نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 20-9-2023
السنة السابعة عشر
العدد: 5863
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]
الفصل الرابع: الحافة والبحر (8)
… ثم تبينت أن سيدنا بوذا هو الجالس وكرشه أمامه،
غريبة، دون صليب أو مصلوب، فهمتُ- دون سؤال طبعاً،
يا شطارتى!! – أن ثمة جالية هناك من البوذيين، أو أن
عدوى شرق أقصية خاصة أصابت بعض أهل هذه القرية،
وهات يا حرية، وهات يا بوذية، ولا أحد أحسن من أحد،
وكل شئ- وكل دين- جائز فى الولايات المتحدة (ما دمت
بعيدا عن السلطة يا أبا على، دع الناس تتسلّ)
الجمعة 13 أغسطس 1985
الموتيل المتواضع الذى نزلنا فيه، زوجتى وأنا. هو عبارة عن حديقة رحبة، على طرفها بناية شديدة النظافة والنظام، والغرفة منسقة رحبة، بها مطبخ وحمام، وملحق صغير لاستضافة صغيرين مع زيادة طفيفة فى قيمة تأجيرالحجرة. تأتى صاحبة الموتيل، وهى صنف ثالث من النساء، لاهى المرأة المهرة فى مخيم الألبادورو، ولاهى المرأة البومة (الـذكر) فى المخيم المنفَى الاختيارى فى أعلى الجبل على الكورنيش الأعظم فى “بو ليو”، بل هى امرأة أقرب إلى العوانس رغم حضور زوجها الملازِم. كان زوجها رائحا غادياً طول الوقت، لا يكف عن الكلام واللف حولها، وكأنه يريد أن يتخلص منها بإغراقها فى بحر من حديثه المتصل وخطواته القلقة. ولكنه -فى النهاية – لا يبدو إلا مثل الفأر الواثق من نهايته بين أنياب هذه المرأة القط (العانس!!).
جاءتنى هذه المرأة متباطئة، لتعطينى مفتاحا آخر للحجرة، وجعلتْ تتلكأ وكأنها رجعت فى كلامها، وكنت قد سألتها عن مخيم أقرب قد ينتقل إليه أولادى السبعة، وسألتنى القطة العانس هل هم بالفعل سبعة؟ فأكدت لها الرقم، فعادت تقول: وهل سيزورونك؟ فقلت: هذا بديهى، فمن يحتاج منهم شيئا منى سوف يحضر كما يريد، وهنا ظهر ما وراء تلكئها، فانطلقت تضع الشروط، وأنه ممنوع عليهم استعمال السرير الإضافى، والحمام، وممنوع الصياح أو استعمال أراجيح الحديقة، وممنوع، وممنوع. فأخذتْ جرعة الاحترام التى عشتها يوما وبعض يوم فى ذلك الفندق المتحضر (فريزيا). فى “البقعة الجميلة” أخذت تتلاشى رويدا رويدا حتى ذابت عن آخرها، وبصعوية شديدة لملمت نفسى، وأفهمتها بحسم صارم أن كل هذا مفروغ منه، وأنى لا أسمح لها بافتراض ما لم يحدث، وبين الساكن وصاحب الخان: يفتح الله، “والمشروطة محطوطة”، فإذا حدث ما يخالف العقد فسأترك لها المكان والنقود غير آسف دون تنبيه منها، ولم ينفعنى اعتذارها بعد ذلك مباشرة، ولا بعد يومين وقد جاءت تتعجب كيف يزورنى طفلاى الأصغران دون ضجة أو صوت أصلا، وأخذت تسألنى كيف ربيتهما هكذا، ولم أرد عليها أصلا، وبعد إلحاح أفهمتها أنى حكيت لهما ببساطة قلة ذوقها معى، فأعطياها هذا الدرس فجعلتْ تصفنا بأننا أناس متحضرون، وأننا نمثل تربية “زمان” ولسنا مثل فرنسيىَّ الجنوب الذين يأتون من مارسيليا، فيقلبون لها الدنيا بأطفالهم الذين لا يستجيبون لأى نصيحة أو توجيه، وقلت لنفسى: ما هذا كله ياولد؟ لعله خيراً.
