نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 3-7-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6150
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الثانى
ويا ليتنى أستطيب العمى! (8)
………………
……………..
الاثنين 10 سبتمبر 1984
مازلت أذكر – كما أشرت- كيف فوجئت بصورتى فى مرآة حجرتى فى باريس سنة 1968، وحتى الآن. أنا أصدم فى كثير من الأحيان حين أضطر لاكتشاف الفرق بين وجهى فى المرآة وبين صورتى الداخلية الكامنة، فقد أجد المرآة أفضل أو أسوأ، وقد يفاجئنى سنى، أو تفاجئنى كشرتى، أو جديتى، أو همى، يفاجئنى أى من ذلك فى وقت لم أستعد له، وأحيانا أتعجب كيف يحتمل من يعيشون معى هذا الوجه (وجهى) طول الوقت فى حين أننى لا أستطيع أنا أن أتحمله إلا مصادفة، وأحيانا أكتشف أن لوجهى حضور متميز يمكن أن يبرر قبوله لو صبر عليه أحدهم بعد النظرة الأولى،
تأكد لى هذا الاحتمال مؤخرا( أغسطس 2000) وأنا أقوم بتسجيل أعمالى التى قد لا تنشر فى حياتى بالصوت والصورة، حيث أعددت مكتبى لأقوم بنفسى بذلك دون مساعدة أحد، وكلما شاهدتُ نفسى فيما سجلته تساءلت: من هذا؟ لكننى أجده أقرب من كل تصوراتى السابقة.
المهم رفضتْ السيدة أن ترى زوجها كما رآه الرسام، أو ربما تصورت بذلك أنها تستطيع أن تحتفظ بصورته التى رسمتها له داخلها كما تشتهى، وألتفتُ إلى زوجتى فأجدها راضية بوجهى وصورتى معا، وأمرها إلى الله، وأقول فى سرى: الحمد لله، فلا هى “تزوم” ولا أنا أرضخ.
يمر بنا كهل مهلهل، شديد حمار الوجه، متوسط جحوظ العينين، يمسك عودا خاليا من الأوتار، وعلى الرغم من أنه لم يمد يده سائلا أحدا أى شىء، إلا أنه يتسول ما فى ذلك شك، ، يذكرنى منظره بشيخ درويش أعرفه فى الحسين يحمل مروحة ريش بلا ريش، لكن درويش المونمارتر أكثر احمرارا- بفعل الشرب فى الأغلب- وعينيه أكثر جحوظا، وعوده بلا أوتار فهو أكثر لفتا للنظر من المروحة الخاوية الريش بيد درويش الحسين، وتكاد تصطدم به السيدة صاحبة المقهى (فى الأغلب) فتعتذر وتفسح وتتراجع فى أدب جم واحترام حقيقى، فأتصور أنه كان أحد هؤلاء الفنانين المتجولين، وأنه قد تبين بحدس واع أن حكاية الحياة كلها لا تساوى- سواء خطها على الورق، أم رصها فى كلمات، أم عاشها فى خطوات، أم أصدرها فى نغمات، ومن ثم هو قد قصف فرشاته، وأخلى عوده من أوتاره، وأبقى عليه أجوف يردد أصداء ما تبقى من نغمات متفرقة كيفما اتفق.
يبدأ الرذاذ من جديد، وتحلو الجلسة، وتخرج المعاطف المضادة للمطر، وتُفرد بعض المظلات، وينصرف أقل الناس ويبقى الآخرون، وأشعر أن المطر قد هطل هنا بالذات: تحية لى، ورسالة، فأشكره، ويخف حتى يسمح لنا بالانصراف لمقابلة الأولاد لننطلق الى اللوكسمبورج، سُرة الحى اللاتينى وعلامته.
