الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثانى “ويا ليتنى أستطيب العمى !” (5)

ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الثانى “ويا ليتنى أستطيب العمى !” (5)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 12-6-2024

السنة السابعة عشر 

العدد: 6129 

ترحالات يحيى الرخاوى

الترحال الثانى: “الموت والحنين”

 الفصل الثانى

ويا ليتنى أستطيب العمى ! (5)

………………

………………

الأحد 9 سبتمبر 1984

اليوم يوم جماعى، وقد قررنا أن نبدأ بغابة بولونيا وننتهى فى حديقة اللوكسمبورج، وكان قد أوحشنى حوار الصغار، ومفاجآت الاختلاف، وجولات الاستطلاع.

لغابة بولونيا فى وجدانى موضع هام، فهى أرحب وأرخص مكان كان يمكن لمثلى فى وحدته وفقره “آنذاك” (1969) أن يجلس، ويقرأ، ويتأمل ويكتب، ثم لا يدفع شيئا، ولا يكلم أحدا، فيمضى اليوم بطوله لا يكلفه إلا ثمن رغيف (باجيت) وزجاجة عصير، والمراكب تجرى على سطح البحيرة تعيد إلىَّ ذكريات فلوكات زفتى، وجولات التجديف حول جزيرة المنيل قبل التخرج ومع زملاء منزل النواب، وربما لأنى لا أعرف العوم فإن التجديف قد ربطنى بالماء الهادئ ربطا سبق أن أشرت إليه.

 أضيف هنا أننا حين كنا طلبة فى الجامعة  فى مصر (حوالى سنة 1953 تحديدا) كنا نؤجر مركبا متواضعا من مرسى بجوار كوبرى قصر النيل لمدة يوم كامل، ونقوم بالتجديف حتى حلوان، وذات مرة لم نرجع  من حلوان إلا بعد منتصف الليل، حتى انخلع قلب  صاحب المركب وقد نزل يبحث عنا فى وسط النيل.

 وما بين محطة مترو بورت دوفين وبين غابة بولونيا مسافة تسمح لى بالعدو أنا وابنتى النشطة منى السعيد، فنعدو سويا، وأتركها تستكشف بنفسها لقطات من الداخل إلى الخارج وبالعكس، وتلهث هى قبل أن أفعل، فأغيظها بأنها عجوز، فتذكرنى بأنى اعتدت ذلك أكثر منها معظم الأيام، وقد كنت قد أشرت إلى هذه العادة (القبيحة) ـ عادة الجرى ـ المنتشرة حديثا فى طول أوربا وعرض أمريكا بشكل بلغ حد الوباء بعد أن صارت بدعة لها كتبها المنشورة، وأبحاثها المنظمة، وتجارتها المرتبطة بالدعاية (للأحذية وملابس الرياضة)، وبالدعاية المضادة ضدها التى ثارت حين هددت هذه الرياضة سوق الأدوية وتدخين السجائر.

رفضتُ هذه الممارسة ابتداء بمعناها الغربى، ذلك أنى كنت ألاحظ أنها رياضة فردية، تذكرنى باستمناء رياضة كمال الأجسام أمام المرآة، وما أكاد أنظر فى وجه العدّاء ـ صغر أم كبر ـ حتى أشعر بتكثيف الوحدة وشقاء العناد وعشق الجسد جميعا، فأقول لنفسى إن هؤلاء الناس قد تفرقت بهم السبل، وأن الأولى أن يعملوا عملا جسديا ـ لا يدويا ـ حتى يتصببوا عرقا بدلا من هذا الاستمناء المضحك، ويؤكد لى ذلك ظاهرة موازية وهى ظاهرة المستمع المشّاء Walkman، أعنى حامل جهاز التسجيل (أو المذياع) ذى السماعات أطول الوقت، فتجد الشاب أو الرجل أو الفتاة من هؤلاء، وقد وضع السماعات على أذنيه وراح فى غيبوبته الذاتوية يسير بين الناس ذاهلا، لا يسمعهم، ويكاد يتصور أنهم لا يسمعونه، وقلت فى نفسى عندهم حق، فماذا يمكن أن يسمعوا من البشر مثلهم مما لا يقال أصلا؟ ما هكذا يكون الرد على العزلة المفروضة بعزلة اختيارية، وما هكذا نحل مسألة تقطيع أوصال احتمالات الحوار الإنسانى، أقول إنى استقبلت “العدو المنفرد” من نفس المنطلق.

ولكنى حين عودتى إلى وطنى، وكنت قد قرأت كتابا عن “جذل العدو”  Joy of Running قررت أن أدخل التجربة من باب أحبه وهو علاقته بالتطور، فقد ذكرهذا الكتاب أن التاريخ الحيوى للإنسان (للأحياء!!) يؤكد أن أجداده لم يكفوا عن العدو خلال 300.000 (ثلاثة ملايين) سنة، وأن الإنسان  لم يقم على ساقيه واقفا ماشيا تماما الا منذ نشأة أول حديقة (000ر7 سنة) وبالتالى فالعدو ـ بين أشياء أخرى ـ يربطنا بماضينا (هكذا يقول الكتاب)، وبما أننى  أحب أن أجرب ما أرفض، حتى أتعرف عليه بحق، فقد بدأت أعدو وحدى حتى لا يسخر منى من يشاهد انقطاع أنفاسى بعد عشر أمتار، بدأت على طريق سقارة السياحى وأخذت أزيد المسافة تدريجيا حتى نجحت أن أعدو من كوبرى أبو صير حتى انحناءة  طريق أهرام سقارة وبالعكس (حوالى عشرة كيلومترات) دون توقف عدة أيام فى الأسبوع، وكان ذلك بعد الفجر حتى لا يضحك منى الفلاحون وسائقو الكارو، وما  كان يطمئننى  إلى عكس ذلك هو أننى أعدو فى منطقة سياحية، اعتاد فلاحوها أن يشاهدوا بعض الخواجات المهفوفين يفعلون من البدع ما يشاءون.