لا أخفى فرحتى بهذه الشهادة التى تتفق مع حساسيتى الشديدة ضد ما يسمى بالتربية الحديثة المستوردة، التى جعلت الطفولة مرتعا لكل شىء، وللا شىء. كنت دائما أشك فى جدوى الفرص التى يأخذها الطفل الغربى بلا حدود، ثم مساره ونهايته أخلاقيا وإدمانيا وانعزاليا فى كثير من الأحيان بما لا يتفق مع كل ما نال من رعاية وفرص،
جاءت “القطة العانس” فى اليوم التالى تصبّح على العبد بالله برقّة أخجلتنى من تسميتها بهذا الاسم القاسى، ثم بدأت بالقول بأن ثم “خطأ فى الحساب”، فنظرتُ إلى زوجتى وكأنى أقول لها: ألم أقل لك إن هذا الثمن المتواضع غير معقول؛ ظنا منى أن الخطأ كان فى أننا ندفع أقل مما ينبغى، فأبديتُ استعدادى لدفع الفرق حتى لا أبعد عن الأولاد أكثر، لكنها أخبرتنى أنه ابتداء من الغد (أول سبتمبر) ستكون الغرفة أرخص (حوالى 20%) لأننا سنكون فى نهاية الموسم. ورغم نفورى الجاهز من المرأة القط، فقد احترمت أمانتها وكيف أنها تخفض الأجرة متطوعة؛ لأن الأصول هى الأصول، والقانون هو القانون، وتمنيت ألا ننسى هذه اللمسات الدالة فى معاملتنا لضيوفنا السواح…، وعلى الرغم من كل ذلك، فقد ظلت هذه المرأة لا تنزل لى من زور طول الإقامة..، كله إلا قلة الاحترام يا ناس. نعم كله إلا قلة الاحترام. ويا حبذا لو سمعتنى حكومتنا السنية.
أنا أعتبر الاحترام والمسئولية هما أرقى ما توصل إليه الكائن البشرى من رقى العواطف، دعك من حكاية الحب، والحنان، والشفقة والحرية وما شابه، كل ذلك لا يقارن بروعة “الاحترام”… وشرف المسئولية، هذا شئ آخر..هذا هو ما يبنى الأمم والناس والله العظيم يا حضرة الحكومة، بل إنى أضعهما كأساس وجدانى معرفى لما يميز التكوين البشرى.
“روعة الاحترام” وشرف المسئولية، هذان هما العاطفتان البشريتان الجديرتان بتمييز الإنسان، تمييزنا.
لا يا شيخ!!؟ ربك يستر.
كان لبعد الأولاد عنا فضل فى مزيد من الاستقلال بما يسمح بالحركة التلقائية منا. فما أن انتصف النهار حتى تسحبتُ إلى الشاطئ المجاور أستكشف وأرى،
اتجهت كما أشاروا علىّ بعد السؤال، بعد بضع خطوات كدت أتعثر فى سور جميل من خشب جميل، فترددت، وتصورت أنه شاطئ خاص، لكن، أبدا. دخلت وأنا أتلفت، وفجأة وجدت نفسى فى وسطهم تماما كما كنت أسمع، وأكثر، وكدت أطأطئ رأسى فزعا وخجلا، ولكن كيف سأغفر لنفسى لو أنى تركت هذه الفرصة تتسرب من بين أصابع وعىى. ثم ألست أدعى أنى المغامر الدائم فى اتجاه “ما ليس كذلك”.. وهذا هو أمام عينى. وتقدمتُ وأخذت أنظر فى الوجوه أولا، وجوه الرجال أولا ياسيدى، وعيون الرجال. فعجبت أشد العجب أنها ليست كعيونى، وحاولتُ ـ من باب التيقن- من فرضٍٍ خطر ببالى: رحت أجرى التجربة فأوصل خطا مستقيما- أو منقطا- بين اتجاه عينىْ أى رجل مثلى، وبين الهدف الذى فى ذهنى. لم يتحقق الفرض. كل الرجال ينظرون إلى حيث يقع نظرهم، لا أكثر، ولاأحول(!) .لماذا أنا أنظر إلى حيث لا ينظرون؟ إما أنهم ليسوا رجالا، وإما أنى مثل الذى عمره لم يأكل لحما، فلما رأى ما رأى..، حدث لعيونه هذا الحوَل الخاص
ما باليد حيلة. لا بد أن أكمل لأعرف ماذا يجرى مما لا أعرف، وكيف تحول هؤلاء الرجال إلى ما يجعل عيونهم عادية فى هذه الأحوال غير العادية، إلى هنا… والأمر لم يتعد اتجاهات العيون. كما أنى، على الرغم من المحاولات الصادقة، لم أستطع غض البصر؛ لأننى كلما غضضت بصرى، (أى أنزلته إلى الوضع هابطا) وقع على “نفس الشىء” أسفل مستوى النظر وهو ملقى “هكذا” فى أشد حالات التمام أو حسب الحالة. ولم يكن ثمَّ احتمال أن أغمض عينى بالكامل. وقد أحاطنى هذا الـ “هكذا” من كل جانب. وهنا زاد تصميمى على عدم الانسحاب. وحتى لو أردتُ الانسحاب مغمضا فإنى سوف أتعثر فى أجساد حية واعية ناطقة عارية حرة، بل “محترمة” فى أغلب الأٍحوال، وساعتها، لا أحد يدرى ماذا يمكن أن يصيبنى من عواقب غير حضارية، أو ماقد أجره على أمّتى من صفات ليس لها ذنب فيها. فرحت أقرص فخذى لأتذكر أننى لست “أمة المصريين” ولا “أمة لا إله إلا الله” ولا “أمة البشر”، أنا لا أمثل أحدا فى هذا الموقف ـ أو أى موقف ـ إلا شخصى، ولم ينفع القرص. فمازلت أعانى من هذه الأوهام بشكل أو بآخر.
قلت: أسهل طرق الهرب هو الاقتحام السريع إلى داخل البحر، وبما أنى لا أعوم، فثمة فرصة للنظر تجاه بلدنا العفيفة الشريفة على الشاطئ الآخر وبالتلى أحوّل النظر مل دام غض البصر لم ينفع. ثم إنه لو تحوّل البصر بالرغم منى نحو الشاطئ الأوربى، فثمة فرصة للغطس مغمض العينين ، أسلم شىء. وفعلا، فاستطعت أن أتوقف وأهدئ أفكارى لأستعيد ما جرى لى بالسرعة الأبطأ.
رويدا رويدا، زالت حدة المفاجأة، وظل الشعور بأن هذا الذى رأيت هو أقل جمالا مما يحسبون، ويحسبن، فلماذا كل هذا العرى، كان أكثر من نصف النساء على الشاطئ قد تخلصن من أى شىء، أى شىء، يستر نصفهم الأعلى، وجعلت أرى أُمًّا لأطفال ثلاثة، وهى تلاعبهم قرب الشاطىء، وتنحنى عليهم، وهى “كذلك”، وزوجها بجوارها، وتذكرت جاموسة جسيمة فى حظيرتنا، تعمل نفس العمل بنفس الطبيعة مع ابنتها، دون أن تثير الفحل إلا إذا “طلبت”، وكنت أفرح من منظر هذه الجاموسه.. تلحس ابنها الرضيع أثناء رضاعته فى حنو بالغ، إلا أن هؤلاء الأطفال الثلاثة- هنا- كانوا قد تخطوا سن الرضاعة. ومع ذلك فثمَّ وجه شبه،
أقول: رويدا، رويدا، رويدا (لاحظ: زادت واحدة) كدت أنسى تماما كل هذا الجديد، لأنهن، على ما يبدو، قد نسينه أصلا، ولأن كل من حولى قد نسيه أيضا. وتعجبت- بصراحة- لسرعة تأقلمى هكذا فى أقل من نصف ساعة، حتى رحت أتصور أن هذا الذى يجرى حولى هو أمر طبيعى”لهم” وأن مجرد ستر بعض الأجزاء لا تفرق معهم، بل لعل العكس هو الصحيح. لأن زيف “روافع الثدى” يغطى آثار الزمن “وسوء الإستعمال”، فيضاعف الخداع!!.