اللوكسمبورج حديقة مثل كل الحدائق، لكنها ـ دون أن يقول لى أحد ـ جذبتنى حتى صاحبتُها أيضا، صاحبت عددا من الأمكنة بكل التفاصيل أكثر مما صاحبت البشر، حتى البشر حين أرصدهم فى الأماكن أعاملهم كجزء من المكان لا ينفصلون عنه، أو لعلى أعامل الأماكن كبشر، ألم أكن مع “دعد” حجرتى منذ قليل؟
اللوكسمبورج تختلف عن غابة بولونيا فى أن أشجارها ناس، وناسها طبيعة، وهى تحيل وسط المدينة إلى طبيعة، ولا تكمّلها بطبيعة منفصلة. أهم ما فيها هو “مَن” فيها: السيدة العجوز، والطفل الذى يعدو، والشباب المستلقى، والمارة الطيبون، والفن الحى. لم أكن أعرف أن لها عند سارتر موضعا خاصا فى نشأته وخياله، وحين قرأت علاقته باللوكسمبورج اقتربت من خياله واحترمت نبضه مع استمرار اختلافى مع كثير مما فرضه على نفسه وهو يُحِل كّلماته محل جوهر الطين وقلب العرق، ونتصرف بسرعة هذه المرة لأننا كنا على موعد لزيارة صديقة لابنتى فى ضواحى باريس بعد الظهر.
فى محطة “سان لازار” ننتقل من محطة المترو إلى محطة القطار، فنجد الدنيا تضرب تقلب، مئات، آلاف، داخلين خارجين، فى زحام منتظم، أو انتظام مزدحم، وبسرعة محسوبة لأن مواعيد القطارات مُعلنة فى لوحات مضيئة بالدقيقة(وربما الثانية).
علاقة باريس بضواحيها علاقة غريبة رائعة، فالضاحية تسمى ضاحية حتى لو وقعت على بعد مائة كيلو متر، وأرجح أن المسألة لا تقاس بالكيلومترات، وانما بالميكرو ثانية، وبالتالى لا يوجد ما يبرر أن تسكن فى باريس إذا كنت تستطيع أن تصلها فى سبع عشرة دقيقة أو سبع وعشرين، فأنت تعرف مسبقا متى تحلق ذقنك، ومتى تغادر بيتك، ومتى تستقل قطارك، ومتى تغيره إلى المترو (هذا اذا لم يكن نفس القطار يخترق باريس مثل خط الـ. R.R.)، وبالتالى متى تصل عملك ـ فإذا كان الأمر كذلك فأنت فى باريس متى شئت، وأنت خارجها متى أردت. تقفز إلى ذهنى لعبة المقارنة وأقول لنفسى إننا نصل إلى العمل بالصدفة، ونعثر على المسكن بالقرعة، وبالتالى فنحن نعمل “بالتيلة”، وبسرعة التقطت اسم البلدة التى نتوجه اليها على اللوحة المضيئة..، “هويل”، فوجدت أن القطار سيغادر المحطة إليها بعد دقيقتين، وهات يا تذاكر، ويا جرى، ويا قطار، ونحن غير متأكدين تماما أننا على صواب، ويطمئننا بعض الركاب الطيبين، ونجد الأماكن كافية على الرغم من الازدحام الذى كان بالمحطة والقطار بدورين مثل ترام الاسكندرية زمان، والناس مثل ناس المترو، نعم.. هم.. هم، لكن الكتب هنا أكثر وهى تخرج أسرع، والكلمات المتقاطعة أقل، والجو الأسرى أوضح، والشباب أقل، والقطار يبدو أسرع، والدنيا مكشوفة، والحقول تتبادل مع مداخن البيوت أو المصانع الصغيرة.
نصل إلى المحطة المعنية، “هويل” فلا نجد صديقة ابنتى كما تواعدتا، فننتظر، وفى خلال دقيقتين يخلو الرصيف إلا منا، فيبدو مهجورا تماما، وهى محطة مفتوحة، بسيطة، جميلة، وخلوها يعنى عندى الدقة والطمأنينة معا، فالناس تحضر قبل القطار بدقيقة (مثلا)، فيحضر القطار بعدهم بدقيقة، فتخلو المحطة فى أقل من دقيقة، ودمتم، وهكذا أرى محطة ليست سوقا ولا بوتيكا ولا ناديا ولا ميدانا، لكنها محطة، وننتظر أكثر ولا حس ولا خبر لصديقتنا، ونتعجب، ونـُرجح سوء فهم الاتفاق على المكان، فتذهب كل من ابنتىّ للبحث فى احتمالات أخرى، وتعثر إحدى البنات على الصديقة، ونلتقى.
