نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 19-2-2025
السنة الثامنة عشر
العدد: 6381
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الثانى: “الموت والحنين”[1]
الفصل الخامس
الفصل المفقود: (2)
أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة (11)
من مذكرات 3 يوليو 1950
معذرة لقد نسيت أن أعلق على الحرب الكورية!!!
20 فبراير 1954
قال والدى ونحن نتكلم فى مقدار نصيب الإنسان من الجهد ومعنى الاعتماد على اللّه:
يا إبنى إنى حين أقول أسلمت وجهى لله كل صلاة لا أقولها وأستسلم،
وإنما أقولها لأقبل النتائج، وأتعلّم.
(عود على بدء) 27 / 8 / 1986
“ديكى ديكى، أنت صديقى أنت رفيق البيت، رفيقى
صِح فى الدار، أيقظ جارى، واشرب ماءً من إبريقى“.
هنا فى لبتوكاريا كنت أنا الجار الذى يوقظه الديك، وأنا الصديق معا،
صديق عن بـُعد كالعادة، حتى مع هذا الديك أصادقه عن بعد!!!
8 اغسطس 1987
………….
…………
سوف أكتفى بإشارات محددة لمقتطفات دالّة، كتبتها فيما مضى من واقع الخبرة المهنية المباشرة (فى العلاج الجمعى خاصة، دون استثناء مجموعة المواجهة مع الأصدقاء والزملاء غير المرضى) ولم تكن فكرة السيرة الذاتية ولا أدب المواجهة أو المكاشفة مطروحة أصلا.
إن مجرد وجود الركن كملجأ وملاذ فى وعى الفرد (وعيى) ليس ضد العلاقة بالآخر، بل إنه قد يشجّع على هذه العلاقة، لكنّ المبالغة فى الـلجوء إليه، أو تصور السكون فيه يجعل الحركة مكبّلة والعلاقة ناقصة،
الركن المرفوض هو الذى يغرى بالانسحاب تبريرا لعدم المخاطرة برؤية الآخر “كما هو”، وتحمّل الاختلاف ، فالاستمرار، أما الركن النابض فهو رحمّ حى يحتوى ويدفئ لتفريخ البيض حتى يفقس، ثم يطلق الطير الجديد.
إن اختيار الإقدام فى كل جولة (من جولات حركية الداخل<=> الخارج) يجعل كل جولة بمثابة فرصة حرة جديدة لترسيخ العلاقة مع بعضنا البعض بطريقة موضوعية، أما أن يكون الركن ملاذا ضد الاقتراب، فهذا ما وصفتُـه ورفضته:
“الركن بتاعى متحضّر
حارجعله واسيبكم
ساعتِنَ حسِّــــبْكم”.. ..
الفرق بين حركية برنامج الدخول <=> الخروج إلى الركن، وبين الانسحاب فور التهديد بالاقتراب هو فرق جوهرى،
وطوال هذا الترحال الذى عايشته ثم كتبته اكتشفت أنه بقدر ما كان الحنين إلى الركن ملحّا فإنه لم يكن هربا من التهديد بعلاقة ما، بقدرما كان أملا فى إعادة ولادة، حركية برنامج الدخول<=> الخروج التى تجعل الشد إلى الخلف هو تقوية لانطلاق إلى الأمامم، كما تجعل الكمون هو إعداد جيّد “للفقس”.
لكن ثمة خدعة إذا رسخ اليقين بأن أى علاقة هى محكومة بالانسحاب فى النهاية.
إن هذا قد يسمح بعمل علاقات ليست علاقات طالما كتب عليها الانتهاء قبل أن تبدأ. إلى الركن، فإن ذلك يسهل علاقات ليست علاقات.
حين أشعر أن الركن جاهز فى وعيى منذالبداية بهذه الصورة قبل أن أبدأ، فلا علاقة.
وما دام الركن متحضر هنا تحت الأرض
راح انط لفوقْ،
وأعدّى الطوقْ
وارضى القرداتى!!
يسترزق.
فهو النكوص بلا رجعة بديلا عن تواصل كاذب
فينك يامّه
نفسى اتكوّم جوّاكى تانى
بطنك يامّه أأمن واشرف من حركاتهم
وإلا : فهو الموت
وان ما قدرتشْ، يبقى ماليّاش إلا التربةْ.
والله تراب القبر دا أرحم من ألعابهم.
نفس الصورة تنتهى بتصوير موقع آخر يقوم مقام الركن.
هو موقع للفرجة يسمح بعلاقة يمكن أن تسمى :علاقة “القناصة” (إخطَف واهرَبْ) حيث لا يصبح الركن رحما محتويا، ولا قبرا خافيا، وإنما موقف متفرج على مسافة، يسمح بعلاقات سريعة خاطفة
قاعد ساكت تحت سرير الستْ.
حاخطف حتة نظرةْ، أوحبة حبْ.
واجرى آكلها لوحدى،
تحت الكرسى المِشْ باينْ.
لست متأكدا: هل سبقت رؤيتى العلمية (من منطلق فينومينولوجى) ممارستى الذاتية لأكتشف نفسى بالنظر فى ذاتى بعد عشرين عاما من تسجيلها علما وشعرا؟
فى متن “دراسة فى علم السيكوباثولوجى، ظهر هذا الجذب إلى الركن تحت أسماء أخرى، مثل موضوعات ” السرداب” أو ” القوقعة المسحورة” أو الكفن، أو الضياع
وحتى لا يخرج هذا الاستطراد من “أدب المكاشفة” إلى تنظير علمى ليس هذا موقعه، سوف أقصر الاقتطاف بعد ذلك على مجرد ذكر بعض مقاطع تشير إلى هذه البدائل التى تعبّر عن هذا الحنين (وإن كان يظهر هنا أكثر فى صورته المرضية التى لا يمكن فصلها عن تجلياته فى وظيفته على طريق النمو).
