الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثانى “ويا ليتنى أستطيب العمى !” (7)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثانى “ويا ليتنى أستطيب العمى !” (7)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 26-6-2024

السنة السابعة عشر 

العدد: 6143 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”

 الفصل الثانى

ويا ليتنى أستطيب العمى ! (7)

………………

………………

الأحد 9 سبتمبر 1984

حين أقتنع بما لا يقنعنى، يثور علىّ داخلى إما بالتوقف والعرقلة، وإما بالحركة والمغامرة، وإما بالشعر الذى لا أنتمى إليه، أثار هذا كله عندى هيجة سياسية قفزت منى شعرا لدرجة السباب هذا “بعضه” :

” إفتح عينكْ، أقدِمْ تلعبْ.

فالحظ اليوم لأولاد الأفعى،

من وُلدو من لدْغة عقربٌ.

……

يا تجارالكمات الخاوية المهجورة.

أفيونُ السعدِ دعارةْ.

……

 فتدحرجتْ الكرة الأثقل فى غير الخانةْ.

خرج لسان السعد الوعدْ، يتدلّى،

 من جوف العذراء المومس.

لم تطل وقفتنا ،انجذبنا- زوجتى وأنا – إلى موقع نحبه : تقاطع سان جرمان بسان ميشيل، وتهدينا أقدامنا إلى مطعم يابانى. زوجتى تحب كل ما هو شرق أقصى، (ويبدو أن ابننا مصطفى قد ورث هذا الميل دون مورث! انظر الترحّال الثالث إن شئت) وهذا المطعم اليابانى أدق وأرق وأغلى من المطعم الصينى المتواضع تحت الفندق. قلت: لعلها ـ بذلك ـ تغفر لى سهوى وغفلتى عنها فى الشانزلزييه، لكن مثل هذا “الترك” يحرك فى الداخل ما لا يزول.

حكت لى مريضة صديقة أنها حين كانت فى الثالثة دخل أفراد الأسرة المسكن وأغلقوا الباب دونها، فظنت أنهم استغنوا عنها إلى الأبد، ونفس المريضة تحركت عندها هذه الذكرى حين  كانت فى الرابعة ، دخل أهلها شركة بيع المصنوعات  وتركوها وحدها فى العربة فظنت أنهم لن يعودوا أبدا،

حضرنى كل هذا بعد العَمْلة الخائبة التى اقترفناها فى حق هذه السيدة زوجتى ـ وكيف يمكن أن تمحو وجبة يابانية مثل ذلك.

 وقلت أيضا: ليست الأمور كما أتصوّر.

 الأثنين 10 سبتمبر 1984

لم نتمكن أمس من زيارة حديقة اللوكسمبورج ـ فحاولنا اليوم أن نوفق بين زيارة المونمارتر وزيارتها، وكنت قد تحدثت مع السيدة كومباليزييه التى كنت أسكن عندها فى مهمتى العلمية، وحددت معها موعدا لزيارتها مع أسرتى لتحيتها، فاستقبلتنا أحر استقبال وأطيبه. كنت لم أرها منذ ذلك التاريخ البعيد. فوجئت بكهولة متعجلة لم أضعها فى حسابى، وسألتها عن “بيبر” إبنها المعاق (شلل أطفال قديم جسيم) فأخبرتنى أنه تخّرج، واستقل فى منزله فى “الفرساى” وكانت ابنتها قد تركت المنزل منذ حللتُ أنا محلها فى حجرتها فى تلك السنة، ولم أجرؤ أن أسأل عن زواج ابنها أو ابنتها كما اعتدنا عندنا، فالاستقلال عندهم حتم وحق وواجب، بزواج أو بدونه، هو حتم حتى لو كانت الأم فى هذه السن، وهو حتم حتى لو كان الإبن بهذا الشلل، فسألتُ عن حجرتى وهل يسكنها ـ إن كان قد حدث ـ أحد الآن، فأجابتنى بالنفى، ففرحت، واكتشفت أنى كنت حريصا على أن أطمئن أن حجرتى بعد كل هذه السنين لم يمتهنها أحد، وأن من سكنها أو يسكنها قد أحبّها مثلما أحببتها، وأكرمها مثلما فعلتُ ، مثلما  أكرمتنى.  فهمت لتوى قول الشاعر: “أهيم بدعد ما حييت فان أمت، فوا أسفى من ذا يهيم بها بعدى”، ورفضت ـ نسبيا ـ قول الآخر: “أهيم بدعد ما حييت فإن أمت،  فلا صلحت دعد لذى خلة بعدى”. وإن كنت قد اقتربت من المعنى الآخير حين خطر ببالى أنى أفضّل أن تظل حجرتى (دعد) خرابة على أن يهينها أحد أو يسئ استعمالها، وأكتشف وأنا أحكى عن حجرتى تلك كأنى امتلكتها دون صاحبتها، وأجدد اكتشافى علاقتى بالأماكن ومعنى الوقوف على الأطلال.