صديقة ابنتى اسمها فرانسواز، فتاة فى العشرين وزوجها كذلك (هكذا يبدو) وهى، ليست جميلة، وزوجها شديد الجمال والوسامة، والظاهر أن الرجل الفرنسى ـ بصفة عامة ـ هو أجمل من المرأة الفرنسية، واستقبلتنا البـِنـَيَّّة بفرحة حلوة، وقد كنت أتصور أنى سألتقى بفتاة صغيرة، تلميذة، مثل ابنتى، حتى لو كانت متزوجة، لكنى فوجئت بامرأة كاملة لها وجه طفـلة جدا، ذلك أن بطنها كان أمامها جدا، وظهيرتها خلفها جدا، حامل هى فى الثامن على الأقل، ورغم ذلك فزوجها “الجميل” لا يكف عن التغزل فيها ومداعبتها أمامنا طول الوقت. زوجته: أى نعم، على سنة ديجول ورئيس وزرائه، لكن هذا لا يمنع من الغزل المستمر، والمتجدد!!! ـ وهى ترحب بى وبزوجتى أساسا، ثم تواصل حديثها مع ابنتىّ بفرنسية واضحة، سريعة وجميلة، ويشترك الأربعة فى حديث حار وكأنهم يكملون محادثة لم تنقطع إلا أمس، أو صباح اليوم، وأسحب نفسى بعيدا أتأمل هاتيك الشابات الثلاث والجدع “الحليوة” زوج فرانسواز، وأرى روعة اختفاء الفروق الحضارية والتاريخية والعنصرية واللونية واللغوية فى ذوبان إنسانى مطمئن، وألعن كل الفروق، وكل التشويهات، وكل التعصب.
كانت ابنتى الكبرى ـ منى يحيى ـ (تذكرّ أن لى ابنة أخرى اسمها منى السعيد) قد تعرفتْ على صديقتها هذه أثناء رحلة كشافة فى جزيرة كورس (كورسيكا بالعربية ـ بلد نابليون: مولدا ومنفى) حيث شاركتا فيما يسمى “راندونيه” وهى مغامرات كشفية وسط الجبال سيرا على الأقدام مستعملين معابر (كبارى) قديمة لا أحد يعرف مدى صلاحيتها، مارين بمسارات لا تسع إلا فردا واحدا بالكاد، أو بلا مسارات إطلاقا تصعيدا فى جبل أو انحدارا إلى سفح، مكتشفات طبيعة مجهولة، عابرات ـ من خلال ذلك، وفى حضن الطبيعة الأم ـ معظم الحدود بين الأجناس والعقائد وما يصاحبها من تعصب وغرور. كان هذا دائما هو غرضى الأساسى من وراء السماح لأولادى الواحد تلو الواحدة بهذا السفر الجماعى. كان هدفى هو إذابة الحدود بينهم وبين من يعرفون ممن هم على غير دينهم وغير شاكلته. كنت دائماً آمَلُ أن يعرفوا من خلال ذلك أن الحياة الحقيقية ليست فى الرفاهية أو فى احتكار الجنان، يعرفون ذلك بالممارسة، والمشى، وليس بالنصائح والكلام،
ومنذ هذه الرحلة المشائية الجبلية التى خاضتها منى وهى فى الخامسة عشرة، وهذه الصديقة “فرانسواز” وأهلها يرسلون الدعوة تلو الدعوة لابنتى وأختها للنزول ضيوفا عندهم فى صيفٍ ما. ورغم رقة حالهم ماديا، فقد كانت دعوة مفتوحة مجانية إلا من ثمن تذكرة السفر، وكانت ابنتى تكرر لى دائما أن الكرم ليس له وطن، كما أنه ليس مرتبطا بقدرة مادية معينة، وأخيرا قبلت بنتاى الدعوة، كان ذلك لسنتين سابقتين على رحلتنا هذه. حكت لى ابنتى عن تواضع منزلهم فى ضاحية “بيك”، وعن زيارتها لعمة صديقتها الفلاحة فى الشمال (فى ولاية بريتانيا)، وعن مدى نشاط الفلاحة الفرنسية، وكمية اللبن التى تدرها البقرة الفريزيان، وتواضع دورات المياه لديهم.. فنقلتْ إلىّ وإلى أمّها صورة حقيقية لما هو أسرة فرنسية من الشمال “غير” ما نعرف عن باريس وأهلها، وتوطدت العلاقة، وتواعدوا على تبادل الزيارات الحرة، ولم تحن الفرصة بعد لــرد الزيارة، وهانحن نزور من جديد هذه الأسرة الصغيرة بعد أن عملتها فرانسواز مع صديقها دون تردد، ونشأت أسرة صغيرة ظريفة فى هذه السن، وبكل هذا الاستقلال، وهذه هى بطنها أمامها، وزوجها ذائب فى هواها، طول الوقت.