فى مقطوعة “جلد بالمقلوب” فى ديوان “سراللعبة” وصفٌ لاستعمال فرط الحساسية من الاقتراب فى تبرير الهرب من العلاقة ،هذا الوصف هو متعلق بالموقف البارنوى (وهو وصف لمرحلة طبيعية فى النمو ،هل تذكر الربط بين ركن بلدة “بارليا” ولفظ “بارانويا” كزلّة قلم مقصودة؟)
ألبس جلدى بالمقلوب
فلينزف إذ تقتربوا
ولتنزعجوا
لأواصل هربى فى سرداب الظلمة
نحو القوقعة المسحورة.. .
وفى نفس المقطوعة يَظهر برنامج الداخل<=> الخارج، لكن فى صورته المرضية:
لكن بالله عليكم، ماذايغرينى فى جوف الكهف
وصقيع الوحدة يعنى الموت؟
لكن الموت الواحد أمر حتمى ومقدر
أمّا فى بستان الحب،
فالخطر الأكبر أن تنسونى فى الظل
ألا يغمرنى دفء الشمس،
أويأكل برعم روحى دود الخوف
فتموت الورقة، فى الكفن الأخضر، لم تتفتح
هذا موت أبشع
لا.. . لاتقتربوا.
جلدى بالمقلوب،
و القوعقة المسحورة تحمينى منكم
24/7/2000
تأكدت مما خطر ببالى من صعوبة فصل الخاص عن العام وخاصة لمن حاول محاولتى فى مثل مهنتى،
كذلك تحددت معالم ما يسمّى “المنهج الفينومينولوجى” الذى يتم فيه عرض الذات باعتبارها الموضوع دون أن تمّحى فيه، كما يتم عرض الموضوع من واقع تأثيره فى الذات دون إسقاط.
أيضا ازددت اقتناعا أن من أراد أن يتعرف على ذات شخص، عليه أن يبحث فى بعض تفعيلاته وتجلياته التى لم يقصد بها سيرة أو تعرية، جنبا إلى جنب مع الاستماع لبعض بوحه.
أضف إلى ذلك أن السيرة كما أحاول تقديمها : هى حضور ٌ”الآن”، وليست حكى ما سبق ذكريات أم تخيلات!!.
حين اتضحت هذه الرؤى (الفروض) الثلاثة، وأنا أقرأ الاستشهادات الاستطرادية السابقة، رجحت عندى أهمية تقديم أبعاد سبق رصدها دون أن تكون سيرة ذاتية أصلا، وأحسب أن ذلك يمكن أن يكمل الصورة بشكل أو بآخر.
فكان الترحال الثالث (أنظربعد).
عودة إلىينا ونحن فى طريقنا من ليبتوكاريا إلى أثينا فبيرياس “بيريه”، فمصر.
1/9/1986
نفس القبضة التى كانت تمسك بقلبى، تبدأ صباح كل جمعة أيام المدرسة الابتدائية، بل إنها كانت تبدأ مساء كل خميس بعد الفسحة مباشرة، كنا نغنى ولو صامتين: “يا برميل الزفت يا يوم السبت على الصبيان، يا منقوع النفط يا يوم السبت على الصبيان”.
نعم اشتقت إلى مصر، وأريد أن أرجع، ينتظرنى هناك كل ما يحول بينى وبينى، ومع ذلك فأنا مشتاق وبى لوعة. قلت فأعيد: إن من أعظم ما فى الحياة أن تخترق ماتخاف وأن تتقدم نحو ما ترفض، وأن تقتحم ما لا تريد. وبغير ذلك فلا بد أن تشك فى اختياراتك السهلة.
عودة أخرى غير عودتى من رحلة الأولاد منذ عامين.
أنجزْت فى هذه الرحلة إنجازا لا أظن أنه كان يمكن أن يتم بهذه الصورة وأنا مثقل بكل ما هو ليس أنا فى مصر،
فخور أنا بما أنجزت، والله وحده يعلم أين سوف يقع من الناس، و.. و من التاريخ!!!
تعرفت على زوجتى أفضل بعد ثلث قرن من العشرة الصعبة، هذه السيدة، تتحملنى تحملا لا أقدره حق قدره. عدنا إلى الفندق هو هو، لا يوجد سرّيخ ابن يومين. الشاطئ خال تماما.
بيريه (بيرياس) تضرب تقلب.
الرحلة من بيرية إلى الإسكندرية تستغرق يوما وبعض يوم،
الأولاد ينتظروننا فى الميناء مثلما انتظرونا فى الرحلة السابقة،
لكن لكل مذاق طعمه الخاص.
أفتقد فرحة الصحبة، وشوقى للقائهم،
وأيضا:
أمتلئ بفخر الإنجاز وسماح الصحبة.
………………
………………
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل الخامس: (الفصل المفقود: 2) (الفصل الحادى عشر: من الترحالات الثلاثة) “أوراق قديمة، وأوراق مبعثرة” (11)
____________________
[1] – ترحالات يحيى الرخاوى: (2000) وتتضمن الترحالات: (الترحال الأول: “الناس والطريق”) و(الترحال الثانى: “الموت والحنين”) و(الترحال الثالث: “ذكر ما لا ينقال”) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والترحالات موجودة فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.