نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 22-5-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6108
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الثانى
ويا ليتنى أستطيب العمى! (2)
………………
………………
7 سبتمبر 1984 (عدنا لأيام السفر)
كنا قد اتفقنا على أن يكون اليوم هو يومٌ حُر، يفعل فيه من يشاء ما يشاء، فانطلق الأولاد مع أمهم، وبقيت أتمتع بحريتى المزعومة، وإذا بى أكتشف أن هذا الزعم بالحرية الانسحابية، هو ـ أيضا ـ من ضمن الخداعات الأساسية التى تلوح بها “الوحدة”. أغلب من يعرفوننى، أو قل يعاشروننى يتصورون ـ فيما يشبه الاتهام ـ أنى عاشق للوحدة، مفضل لها عن أى صحبة مهما أبديت غير ذلك. أكاد أصدق ما يروْن، فكم أتصور أنى أريد أن “أكِنّ” بعض الوقت، أو طول الوقت، فيبدو ذلك وكأنى أفضّل أن أكون “وحدى”، وما هو كذلك تماما، ذلك أنه حين يقفل الواحد منا أبواب مُثيرات الخارج فهو لا يعيش وحدته أو عزلته، بل هو يفتح الأبواب فى ذات اللحظة لساكنى الداخل، يتحركون ليؤنسوه، ويؤنسهم، فأىن الوحدة.
تركنى الأولاد مع زحام الداخل وظاهر الوحدة فما كدت أستشعر نفسى معى، حتى تبينت أنى لست كذلك، فاليوم هو الجمعة، وأنا حريص دائما على صلاة الجمعة فى جامع باريس بالذات مثلما كنت أفعل منذ خمسة عشر عاما، حيث كنت أذهب بانتظام باحثا عن ملامح إسلامٍ لم يعد له ملامح، مكررا محاولاتى ـ بوعى فاتر ـ لتوطيد أواصر الانتماء إلى أهل دينى. ورغم الإحباط المتكرر فإنى مازلت أصرعلى “بعثِ ما”، يؤكد لى حقى فى التمسك بفطرتى ـ دينى الحنيف، أفعل ذلك رغم إصرارهم على غير ذلك، الخيار المطروح هو إما أن أتبع تفسيرهم المقولب المتجمد، وإما أن أجمح سائبا شاطحا مغرورا، وأنا أبداً: لا أستطيع لا هذا ولا ذاك.
ثم تذكرت أن اليوم هو أيضا موعد “غداء العمل” أو “دعوة التعارف” مع الجانب الفرنسى ـ تلك المناسبة التى دعانى للمشاركة فيها الأستاذ محمد حلمى شاهين وهو الذى زرته أمس الأول فى فندقه بشارع ريفولى ـ فطردتُ عنى أى أمل فى استراحة منفردة، وقلت يبدو أن هذا اليوم ليس يومى ولاهو “يوم حر” ولا يحزنون.