عرض علينا المضيفان أن نستقل تاكسيا فرفضنا بداهة، وفضلتُ أن نواصل السير إلى المنزل حتى أعيش خطواتى كالعادة، فجعلت أتملى فى واجهات المحلات، وأقرأ الاعلانات بالتفصيل، ومن بينها إعلانات عن ستوديوهات ومنازل صغيرة، وفيلات، وأثمانها كلها معقولة، لاتزيد عن ثمن شقة متوسطة فى القاهرة أو حتى فى بلبيس!!، حتى خطر ببالى الخاطر المتكرر ـ بلا أى مبرر ظاهر ـ أن يكون لى كوخ فى هذا المكان أو مثله (بدأت تلوّح أعراض الحنين إلى الركن القَصِى).
خجلت من نفسى فراجعتها، وجدتنى، على الرغم من تكرار هذا الخاطر كلما زرت مكانا أخضرا جبليا بعيدا، أتصور أنى لا أعرف بديلا أحب الالتصاق به والموت تحت ثراه أكثر من أرض بلدى كما لا أعرف فعلا أشرف من إفادة ناسى أولا وقبل أى شىء، لكننى أتصور بين الحين والحين أنه سيأتى علىّ يوم يمنعوننى فيه من أن أفكر لنفسى بنفسى، وبالتالى فسوف أعجز عن أن “أعلن”، أو “آقول” ما أفكر فيه، وأنا أعانى حاليا من صعوبة النشر بعد أن كشفت عديدا من أوراقى الواحدة تلو الأخرى، وبرغم الحذرالشديد لاحت بعض معالمي: فى الدين والجنس والسياسة والتاريخ، فلم أعد أكتب ما يعرفون، كما لا أستجيب لما يريدون، لا “هؤلاء” ولا “أولئك”، وهم حتى الآن لا يتهموننى بالخيانة أو العمالة أو الكفر، وإن كنت أرجح أنهم يصفونى بالجهل أحيانا و بالغرابة كثيرا، ولكنى أتصور أنه حين يتولى “هؤلاء” أو “أولئك” الأمر، وهما على طرفى نقيض، فلابد أن أجدنى مواجها باتخاذ قرار، قبل أن يتخذوا هم قرارا فى شأنى، وأتصور أنى سأكون كهلا لا يحتمل التعـذيب، كما سأظل عنيدا لا أخضع للقهر، يقظا لا أحتمل التخدير، وحين لا تتسع أرضى لمثلى، وهم على قمة التحكم الفوقى، فأرض الله واسعة، فلا مانع من إعداد الركن الذى سيأوينى حتى لا أتنازل عن شرف عقلى مقابل ذل إقامتى حيث يقهرون حقى فى أن أفكر لأقول.