ما كدت أعتاد كل ذلك حتى وجدت مقلتى عينى قد استقرتا فى محجريهما مثل سائر الرجال، اللهم إلا عن فتاة فى عز الشباب، قد استلقت فى عز الشمس، على عز الزلط المتعدد أشكاله، فى جمال فائق (أعنى الزلط، ومن عليه) جعلت هذه الفتاة – دون مناسبة عامة !!- تعبث بحلمتىْ ثدييها الواحدة تلو الأخرى، وهنا قلت “لا”. قد يكون عرى النصف الأعلى طبيعيا حسب عاداتهم، وحتى النصف الأسفل، خلِّها تكمل، وقد يكون هذا أقرب إلى جاموستنا الجميلة وابنتها الحلوة، ولكنى لم أر جاموستنا تعبث هذا العبث المثير والخاص جدا “بموضع حساس” مثل هذا، وقلت فى نفسى: الذى يتعرى، يتعرى، هو حر، أما هذا” الاستلذاذ الذاتى الثديى العلنى”، فقد تعدى الحدود، لكن.. أنا مالى؟، واحدة مبسوطة من بعض جسدها الفائر إلى هذه الدرجة، تشبع به.
استدرتُ إلى اتساع البحر الكبير وعاودت حوارى معه، ذلك الحوار الذى يتواصل كل صيف، نفس بحر بلدنا، نفس الرائحة، ونفس الريح، ونفس الهمس، ونفس التحريك، ونسيت الأرضية البشرية خلفى، واتجهت إلى التقاء الأفق بسطح الماء، فجعلت أكمل ما قد بدأتـُه من سنين، وأنا أعتبر العجز عن العوم – جدا- مزية لمن ينزل مثلى ليتعرف على أصله، لا ليمرن عضلاته،
كلما نزلت إلى البحر… أخذت أنسحب إلى نهايته، على حد حدسى، لا على حد معلوماتى الجغرافية، فأتراجع فيه إليه، وأترجّـح معه به، وأستشعـر الفرق الجوهرى بين حمام السباحة الغريب عن كيانى، وبين هذا الكيان الحى النابض، وأعتقد أن جُماع حركة الموج من تحت السطح، مع رائحة الحياة الخاصة المنبعثة منه، هو ما يحرك فىّ ذلك البعث القديم لموج داخلى يمتد إلى تاريخ لا أعلمه، وبصراحة، فأنا إذا سئلت من أنت، وإلى ماذا تنتمى؟ ومن أين؟ لما استطعت الإجابة طبعا. لكن إن كان للحركة هوية، وكان للحياة رائحة، وكان للسعى نظام ، فهو إجابتى آملا أن أنتظم موجة فى الكون الزاخر، ومن لم يستطع أن يلتقطنى هكذا فليتصور مجازا نغمة تبحث عن مكانها فى اللحن الأكبر”، لا.. لستُ كذلك، الحقيقة أبلغ من المجاز،
أقرأ مؤخرا (مع مراجعة هذه الطبعة الثانية) فى كتاب” المعنى والأسطورة” (فراس السواح) فأستشعر كيف كان الآلهة”يمزجون أمواههم معا”. الماء بداخلنا يتحرّك ونحن لا ندرى بما يولّده فينا باستمرار.
…………………..
………………….
ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم
ـــــــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
نص الكلام مش فهماه بس ضحكت😂❤️