أديت صلاة الجمعة فى جامع باريس بنفس الطريقة، وبنفس الدوافع، وبنفس الاحتجاج لما أصاب جوهر ما أُنزل على نبينا الأمى، فقلب نبض إيماننا الى هذه الرتابة المملة، التى تـُــلقَى فى خطب الجمعة فى تـكرار منفر. كان صوت الخطيب يأتينى ممدودا وكأنه ينطق اللغة العربية بلهجة فرنسيةِ أهل الجنوب الغربى فى مقاطعات “الباسك”. أنا لم أفهم أبدا سببا لكل هذا “الزعيق” الذى يلجأ اليه هؤلاء الخطباء، ولم أفهم أيضا سر هذا التمايل فى غير نشوه، فلا زعيقهم يوقظ الوعى، ولا حتى يخدّره، ولا تنغيمهم يطرب السامع أو يشجيه، فماذا لو تكلموا مثل سائر البشر: أبسط، وأوضح، وأقرب، وأسهل، مهتدين طول الوقت بثقة اليقين لا بعـلو النبرة، وبوضوح الفطرة لا بتهييج النعرة، وقد تيقنت من قديم أن الحاجز الذى بينى وبين خطيب جامع باريس ليس مرده فقط إلى اللهجة المطاطة وصعوبة المتابعة، وإنما هو يرجع أساسا الى قِدَم المحتوى واغتراب الرسالة التى يريد توصيلها، إن كان يريد توصيل شئ أصلا، كنت أجد نفس الحاجز فى مساجدنا فى بلدنا رغم وضوح اللغة وسطوع البيان (أحيانا)، حتى أنى رحت أفضل أخيرا أن أحرم نفسى من ثواب حضور الخطبة فى مقابل ألا تصرفنى الخطبة عن علاقتى البسيطة والمباشرة بفطرتى التى فطرنى الله عليها، وحاجتى الملحة إلى مجاورة الناس البسطاء من أهل دينى فى صف واحد بحثا عن توجه واحد، وباستثناء فترة الاخوان المسلمين فى صدر شبابى حيث كان بعض خطباء الجماعة ينجح فى أن يربط بين ما هو ديننا، وما هو فعلنا، وما هو يومنا، وما هو انتماؤنا السياسى وجهادنا الوطنى (مثل سعيد رمضان أو محمد الغزالى…الخ) باستثناء هذه الفترة أنا لم أتصالح مع أغلب خطباء الجمعة ممن يستهينون بفطرتنا وذكائنا جميعا، وفى تصورى أنه لم يبق من الخطب الدينية إلا خطابة رسمية مأجورة أو خائفة أو تافهة، ثم على الجانب الآخر: خطابة عمياء مندفعة متعصبة مهيّجة، وأنا لم يعد انتمائى الأوسع يطيق الأولى فلست فى مدرسة للتربية الفكرية ، كما لم يعد وعيى المُسامح يحتمل الثانية، حيث أنى على يقين يرجح أنى لو لم أولد مسلما لعجزت أن أكون مسلما بسبب هؤلاء. مازالت هذه العبادة الأسبوعية تمثل لى أملا فى مشاركة، وحرصا على جماعة، وإصرارا على فطرة نقية مهما طُمست بفعل الخوف أو التعصب، يتأكد ذلك أكثر فأكثر وأنا فى الغربة. لم أجد أبدا ما أريد، لكن الأمل لا ينقطع.
ثم أنتقل من الاغتراب فى مسجد باريس الى الغربة فى وليمة عـِلية القوم من الفرنسيين فى مطعم فى الحى السادس عشر على ما أذكر (زمالك باريس!)، وكان علىّ أن أمر بالفندق الذى ينزل فيه الأستاذ الدكتور حلمى شاهين الذى تفضل بدعوتى الى ما دُعى اليه، وجدته فى انتظارى فى بهو الفندق الفخم، ثم تهبط زوجته الفاضلة لتلحق بنا، والاثنان يتكلمان الفرنسية معا كأهـلها ـ وربما أحسن! ـ يتكلمانها معا فى غير وجود فرنسيين، أما أنا فقد رحت أشاركهما الإيماء والرد بالعربية كلما فهمت شيئا، ويتركنا الأستاذ الدكتور الشيخ ليتكلم هاتفيا، ثم ينبه رجل الاستقبال إلى مكاننا حيث ننتظر، فظللنا “نتجاذب أطراف الحديث”، ولأول مرة أفهم هذا التعبير فهما جميلا مناسبا، فنحن، فى مثل هذه المقابلات الفخمة والمحسوبة، لا نتحدث، لا نغوص إلى وسط الحديث ولا نلامس بدنه، ولكننا ـ بالكاد ـ نتجاذب أطرافه، يا حلاوة!! هكذا يكون التعامل الرقيق، الراقى، المتحضر، والحر، ولكن المأزق عندى، أنى آخذ المسألة جدا معظم الوقت، وأتصور أن “الحديث” لكى يكون حديثا، لا ينفع أن نكتفى بلمس أطرافه، الحديث فعلٌ مقتحِم، الحديث معنى فحل، الحديث…،
أطرد هذه الخواطر بعد أن كدت أقترب منها معـلنا بعضها، فيلتقط مضيفى رائحة ما عرجتُ إليه دون تفصيل، فيترفق بى، ويمتدح بعض ما ينـشر لى أحيانا فى الصحف المصرية، وهو أقل الأمور دلالة على ما هو أنا، فأحمد الله أن ثمة شيئا يقدمنى إليه متجاوزا الأطراف، فأنتهز الفرصة بفضل تفضله الدمث لأكسر حدة بَكَمِى الذى يبهتنى حين أواجه بالمحتوى والطريقة التى يمضون بها أوقات الانتظار هذه.
يدخل علينا فى بهو استقبال الفندق وجيه من الوجهاء، ويسأل فى لطف عن الأستاذ الدكتور، ويقول فى همس مسموع (كأنه يلمس هو الآخر طرف الحديث حتى دون أن يجذبه) أن السيارة تنتظرنا فى الخارج، وينصرف متقهقرا فى رقصة بالية متسقة، فأخذت أتتبع خطواته الرشيقة وهو يتسحب مائلا، ثم ينطلق بعوده السمهرى (أى والله: السمهرى!!) إلى الخارج، فيتمهل السيد الأستاذ الدكتورحلمى شاهين، وتستأذن زوجته لتأتى بمعطفها (أو ما شابه) ثم تعود ليصحبانى إلى الخارج، وأنا أتمنى أن يجدّ ما يحول دون استمرار كل هذا، وأتوجس حرجا أكبر فى المجتمع الفرنسى الذى ينتظرنى، فإذا كنت لا أقدر على متابعة لغة مضيفىّ الفرنسية، وهما المصريان لحما ودما، فماذا سأفعل مع عـِلية القوم من الفرنجة وأنا المدعو بصفتى أمثـّل ـ كما ذكر لى الداعى ـ جانبا من الهيئة الطبية المصرية؟ فدعوت بالستر وأقدمتُ أكثر، وما أن لَمَحَنا “السمهرى” حتى اسمَهَـرّ أكثر، ثم انطلق يفتح باب السيارة للسيدة، ثم للسيد بجوارها، ثم لى بجواره، وجعلت أتأمل هذا “الوجيه” الوسيم، مثل نجم سينمائى أبهى من محمود يس ومصطفى فهمى (الآن) ومن كمال الشناوى وأنور وجدى (زمان) ـ كيف يكون هذا الوجيه مجرد “شوفير”؟ (فمثل هذا الفتى لا يصح أن يقال له “سائق” فضلا عن “سواق” فلزم التعريب) ـ ثم إننا ذهبنا إلى المطعم الفخم، فقابلنا واحدا باشا جدا لكنّه أىضا يقوم بخدمتنا، فى الأغلب، بدا لى أنه إما رئيس الوزراء أو عميد الأطباء أو ـ على الأقل ـ رئيس مجلس إدارة المطعم، فأخذت عيناى تدوران فى المكان تبحث عن مطعم مثل المطاعم فأعجز أن أجد موائد أو كراسى تطمئننى، فليس إلا صالة رحبة، وأركان جميلة، ويتقدمنا هذا “الرئيس الجليل” ليعرج بنا إلى جناح على ناحية، فنجد فى استقبالنا بعض علية القوم من الداعين، فأبلع ريقى، وأتقدم معهم الى حجرة خالية تماما إلا من منضدة عريضة عليها دوارق وزجاجات مخلتف ألوان ما بها، وكئوس، والجميع وقوف فى غاية الأناقة، والمدنية، والفرنسية، ومثل ذلك، ولا أحد منهم يبحث بناظريه عن مقعد أو منضدة مثلما أفعل، قلت لنفسى ـ مكررا ـ سوف تنتهى على خير حتما، مادامت عقارب الثوانى لا تكف عن الدوران فلكل شئ نهاية. وبدا المضيفون (الأكثر عددا من الضيوف) بالاحتفاء والتحية، و “ماذا تشرب”، و “أيها تفضل”، وأُسقط فى يدى، ولكن السيدة الفاضلة حرم أستاذنا الدكتور، طلبت عصير طماطم، فأنقذتنى اذ تبعتها حرفيا حذوك الكأس بالكأس، وجعلت أرشف العصير ببطء