أفيق فجأة: من هم؟ ومن أنا؟ أنا لست فى أولها ولا فى آخرها، بل كلا الفريقين يفرحون بأمثالى ممن لا يتعدى خطرهم اجترار أفكارهم، فما هذه القصة الطويلة العريضة التى تستدرجنى حتى أهم بشراء كوخ فى ضاحية خواجاتية؟، وحتى لو فعلت، فلمن سأعلن آرائى هناك من هذا الكوخ البعيد، وكيف سأستثمر حرية تفكيرى، هل ستسمح لى بذلك تلك الصحف العربية الخوجاتية التى لا أحد يعلم حقيقة تمويلها ولا غاية توجهها؟ أم أنى سأزرع أوهام أهميتى فى أوراق مهملة أخزنها فى حديقة كوخى المزعوم، وأوزعها على خواجات لا يدرون عن وجودى شيئا أصلا ثم تـُدفن، قبلى، دون أى ذكر، بعد أن يعجز الحانوتى الخواجة عن فك طلاسمها، وحين أفقس نفسى بهذا الوضوح أكتشف حجم حاجة الواحد منا إلى الاطمئنان “بشكل ما”، إلى وجود “ركن ما”، ينتظر الواحد منا فى حالة “ما إذا”…،
أحسب أن وجود مثل هذا “الركن”، حتى لو لم نلجأ اليه أبدا، هو أمل قائم عند كل منا منذ غادر الرحم، ولكنى أعترف أنى بالغت فى تشييد “الأركان” دون استعمالها، فحيثما حللتُ، أقمتُ لى حجرة، أو عشة، أو تعريشة، أو استراحة، أعدها وأتحمس فى إعدادها، متصورا أنى سأقيم فيها بقية حياتى “بهدوء”،(ليس “بهدوء” إبراهيم نافع) وبمجرد أن يتم ذلك – وقد تمّ فعلا فى أكثر من مكان فى بلدنا- قد لا أبيت فيها ليلة واحدة، ولكنى أواصل العناية بها استعدادا “للجوء إليها” فى وقت ما، وقت لا يجئ أبدا.
أتذكر أن أبى كان يمارس هذه اللعبة بطريقة أخفى، فإمكانياته كانت أقل. وقد سبق أن أشرت إلى كيف انتقل أبى بعد المعاش المبكر إلى حجرة منفردة فى حديقة لنا بعيدة عن البلدة تقع أمام المقابر مباشرة، وقبلها كان قد أعد حجرة فى حقل أبعد، وكانت له حجرة فى الشقة الأصلية تسميها أمى “ركن العزل” ـ وكانت سِـلفتها ـ زوجة عمى ـ تشاركها الرأى وتوافق على هذه التسمية، حيث أن عمى (زوجها) كانت له نفس النزعة، وبالتالى نفس الحجرة، يلجأ إليها عند التصادم والاختلاف، فهل المسألة وراثية؟ هل استطاعت عائلتنا، بهذا التكرار الملح، أن تعلنها باعتبارها طبيعة بشرية عامة. فلماذا لا يعملها غيرنا هكذا بهذا الإلحاح ؟
أعلم يقينا أنه لا الركن ولا الرحم، ولا الموت يستطيع أن يحل مشكلة القهر، والسلطة، والإعاقة، وأن من لا يتمكن من إدارة معركته على أرضه فلا سبيل إلى تصور أنه سيفعلها على أرض غيره، ومع ذلك فأنا لا أحرم نفسى من حقى فى أن أحلم “برحمٍ ما” لحين أستقر فى جوف الرحم الأوسع (القبر) فى حينه ـ ولكنى لم أكن أتصور أن حاجتى إلى الاطمئنان لوجود هذا الرحم سوف تتمادى الى الحلم: بكوخ ـ مِلك ـ فى بلاد الفرنجة” هكذا،بهذا التكرار، طول الوقت.
أسترجع ما قالته لى ابنتى فى “نيس” حول تفكيرها فى الهجرة، ثم كيف عدلتْ بعد حادث السرقة فى “فيل نيف” فى شاطئ الزير (الكوتدازير). أتصور أن الحرية المزعومة فى بلاد الفرنجة هى خدعة أكبر من كل تصور، فإن كنت أخاف من قمع حريتى فى نشر كلمة، أو إبداء رأى، فى بلدى، فى يوم ما لم يأت بعد، فإن حرية المشى ليلا، وحرية إمكانية التخلص من وصاية الإعلان، ووصاية التليفزيون، ووصاية شركات التأمين وغير ذلك هى كلها حريات غير قائمة فى بلاد الخواجات المتقدمة. إن هذا الحنين إلى حرية أخرى، أو ركن كهف واعد، مرتبط بعجزى عن أن أنفصل عن مشاكل ناسى ومرحلتى، يختلط عندى العام بالخاص، حتى لا أميز.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثانى من الترحال الثانى: “ويا ليتنى أستطيب العمى”