اكتشفت رويدا رويدا، من واقع الممارسة، أن داخل هذا النشاط ما يتخطى الاهتمام بالجسد، أو بتحسين الدورة الدموية، كما اكتشفت أنه بقدر ما يمكن أن يكون مثل هذا النشاط اغترابا واستمناءا جسديا، (كما تصورت فى الخارج)  قد يكون إبداعا وتفجرا فكريا. فى الحالة الأولى قد تزداد وأنت تعدو وحدة واغترابا، وفى الثانية قد تنبض إحساسا واقترابا، وعرفت أن الفروق المحتملة لا تكمن  فى نوع النشاط نفسه، وإنما فى طبيعة التوجه الباعث إليه، ومدى السماح المتضمن فيه، ومعنى التناغم المحتمل إلى ما بعده،

 اخترقت من خلال هذا النشاط المتكامل طبقات من وعيى لم أكن أحلم باكتشافها وأنا فى كامل يقظتى فى الوضع جالسا على مكتب، وحين كنت أستحم فى عرقى وأنا أجرى، كنت أشعر باقترابى أكثر فأكثر من ربى وكونى.

ثم خطر ببالى ـ بعد صعوبة معينة مع مريضة لم تستجب للأساليب العلاجية التقليدية ـ أن هذا النشاط قد يفيدها، وقد كان. كانت مصابة بهوس دورى يجعلها تسلك سلوكا جنسيا بلا كف أصلا كل عام بضعة أسابيع، ولم نرد أن نكتمها فقط بالمهدئات بل تحايلنا على أن نقلب هذا النشاط إلى بسط بالجرى وسطنا ومعها، وبالتالى أن نحتوى هذا البسط الدورى فيما يبنى، وليس فى النكوص الخطر، وقد نجحت المحاولة وهى الآن زوجة فاضلة نسمع عنها أخبارا طيبة بين الحين والحين.

ثم جربت ذلك بعد ذلك فى مرضى آخرين.  فأنجز الجرى ما وعد فى كثير من الحالات، فكان هذا بداية الممارسة المنتظمة لعلاج  “الجرى فى جماعة”، وهو نشاط غير الجرى المنفرد تماما ، ثم تطور الأمر إلى تكامل نشاطات جماعية معا أثناء الجرى حين يتناوَبَ الصمت (الجماعى) مع الرقص (الهرولة)، مع التسبيح، مع الحمد، المهم فى كل ذلك أنى تعلمت كيف أحذَرُ من الجرى التنافسى، الجرى للسباق، الجرى للتفوق، الجرى الاستمنائى، فكل هذه قيم فاسدة امتلأت بها حياتهم بشكل لايبرر التقليد لكننا يمكن أن نستوعب ما يفعلون لضيف إليه ما يحييه ويناسبنا.

تأكدت من هذه المحاولات ما تعلمته من غيرها : إن الحكم على شئ دون تجربته هو حكم ناقص، كما أن تعميم الحكم خطر أى خطر، وحين بدأت موجة الدعاية المضادة ضد هذا النشاط بالمبالغة فى ذكر مضاعفاته، تصورت أن الدافع إليها هو شركات الكحول والسجائر والأدوية (فالجرى يقلل استهلاك كل هذا) وحين ذكرت ذلك الاحتمال لابنى الأكبر (وهو يعدو معى أحيانا) قال لى،إن جرْينا ليس مثل جريهم، فمثلا هم لا يتمايلون حمداً لله معاً مثلما نفعل مع مرضانا ومع أنفسنا أثناء الجرى،فالجرى المتناغم والتكاملى هو نقيض الجرى المتحوصل الذاتوى.

نكتشف ونحن فى غابة بولوينا، أنا ومنى السعيد، أننا وصلنا بسرعة الى بحيرة الغابة، فنلتفت وراءنا فلا نعثر على بقية المجموعة على أثر، فنستدير ونواصل الجرى إليهم غير عابئين بالرذاذ الذى بدأ يتساقط، غير خائفين من الوابل المحتمل انهماره فى أى لحظة ـ ونصحبهم إلى البحيرة، ونستأجر المراكب مع بعض دهشة المسئول عن التأجير، ولا ينزل غيرنا تحت هذا المطر إلى التجديف بالبحيرة، فنشعر أننا امتلكناها دون غيرنا مما سمح لنا أن نغنى، ونكبـّر، ونحمد، ونهلل، فما زلنا فى أىام العيد، ثم نتقاذف المياه بسن المجاديف وكأن المطر المستمر لا يكفينا، فنضيف إليها مياه صفق المجاديف لسطح البحيرة، وتذكرنى حركة المجاديف بطبيعة التواصل بين شقى الحركة، بين الكمون والبسط، بين القبض والانفراج، بين الذات والناس، بين الهمس والحديث الصارخ.

………………

………………

ونواصل الأسبوع القادم  استكمال الفصل الثانى من الترحال الثانى“ويا ليتنى أستطيب العمى” 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *