نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 19-6-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6136
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الثانى
ويا ليتنى أستطيب العمى! (6)
………………
………………
الأحد 9 سبتمبر 1984
نخرج من رحم الماء إلى إحاطة الشجر، ومازال المطر يذكّرنا بحدة: أين نحن، وكيف، وأطرد من ذاكرتى ـ الآن وأنا أكتب ـ ذلك اليوم الرطب القائظ الذى مكثنا فيه ممددين كأصنام من العجين المتخثر بجوار البحيرة ذاتها فى العام المنصرم حيث تصادف وجودنا هناك تحت وطأة موجة حر رطب يسمح لك بأن تقطع فيه “الهواء” إلى قطع مجسدة بسكين حاد.
وفى طريق عودتنا مررنا بالشانزلزييه ثانية، فاستوقفنا موكب غريب يسير فيه أناس أغلبهم من متوسطى السن الأقرب إلى الكهولة وقد ارتدى بعضهم الملابس المدنية وعليها وشاحٌ ما، فى حين ارتدى عدد أقل بعض الملابس العسكرية، ويتقدمهم لفيف من شرطة رسمية ويتقدم الجمع فرقة موسيقية بسيطة، تبدو رسمية أيضا، وقد اصطف الناس على الجانبين يتفرجون، وبعضهم يصفق فى حدود، ثم يتراجع، والأغلبية تسير غير مهتمة، ويظل الركب يسير وظهره إلى قوس النصر حتى وصل منتصف الطريق إلى الكونكورد، فسألتُ أحد المارة، فعرّفنى أن هذا هو يوم الاحتفال بذكرى انتصار معركة “كذا” (لست أذكر ماذا) وأن هؤلاء بعض من اشترك فى هذه المعركة أو من ينوب عنهم من أقاربهم، فتعجبت من هذا الحفل الشعبى البسيط والتلقائى، والجميل، وتصورت أن مغزاه أرقى من أى حشد رسمى محاط بزفّة من النفاق الإعلامى،شعرت أنه موكب تاريخى متواضع طيب، أكثر من كونه موكبا حماسيا عسكريا مفروضا، فتعاطفت مع كل ذلك.
قلبت كالعادة فى أوراق بلدى، فلم أتبين ما يقابله حديثا، ولم أتذكر أى احتفال وطنى تلقائى إلا الاحتفال بذكرى سعد التى كان يقيمها شباب الوفد زمان فى دوار عائلتنا بالبلدة، وكنا ـ رغم انتمائنا حينذاك للاخوان ـ نشارك فيه تلقائيا بحماس مسامح، ويستمر الموكب جاذبا أفكارى وأقدامى جميعا، فأواكبه دون تردد حتى أذوب فى حشده، وحين يتحلق الركب بعد الوقوف تلتقط الصور ويتجمع السواح ثم يتفرق الجمع تدريجيا، وهنا ـ هنا فقط، أفيق لصحبتى، فأكتشف كل أولادى حولى، لكننى أفتقد زوجتى وأسأل عنها، فأتبين أنها تاهت منا فعلا، فننتظر طويلا بلا طائل.
زوجتى حين تكون معى تعتمد على ذاكرتى وحافظتى وحدسى المكانىِ طول الوقت، فى حين أنها حين تكون وحدها تعرف كل شى، بلا دليل، وأرجّح أن هذه الاعتمادية هى نوع من العدوان السلبى رضينا به كلانا دفعا لما هو أسوأ، لكنها اليوم تاهت بحق، وليس معها نقود، ولا حتى العنوان، فنـتفرق أنا والأولاد فرقا للبحث، ونتفق على مكان محدد للقاء مهما طال البحث. أرجح، وأدور، وأتصور، وأحسب، وأعود، وأضيق بجهدى، وباعتماديتها، ولا فائدة. أشعر بوخز فى جنبى كأنى انتبهت إلى ما لا ينبغى أن أنتبه اليه، فأبلع ريقى، وأواصل البحث. تمضى ساعة وبضع ساعة، ثم تعثر عليها إحدى بناتى. تعثر عليها فى نفس الاتجاه الذى كنت مكلفا بالبحث ـ شخصيا ـ فيه، ولا أحاول أن أبحث عن تفسير ذلك، وخاصة بعد أن تجزم زوجتى، وهى فى أشد حالات الألم (متهمة إياى دون غيرى طبعا: بالإهمال والترك والنسيان) تجزم أنها لم تغادر مكانها ولا خطوة واحدة منذ تركناها، إذ يبدو أننا انسقنا وراء ركب الاحتفال دون تفكير، وقد تصورنا أنها تمضى مثلنا مع الركب دون إخطار سابق، خاصة وأنها تحب المواكب بكل أشكالها. لا أترك لنفسى العنان أتأمل علاقتى بزوجتى من خلال ما عرّته هذه الحادثة، وحين أتذكر ما قيل عن علاقة سقراط بزوجته أو تولستوى بزوجته، وما لم يـُقل عن علاقة ابن سينا بزوجاته أو عن برناردشو بـ”لا زوجاته”. حين أتذكر كل ذلك أتساءل: هل هذا الذى وصَلَََنَا، والذى لم يصلنا، من معلومات عن هذه الزيجات والزوجات، هل هو حقيقة ما كان؟ هل هذه السير (الذاتية وغير الذاتية) المزعومة قد أنصفت هؤلاء الزوجات البسيطات فى محنة معايشة غرور هؤلاء المبدعين ووحدتهم (دون ادعاء أنّى منهم)؟ هل سمع أحد لآرائهن الحقيقية وما لحقهن من ظلم وتجاوز ومامارسْن من صبر وتحمل؟
لو كان الناس يحتملون، لقلت، وربما قالت، فى هذا الشأن ما ينبغى أن يقال، فثمة أمور لا يعرفها عنى مخلوق فى هذه الدنيا إلا هى، وثمة آراء ومعتقدات لا تخطر على بال أحد عنى لكنها على علم واضح بها، تـقبلها فى صمت مسامِح، حتى لو لم تقتنع بها أو بمثلها، وثمة احترام لشطحاتٍ ليس لها أى مبرر، ولا تستأهل أى إحترام، ولا تُحتمل تحت أى عنوان، لكنها تتركها تمر، ومع ذلك فهأنذا “أنساها” هكذا ببساطة وسط الزحام. لا أعتذر لها حتى لا أضاعف المأزق، وحين أعلم من أولادى لاحقا أنها حين ضاعت قررت ألا تغادر موقعها ولو تأخرنا عليها طول الليل. لا أستطيع أن أتخيل ماذا حرّك هذا القرار بداخلها من مخاوف وذكريات وضياع، وماذا أثار من احتجاج وعدوان، وكيف ربطت بينه وبين صفاقة الجزائريين الذين آذوها قرب البيجال ـ فأحاول أن أخفف عن نفسى وطأة خطيئتى شارحا لنفسى أسباب انسحابى وراء الركب. يبدو أنى اعتمدت على أولادى وهم اعتمدوا علىّ، فنسيت نفسى وانسقت أمام انجذابى إلى الشارع والحدَث.
أنا شديد الضعف أمام الشارع، أتعلم منه كما ذكرت ـ أكثر مما أتعلم من حديث المرشدين السياحين وتواريخ الآثار وصخب المسارح، أتعلم من وقفة المتسكعين، ومعاملة البائع، ولهاث العدائين، وموزعى الإعلانات الصغيرة من أصحاب العقائد الجديدة والشاذة، ومن مجددى الأديان القديمة حتى أنى رجحت مثلا، من هذه الاعلانات المتكررة الملاحقة فى شوارع نيويورك، أن ثمة محاولة أمريكية يهودية ترمى الى تهويد المسيح، إذ يبدو أن اليهود لم يكتفوا بادعاء تبرئتهم من دم المسيح ولكنهم تمادوا إلى تهويده فعلا، حتى شككت من فرط إلحاحهم باعلانات الشارع هذه، شككت فى معلوماتى التاريخية، قلت لعلهـما دين واحد، ولعل المسيح ما جاء إلا ليذكرنا بالدين اليهودى، أفلا يجتمع العهد القديم مع العهد الجديد فى كتاب واحد؟ ألا توصف تلك الحضارة الوافدة باسم الحضارة اليهودية المسيحية؟ فإن صح ذلك كله أو بعضه فإن علينا أن ننظر بعين الاعتبار لوجهة النظر التى تنظر لـلمسألة الصهيونية باعتبارها الوجه المعاصر للحروب الصليبية، التى هى بدورها ليست صراعا بين أديان سماوية تكمل بعضها بعضا بقدر ما هى تنافس للتفوق والتعصب والسيطرة من الجانبين لا أكثر ولا أقل،
لعل إصرار دعاة “الشارع” من اليهود النيويوركيين خاصة، وغيرهم، على تهويد المسيح يتطلب بالضرورة اعتبار اسرائيل واجهة هذه الحضارة الواحدة، أى أن إسرائيل هى الفيلق المتقدم نيابة عن الحضارة المسيحية اليهودية للإغارة على أى احتمال آخر، حتى لو كان الأفضل، ومن هذا يصبح ترشيد وإبداع الحركة الإسلامية الأحدث هى الرد الطبيعى على مناورة شديدة التعقيد مترامية الحلقات، ولا يصح أن نعتبر عائد مثل هذا الإبداع الاسلامى، إنْ صدَقَ وأبدع، خاصا بالمسلمين، لأنه سوف يكون محاولة للاسهام فى إنقاذ البشر لا تمييز المسلمين يا خبر!! إذن فالصهيونية بكل تجلياتها المسحية والأمريكية ليست إلا ردّة لمسيرة الانسان إذ تغفل بقية أديان العالم و”لا أديانه”كذلك.و هل يملك كل فريق ـ ولو مؤقتا- إلا الرد عليهم بالمثل؟
ما شأن ترك زوجتى إهمالا ونسيانا بكل هذا، هل تركتُها لأحل مشكلة اسرائيل أو الإغارة الصليبية المحتملة، أم أنه الاستغراق فى الشارع على حساب الصاحب الآخر،
زوجتى ـ كالعادة ـ تعذرنى فى النهاية،، وهذا عبء جديد فى ذاته، وأنا لا أعرف لكل ذلك حلا.
قلت لنفسى: إن أفضل اعتذار لها هو أن أدعوها إلى ما تحب، وقد كان، فانفصلنا عن الأولاد واتجهنا الى الحى اللاتينى فى صمت، وتركنا أقدامنا تسوقنا هنا وهناك، فقابلنا فى أحد الشوارع الجانبية تلك الحلقة المتكررة من الموالدية الخوجات المتجولين، يقومون بالألعاب السحرية كالحواة ويرددون بعض الأغانى الغجرية وغير الغجرية، هذا غير بعض ألعاب الحظ، والتهريج. “قرّب، قرّب، قرّب قبل ما يلعب، شربة الخواجة سيمون أحسن من عصير الأفيون”أو كما قال، وهات يا موسيقى، ونفخ بالنار، وقفز بداخلها، ومفاجآت عجيبة وأخبار غريبة، كل ذلك “أحسن من السرقة والنصب وكافة شىءء يغضب العم سام”، هذه التجمعات بالذات هى المجال الأكبر للسرقة والنشل والذى منه الأمور التى يتولى تحديثها العم سام شخصيا فى كل المحافل الدولية.
أنا لا أفهم بوضوح أين أضع هذا النشاط الشوارعى البدائى فى إطار الحضارة الباريسية (الغربية) وكيف أقيسه بمقاييس التقدم والتكنولوجيا،وأقول لنفسى راضيا موافقا: هذا تهريج طيب، واحتمال نصب وارد، وبالقياس أنظر فى التهريج الأكبر الذى يقوم به القادة المتقدمين وهم يعرضون ألعاب التكنولوجيا الحديثة على العالم الثالث بنفس الطريقة، وكأنها الحضارة التى لا قبلها ولا بعدها فأضبط نفسى متلبسا برفضٍ عميق لهذه الخدعة المتمحكة فى ادعاء التقدم. لا أرفض هذه الحضارة، لا أحد يستطيع أن يرفض الحضارة ، أنا أرفض سوء استعمال أدواتها فى غير ما وعدت به. أرفض سيركُ المال والسياسة والكذب والشطارة.
أحاول أن أذكّر نفسى أننى ضيف عليهم، وأننى منبهر بهم، وأننى دائم المقارنة بين إيجابياتهم وسلبياتنا، وأننى أتعلّم منهم الكثير. لا أريد أن ينطبق علىّ موّال يقول: “والله ان كسيت الخسيس حرير من الهندى، ياكل فى خيرك وعند الناس يِــدِم فيك”،
أكاد أقتنع أننى ما دمت أنهل من عطائهم فلا بد ألا أذم فيهم.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثانى من الترحال الثانى: “ويا ليتنى أستطيب العمى”