مجتهدا وأنا أتمتم بما لا أميز، وأرفع حاجبىّ، وأحنى هامتى، وأردد ـ كما سبق أن أشرت ـ الى أنه “نعم”، “مؤكد”، “موافق”، “لا يا شيخ؟” وهى كلمات تصلح لكل المواقف، ويمشى بها الحال، وخاصة إذا نُطقت بلهجة باريسية حذقتُها من أيام حرج زمان ـ لكن الموقف يتأزم حين أفاجآ بسؤال محدد، يحتاج الى إجابة محددة، ولاتنفع فى ذلك إيماءة بلا أو نعم، فأنطلق باللغة “الانجلو فرنسية” خالطا الألفاظ وتصاريف الأفعال كيفما اتفق، وأتعجب حين يفهمنى سامعى بالرغم منى، فلعله يقرأ تعبير الوجه، أو على الأقل يرجح حسن نيتى ويقدر إخلاصى فى المحاولة، وتمر الفقرة، لكن تطول الوقفة، وتـُملأ الكئوس من جديد حتى تصورت أننا سنتغذى عصير طماطم صرف.
بينما أنا أدعو الله أن تمر المسألة على خير، إذا بى أشعر بدوخة أو ما شابه، وكأن الأرض التى أقف عليها ترتفع بى إلى أعلى، فرعبت ثم ظننت بعقلى وتوازنى الظنون، ثم رجحت أن عصير الطماطم هذا لم يكن “بريئا”، تماما، فرغم طعمه الطماطمى إلا أنه من المحتمل أن يكون ذلك من الألعاب الكحولية المستحدثة، فجعلت أنظر الى السيدة الفاضلة شريكتى فى الطماطم فوجدتها ـ كما وجدت الجميع!! ـ يرتفعون معى إلى أعلى، قلت “حصل” أخيرا، ولم أجرؤ أن أسأل، أو أمسك بأى شىء، أو أى أحد، وجعلت أنظر إلى السقف خوفا من ارتطامنا به ونحن نرتفع، فاذا بالمسافة بيننا وبينه لا تضيق أصلا، ثم خيل إلى أن الحجرة تتسع من أحد جوانبها فتظهر فجأة مائدة مستديرة وحولها مقاعد وفوقها أطباق، الله!!َ الله!! أهى المعجزة؟ أم السكر البيّن؟ وأخيرا، وبضربة إفاقة لطيفة أدركتُ ما حدث: فقد كنا حتى تلك اللحظة فى حجرة التعارف وقوفا مع كئوس “فتح الشهية” (من قال لهم أن شهيتنا كانت مغلقة؟) وهذه الحجرة يفصلها عن حجرة المائدة المخصصة للضيوف المتميزين ـ أمثالنا ـ حائط متحرك، ينزل إلى تحت بفعل زرٍّ ما، فى مكان ما، (توموتيكى) يفعلها بلا ضجيج ولا إنذار، وبنزوله المتسحب هذا نشعر بدورنا أننا نرتفع إلى أعلى فى الاتجاه المعاكس، يا حلاوة، مثل زمان، فلا أنا فقدت اتزانى، ولا عصير الطماطم كان منكرا خفيا. عادت لى نفس الصورة التى ذكرتها سالفا فى محطة سكك حديد طنطا حين كنا نتصور أن القطار الذى نركبه يسير الى الخلف ثم نكتشف بعد لحظات أننا مازلنا وقوفا كما نحن.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم استكمال الفصل الثانى من الترحال الثانى: “ويا ليتنى أستطيب العمى”!
كلما قرأتها اشعر بأنها كتبت اليوم فقط