طلبت أن ألقى على حجرتى نظرة، فضحكت السيدة، وفَهِمَتْ، وسَمَحَت، وما أن فتحت الباب حتى اعترتنى دهشة غير متوقعة، فقد بدت لى الحجرة أضيق مما كانت تحل بخيالى بعد أن تركتها. – عام 86/96 – كانت لى عالما بأسره، فكيف اختُزلت هكذا الى هذه المساحة المحدودة، وأين شرفتها؟. هى  لم تكن لها شرفة أبدا،  كان ثمة نافذة طويلة قليلا لها حافة أسفلها ممتدة للخارج أقل من نصف متر، لا تسع إلا زرعا جميلا محدودا، ولكن هكذا قفز إلىّ هذا التساؤل: أين الشرفة؟  هل يمكن أن يشكل الخيال ما يشاء إلى هذه الدرجة؟ قلت ياليتنى ما رأيتها ثانية لتظل صورتها كما صوّرتها، لم أكن إذ ذاك طفلا، كنت فى منتصف العقد الرابع، وما أمر به هكذا جائز لطفل اختلفت عنده المقاييس حين كبر. لكن هذا هو ما حصل.

أعود إلى مضيفتى فأسألها عن أحوالها، وتجيب.

هى تقضى وقتها مع صديقات كهول بعد أن تقاعدت، وهى تحافظ على صحتها بممارسة ألعاب خفيفة لمدد محدودة كل يوم، وتضبط زياراتها المنتظمة لطبيبها، كما تتبع نهجا غذائيا وقائيا محكما.

أتساءل: لم كل ذلك؟ لتحافظ على ماذا، لماذا، إلى متى؟ ولا أعلن تساؤلاتى جهرة طبعا وأخجل من عودة سخفى وقد كنت أحسب أنى تعلمت حتى التوبة العدول عن عبث مثل ذلك التساؤل عن معنى استمرارحياة الناس!! (انظر قبلا خبرتى المؤلمة مع خالتى فى هذا العبث الفكرى الغبى- الفصل السابق) . أشفق على مدام كومبالزييه، وأحترمها، وأسرع بالانصراف قبل أن تلتقط بقية مشاعرى العبثية، فتودعنا شاكرة الزيارة، كما تشكر نيابة عن ابنها بيير هدية الشطرنج الفرعونى الذى تركته له؟ ويتعجب أولادى من تعلقى الشديد بحجرتى تلك، وأتصور أنها (الحجرة)  كانت لى بمثابة الرحم الحانى فى تلك الولادة المنتصف عمرية.

أهى “الركن” أيضا ؟

 أصحب أولادى بنفس مسار أمس الأول إلى المونماتر، ولا أجدنى قد مللته أبداً، وما أن نصل إلى المقاهى والمراسم حتى نفترق حيث قررت هذا اليوم أن أطيل الجلوس وحدى لأطيل التأمل، فتفضل زوجتى البقاء معى، ولا أتأكد إن كان ذلك اختيارا لصحبتى، أم تجنبا لتكرار ممل، مع الأولاد فيذهب الأولاد ونجلس على مقهى فى موقع ممتاز.

يمر أمامى بائعو الفن يغرينى كل واحد منهم برسم “بورتريه” لوجهى البهى(!!). أرفض بداهة، فلا أنا من يهمه التصوير أصلا، ولا وجهى هو الوجه البهى، ويأتى واحد أكثر ذكاء ومخاطرة من عنادى، فيبدأ فى الرسم دون إستئذان منى، فأحاول أن أثنيه عن عزمه . أُفهمه بوضوح أنى لن أشترى ما يرسم مهما كان، فلا يهتم، ويجيب أنى غير ملزم بدفع سنتيم واحد إلا إذا وافقت، ويكمل رسمه، ولا يعجبنى طبعا، فإذا كان الأصل لا يعجبنى فكيف تعجبنى الصورة، ولكنى أخجل وأدفع، ويثبُت أن إصراره أذكى من عنادى- وأتصور أن هذه وسيلة ناجحة محسوبة لكننى أتابع نقاشا يجرى بجوارى مع “زبون” أحسب أنه أمريكى، فقد غامر أحد الفنانين معه بمثل ما فعل معى، لكنه رسم وجه جارى رسما كاريكاتيريا جميلا وناطقا، تصورتُ منه أنه لمَسَ داخله وأظهره جنبا إلى جنب مع دقة التقاط التقاطيع، وخاصة أنفه المتميزة، ويبدو أن الرجل قد أُعجب بالرسم مثلى، فهم أن يبتاعه، لكنه قبل أن يفعل خطف نظرة إلى زوجته (أو صاحبته) الحسناء فتحفزت، وجعلت تقلب النظر بين الرسم وبين الأصل، ذلك أن الكاريكاتير قد ضخّم الأنف حتى أصبح أكثر دلالة وتمييزا، وقد تصورتُ أن هذا أفضل، لكن يبدو أن ذلك لم يرُقْها، فتراخت يد جارى رويدا رويدا من على حافظته حتى خرجت بيضاء من غير سوء، وصح ما توقعه وتوقعته حيث “زامت” صاحبتنا أنْ “لا”، وهى “اللأّ”، وكأنها أرادت أن تظل محتفظة بصورة صاحبها (بل الأرجح: زوجها) بأبعادها الكاريكاتيرية الأخرى، إذ يبدو أن ما نرسمه فى خيالنا لبعضنا البعض هو كاريكاتير مفضل على الحقيقة من جهة وعلى كاريكاتير الآخرين لنا من جهة أخرى، بل إنى رجحت أن كل واحد منا له صورة للذات وصورة للجسد، كما أن له كاريكاتير للذات وكاريكاتير للجسد، وقد يحتاج هذا لبحث خاص!!!

………………

………………

ونواصل الأسبوع القادم  استكمال الفصل الثانى من الترحال الثانى“ويا ليتنى أستطيب العمى” 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *