ترحالات يحيى الرخاوى: الترحال الثانى: “الموت والحنين” الفصل الأول “الموت: ذلك الشعر الآخر” (11)
نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 8-5-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6094
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل الأول
(الفصل السابع: من الترحالات الثلاثة) (11)
الموت: ذلك الشعر الآخر
“يختل مجرى العمر والأمل،
(لماذا ياصديقى؟؟)
دائرةٌ ملتاثة:
(عَجـّـلتَ بالنهاية؟)
تقضمُ فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام الجائعة،
(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)
ثارت أجنة الخلايا تصطرع“.
تعملقتْ فطرتك الأبيةْ
لم ترعَ عهداً، لا، ولمّا تنتظر
لــمْ نـقوَ بعدُ ياصديقى
(فيم العجالة والسام؟)
تقفز خلف الحدِّ، بعد العدِّ، تقتحمْ
ترجع نحو عشها اليمامةْ.
الأربعاء: 29 يناير 1986
الساعة الخامسة وعشر دقائق (صباحا)
…………..
…………….
أتصور أن المسئول أساسا عن ضيق الأفق وعتمة الوعى وعلو الصوت الأجوف هو الحكم الشمولى بوجهيه الناصرى والساداتى، وأنه لا بديل لاستعادة شباب الأمة فكرا ومواجهة وإبداعا إلا بالحوار الحقيقى وإنهاء كل ما هو جيش، أو تهديد بجيش، سواء كان جيش يوليو أم جيش أكتوبر أم الجيش الأحمر أم جيش الخلاص الدينى الاغترابى أم الجيش دون جيش.
وندخل فيلم أكاديمية البوليس، ونضحك بما يفرّج عنا آثار مقالب النصب. أحب أن يكون التافه تافها جدا، إسماعيل يس فى الجيش/ فى البحرية. ما أعظم تفاهة ذلك.
وفى طريق عودتنا نتواعد أن يكون باكر (الأحد) هو يوم حر تماما، ثم بعد ذلك نتفق، فقد كنت محتاجا إلى بعض الانفراد بنفسى لأتنفس ببطء، وأرى…
(استطراد أثناء الكتابة. القاهرة فى: الخميس 13/2/1986)
مرت على ابنتى صباحا بعد أن كنت قد ألغيت سفرا مصلحيا إلى بلدتى الأصلية فى ريفنا الذى لم يعد ريفاً، ألغيت سفرى هذا محتجا على نفسى رافضا أن أُستدرَجَ حتى فى أىام العطَل، فأستعملُنى “هكذا”طول الوقت لصالح من لم يعودوا فى حاجة إلىّ.
قالت ابنتى هذه ـ تستأذننى ـ أنها ذاهبة إلى بور سعيد، فقرفت كالعادة، فأنا أكره هذه الرحلة البورسعيدية مهما حسبوا اقتصادياتها، ودرسوا جدواها، وأنا لم أذهب إلى بورسعيد ـ كما ذكرتِ ـ منذ أربع وعشرين سنة (1962)، كنت أعمل طبيبا ممارسا فى شركة للبترول، وذهبت هناك لاقوم بكشف دورى أو ما شابه، وأذكر أنى لم أنشئ علاقة معها،أبدا، ثم حدث الاحتلال فانقبضتُ، ثم الجلاء الجزئى، فرفضتُ، وقلت لا يضحكون علىّ أولاد الكلب هؤلاء فيوهمونى بالجلاء وهم على مرمى البصر، ثم جلوا عن سيناء كلها، فلم يعد لى حجة، لكنى لم أستطع الذهاب مع أسرتى أبدا، كنت أراها أراها ثقبا فى اقتصاد بلدى، يتمتع فيه بالإعفاء ذوو الحيثية والتصريحات الخاصة، وبالتهريب ذوو الذكاء والطرق الخاصة، قلت لا، لكنها “لا” خائبة لا تعود إلا على شخصى، أما بقية أسرتى ـ على الرغم من أنهم مازالوا ضمن مسئوليتى ـ فلم أستطع أن أتدخل فى حركتهم، فأصبحتُ رغما عنى مساهما فيما أكره.
المهم ان ابنتى ستسافر، وأنى سأوافق، ويتكررالمضض، والحمد لله على كل حال،
وبديهى أن أمها ـ على الأقل ـ ستسافر معها، فهذه هى هوايتها المفضلة، لكن ابنتى فاجأتنى أنها ستسافر وحدها، أو مع بنت طيبة تساعدنا فى أمر بيتنا، فتعجبت ولم أعلن رفضى صراحة لكنّها التقطته، فعرضتْ علىّ أن أسافر معها، وهى تعلم ردى فرحت ألتمس عذرا جديدا ثانويا، فادعيت ُ أنى موافق على اصطحابها لو أنها غيرت الرداء الذى ترتديه، وأنا واثق أنها لن تفعل، ولن تصدق، فأنا أعلم عناد أولادى جميعا. وإذا بى أجدها تعود إلى بعد خمس دقائق وقد فعلتها، غيرت الرداء كما طلبتٌ، فوقعتُ فى الفخ، ولم أملك التراجع، ورطنى حذق مناورتى.
