله مع الوطن إلا من زيارة (تخفف عبء ضرائبه بادعاء المشاركة فى مؤتمر أو إلقاء محاضرة). كما تقطعت حباله مع أسرته الأصلية الأولى إلا من مساعدات مادية رمزية يرسلها بين الحين والحين، وأيضا تقطعت حباله قبل أن تبدأ مع أسرة مزعومة ينشئها فى خياله بمشاريع الخطوبة المجهضة، ومع كل الضحك والتذكرة بهروبه المتكرر، فقد أصر أن يعطينى عنوان أخيه فى القاهرة، فضلا عن تليفونه شخصيا فى أمريكا، لأتصل به فور عثورى على العروس، وكأنها فرصة ستسنح لتختفى، فأضحك بدورى بعد أن عرفت اللعبة المكررة، ويضحك سعيد وهو فى قمة معاناته ملء تاريخنا معا.
بدا لى حينذاك كأن هذا اللقاء قد مسح المرض وأوقف زحفه، فضلا عن تخفيف الألم أو محوه، وأتمنى أن يتوقف الزمن عند هذه اللحظة، وألا نسافر، وألا نعيد الفحص، وألا نعالج، وألا نفكر، وألا نسأل، أتمنى أن نظل فى هذه اللحظة تحت تأثير المسكن الكميائى والذكرياتى معا حتى يأذن الله فى أمرنا جميعا، معاً.
ونتذكّر كيف تطرق الحديث تلك الليلة إلى أحوال زملائنا فى أمريكا، وأنكش أحمد رشيد أن يحكى لنا بطريقته عن نظام العيادات الجماعية التى يشارك فيها، وكيف قلب الأمريكان كل شئ إلى “أعمال” تجارية Business فيقول إن مصر هى أسبق فى شطارة رجال الأعمال بلا منافس.
ويحكى لنا أحمد وكأنه ما زال فى ساقيه أبو شعـرة مهارة أول رجل أعمال أعجب به فى مصر، وتعلّم منه ما نفعه فى أمريكا. حيث الشطارة فى أمريكا هى رأس المال الحقيقى. يحكى أحمد:
هو بائعٌ طاهٍ عند حاتى الحسين، كان يتحايل بذكائه وحسن تسويقه أن يبيع الزبون (صاحبنا) ما يجعله لا يُرجع له باقيا من البريزة، فمحل “كل كبدة ومخ زين، واقرا الفاتحة للحسين” كان يبيع سندوتش الكبدة بستة قروش، ولكن رجل الأعمال الحسينى يظل يستدرج صاحبنا يغريه بإضافة بعض البطاطس المقلية، والحلويات السمينة، ثم حبة الطماطم هذه بالثوم والشطة التى تفتح نفسه وتستاهل فمه، المهم ألا يرد مليما من البريزة الصحيحة.
……….
……….
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الأول من الترحال الثانى: “الموت: ذلك الشعر الآخر”