وهكذا وجدت نفسى، ـ فى بور سعيد بعد ربع قرن من المقاطعة، وذلك بسبب زلة لسان خرجت منى لست أدرى متى. كنت مشغولا وأنا أرد!!!!
دخلنا إلى بورسعيد بسهولة استغربتها، لم يكن واضحا عندى أن الخروج غير الدخول، وكنت أحسب أن ما أسمع من قصص هى تجرى على”الحدود” ذهابا وجيئة طول الوقت، وما أن سرنا بضعة أمتار داخل الحدود حتى انقبض قلبى وجعلت أسأل المارة ـ مداعبا ابنتى ـ عن الطريق إلى القاهرة، بدلا من سؤالى عن وسط البلد فى بورسعيد ـ فحذّرتنى إبنتى وكأنها تصدق رغبتى فى العودة الفورية من أن الخروج قد يستغرق ساعة أو أكثر حتى لو أثبتنا لهم أننا دخلنا من خمس دقائق، حتى لو استدرت فى نفس لحظة دخولى.
سألت عن مخبأ أختبئ فيه بعيدا عن السوق والتسويق حتى تنتهى ابنتى ورفيقتها من انتهاك حرمة اقتصادنا، فقالت لى أنها سمعت أنه يوجد على البحر ما هو “هلتون” قلت علىّ به فأى هلتون عندى يمثل لى مكانا مناسبا حيث تطيب لى القراءة والكتابة (وكنت قد أحضرت معى كالعادة خمسة كتب ورزمة ورق وسبعة أقلام!!!) ـ ولكنى قبل أن أنسحب قلت “أجاملها”، وأشترى شىئا، أى شىء، فدخلتُ معها محل أربطة عنق، وتشاجرت مع البائعة المحجبة فى نصف دقيقة، (دون سبب فى الأغلب) وانصرفت دون أن أشترى شيئا، ثم اشتريتُ حزاما قبيحا من على الرصيف، أخزى به عين السفرية (ولم يكن مقاسى، وكأن للأحزمة مقاسات ـ لم يكن ينقصه طبعا إلا ثقب إضافى) ومضيت على قدمى وحدى نحو الشاطئ أسأل عن هذا الهلتون الذى سمعتْ به ابنتى، وكأنى سائح كاره متورط، حتى وصلت، فاذا بهذا الهلتون ليس فندقا وانما سوقا تجارية تتربص بى شخصيا،، فتماديت فى السؤال حتى أشفقَ على شاب صغير وقال: تقصد هيلتون ايتاب، وقلت: نعم ـ أى شىء، وطبعا كنت أتصور أنه لا يوجد شئ اسمه هيلتون ايتاب، إما هيلتون وإما ايتاب.
فى مقهى الفندق (ايتاب) وجدتنى أجلس فى مكان شديد الجمال، وليس معى جنس مخلوق، إذ لابد ان جميع زوار بورسعيد فى حالة شراء مزمنة، فجلست محتميا بوحدتى وجمال المكان، وأخرجت أوراقى وكتبى وأقلامى، وقلت لهم ( لأوراقى، كتابى، أقلامى): يختارنى من يشاء منكم.
لم يكن قد مضى على وداع سعيد سوى أسبوعين، واذا بالهدوء والجمال يُحضرانه ماثلا أمامى يودع الحياة ببطء راسخ، لم أفهم ما هى علاقة الموت بالجمال، ولم أستطع أن أتبين من الذى يعاند، الموت زاحفا أم الحياة تستغيث، تحدثت قبلا عن علاقة الشعر بالسفر، لم أكن أعرف أن الشعر يعرض خدماته حين تفرض نفسها ما نسميها تناقضات، وهى ليست كذلك، لا يوجد تناقض بين الموت والحياة، بين الموت والجمال، كيف ؟ لا أعرف، لكننى لم أجد أى مبرر للاستغراب ناهيك عن الرفض.
السفر الذى يعرّى ويحاور يقارب أطراف ما نسميه تناقضا، يحرك دوائر الحياة نحو بعضها وهو يحرّك الناس نحو بعضهم البعض ليتعارفوا،
يهيج الشعر دون استئذان، بغض النظر عن مستواه من مثلى، لم أكن أتصور أنه حتى هذا السفر إلى بور سعيد، كالمقبوض علىّ رهن التحقيق، يمكن أن يصاحبه هذا التحريك الخاص الذى يجمع الصور إلى بعضها يحاول أن يصنع منها لحنا ما.
كنت أحسب أنى خاصمت الشعر الى غير عودة، بعد أن أكدوا لى أنى طرقت بابه عن طريق الخطأ، وبغير داع، أنا لا أكتب شعرا. الأدوات تفرض نفسها كل فيما يخصصه، ليس لهذه الصور اسم آخر، المكاشفة!! ابتسم صديقى وهو يجز على أسنانه ليخفى عنى الألم، دمعتْ عيناى ، تذكرتُ نقده لرثائه ونحن فى مستشفى ماس جنرال فى بوسطن، لم أكن أقرأ عليه شعرى أبدا، لم يكن يحب إلا الشعر العمودى .بورسعيد، لم أزرها ثانية حتى الآن (أكتوبر 2000).أسميتها :”حتى إذا بلغت التراقى”.
ـ 1 ـ
وصاحبى.
يقولُها، يعيدُها، يصارعُ الألمْ.
بلهاء ترعى فى سرابِ الخلـدِ تُفرزُ العدمْ.
ـ 2 ـ
وصاحبى
يلهثُ خلفَ الموتِ، قَبْل الموتِ، جاء الموتُ،
يسكبُ الحياَةَ قطرةً فقطرهْ،
فتطفحُ البثورُ فوقَ صفحة الكلامْ
أقلِّـب الديوان بَحْثاً عن قصيدةٍ مُهْترئهْ
وصاحبى: يروِّضُ الهواءَ،
ينتظمْ.
ـ 3 ـ
مَرْحى انطلاَقةَ التَّحَررِ
مَرْحَى استدارةَ الزَمنْ
[العارُ ياسيدتى الكريمة،
العارُ ألاّ تختفى الأبدانُ.
أجسادُنا تكبّل الإلهامَ،
تبررُ العفنْ]
ـ 4 ـ
يُجمّد الجليدُ ذرّاتِ المناوبهْ
لم يبقَ إلاّ ما تبقّى.
ياصاحبى:
لا تطفئ الشموعَ قَبْل الرَّجْفةَِ المسافَِرةْ.
-5-
الآن؟
ليس الآن، حتّى الآن،
قبل الآن،
يا نبضها:
حقيقة الرَّانِ المكثَّفِ فوق قلب الخائبين العزَّلِ.
ـ 6 ـ
يشهقُ فى رتابةْ.
سرٌ توارى فى لحَاء الشْوكَةِ المزدهرهْ
يحنو عليها ـ تنطلقْ،
يزفِـرُهَا
يطلّ من ورائها الوعدُ الذى لمّآ يعِدْ.
تراقصَ الضياءُ فى تسابق التتابعِ،
تُسلِّمُ الَعلَمْ
-7-
..لا سَهْلَ إلا ما جعلتَ منه سهلاَ.
[شيخٌ إذا ما لبس الدِّرْعَ حَرَنْ،
سهلٌ لمنْ سَاَهلَ، حزْنْ للحزِنْ]
هل يا تـُـرى تَسَـلـَّمَ القيادةْ؟
هل يا تُرى قد أصبحا فى واحدٍ،
إن قال: كُـنْ، يكنْ؟
ـ 8 ـ
دائرةٌ حائرةٌ،
تقولُ؟ لا تقولُ؟ تَعْتَملْ
[لم أبدُ يوما، لاَ، ولمّا أستَتِـرْ]
يا بيضةَ الحَجَرْ
لا تَفْقِسِى الكآبهْ
ـ 9 ـ
يعاودُ الشهيقَ، والزفيرُ يرتقبْ
ليست كتابةٌ كما الحسابْ
فالقولُ: للأحلامِ، لِلْجُنُونِ، للسَّرابِ، للعبثْ.
القول: للعذراءِ، باحتْ؟ لم تَبُحْ.
لا، ليس سرّا أننا لمّا نكن أبدا سوى ما لم نكُـنْهُ.
-10-
ماءٌ تَزَمْزَمَ، يقصفُ القَلمْ:
لبّيكَ، مرسِل اللواقحْ،
لبّيكَ، ينزلُ المطرْ،
لبّيكَ، وعىُ الناسِ يزدهرْ
لبّيكَ، ريحُك الذرات والتخلّق الضفيرهْ
لبّيكَ، عادتْ نحو عُشِّهاَ اليمامهْ،
لبّيكَ، أفلتَتْ من قبضةِ العَدَمْ.
ـ 11 ـ
إيقاعها انتظمْ.
الحمدُ للَّذهاب للمجيِء للدوائرِ النغمْ
تَسَّـاقطُ المشاعلْ
تحشرجَتْ فى سَـمّ خيطٍ أفرزتهُ دورة المشانقِ
يشحذُ سنَّ شوكةِ المحاوَلهْ
خيّبتُ ظنّ الموتِ،
لم أستترْ
لم أمْحُ نبَضَ الحُلَمِ.
سارعتُ أنفخُ المقولةَ القديمةْ،
دارتْ تئنُّ
ترَّددَ الصَّدَى.
ـ 12 ـ
هذا، ولمّا كان يوُمُها بلا غدِ،
وريحُها بلا اتجّاَهْ،
مزّقتُ ثوبَ الشِّعْرِ،
تراجعتْ قصيدةٌ وليدةٌ، وأسبلتْ جفونَها
فى وَعْدِها القتيلْ
ـ 13 ـ
فى كلِّ وِجهةٍ نبى.
أجاءها المخاض عند جذع نخلة.
يعاِودُ الشهيقُ، يُشهد الزهورَ والحقبْ:
{“ما مضّنِى سوى الزَّفير ينتحبْ،
ما هدَّ ظهرى غيرُ طوْطَم الَبكَمْ.}
ـ 14 ـ
غَافَلَنَا َ بلا ودَاعْ
أَرْخَى سُدُولَـهَا.
نظر إلىّ سعيدٌ معاتبا، لكنّه لم يتخل عن ابتسامته، على الرغم من هجمة الألم. لم أعرف ماذا اقترفتُ حتى يعاتبنى، لكننى تأكدت من أن عنده حق، أهْمَلَ القصيدة تماما. لم يطلب منى أن أقرأها عليه مثلما فعل فى بوسطن حين رثيته حيا. هل مات؟ أنا أيضا لم أجرؤ أن أقرأها بعد أن انتهيتُ منها، لم أعُدْ لها إلا الآن (أكتوبر 2000).
ألتفت حولى فاذا بالمكان نصف ممتلئ فقد قاربت الساعة الثانية، ألمح على مائدة بعيدة، يسمح لى وضعها أن أرى متحلقيها دون أن يرونى، ألمح زملاء بالكلية ورؤساء بالجامعة من كبار القوم جاؤوا يتناولون غداء ويتبادلون كلاما، فأجدنى رافضا تماما، رافضا ماذا؟ لم أحدد.
أنقل بصرى بينهم وبين القصيدة. أقيس المسافة فأجد أنه يستحيل…، يستحيل، يستحيل ماذا؟ يستحيل والسلام.
أنظر للقصيدة وأقول لها: اخترتِ وقت وموقع ولادتك قبل أن يحضروا، وإلا فما كان لك أن ترى النور أبدا. بحثت عن ابتسامة سعيد، لم أجدها، لم أجده. هل مات؟
قبل انصرافهم، يلمحنى أقرب واحد منهم، شخص مهم جدا، (ش.م.ج.) شمجىُّ ، يأتى للسلام، و يصمم أن يواعدنى لأغادر معهم المدينة ليمررونى من الجمرك دون رسوم. رسوم؟ رسوم ماذا؟ هل يأخذون رسوما على كتابة الشعر؟
تلكزنى القصيدة فى وعيى.
تدور أمامى دائرة قبيحة بين التهرب من الضرائب، والشطارة فى الجمارك، ثم إعلانات بأسمائهم فى قوائم تسديد ديون مصر..!!! وقوائم بترشيحات الحزب الوطنى.
أتعجب كيف يكون الموت بكل هذا الحضور، وكيف نتبادل المواعظ فى المآتم، لكننا نبدأ النسيان ونحن نقبـّـل بعضنا البعض مع انصرافنا من السرادق، أو قبل ذلك بقليل.
تحضر ابنتى محملة بأقل القليل، ربما خوفا منى، ونمر من الجمرك فيما يقل عن نصف ساعة فتفرح ابنتى بسلامتها حيث كانت تتصور أننا لو تأخرنا أكثر فقد أقتلها ـ جاءت سليمة.
أشعر ان السفر هو السفر، وأسأل نفسى:
إذن لمَ لا أكمل هذه الترحالات بالحديث عن تجوالى فى ربوع بلدنا ؟
فهمت أدونيس وهو يقول فى رحيل صلاح عبد الصبور:
“الموت ! ذلك الشعر الآخر !!
أردد مكملا :
“ذلك الترحال الآخر”.
هل الشعر إلا ترحال؟
……….
……….
نواصل الأسبوع القادم الفصل الثانى من الترحال الثانى: (الفصل الثامن: من الترحالات الثلاثة)
ويا ليتنى أستطيب العمى !
2024-05-08