نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 13-9-2023
السنة السابعة عشر
العدد: 5856
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق” [1]
الفصل الرابع: الحافة والبحر (7)
… ثم تبينت أن سيدنا بوذا هو الجالس وكرشه أمامه،
غريبة، دون صليب أو مصلوب، فهمتُ- دون سؤال طبعاً،
يا شطارتى!! – أن ثمة جالية هناك من البوذيين، أو أن
عدوى شرق أقصية خاصة أصابت بعض أهل هذه القرية،
وهات يا حرية، وهات يا بوذية، ولا أحد أحسن من أحد،
وكل شئ- وكل دين- جائز فى الولايات المتحدة (ما دمت
بعيدا عن السلطة يا أبا على، دع الناس تتسلّ)
الخميس 30 أغسطس 1984
…………………
………………..
الوجوه هنا فى هذا المخيم تبدو من بـُعد، كأنها مستسلٍمة، فياترى ماذا بعد هذا الإستسلام؟. عودة إلى الكفاح واللغة العادية ؟. أم إلى مزيد من القوقعة والثقافة المتعالية؟. لست أدرى، حلال عليهم ما اختاروه لأنفسهم، ولكن نحن؟. مالنا نحن؟.
انصرفت المرأة البومة (الباشجاويش معا)، ما أبعدها عن المرأة المهرة فى مخيم فينسيا !!!انصرفت دون أن تنتظر نتيجة مداولاتنا التى انتهت قبل أن تبدأ. قفلنا عائدين، بعد أن أشاحت بيدها، ونحن نسألها عن مخيم آخر. أشاحت بيدهاوهى تدمدم، ليس مثل رجل مخيم سان ماركو فى فينيسيا، بمعنى: اللى يـّدور يلاقى. هذه الإشاحة كانت بمعنى، “اتفلقوا”، ولكن أحد الأولاد الذين يلتقطون الفرنسية أسرع، قال إنها تشير إلى أن ثمة مخيمات على الجانب الآخر من “نيس” فى اتجاه البحر، ويبدو أن من يريد البحر عادة ليس له فى الجبل، وكل فولة تبحث عن كيالها، هذه ليست فولتنا ولا نحن كيالوها. من فرط حرّية الحواجات يستجيب الواحد منهم إلى ماتطلب دون دخول فى أى تفاصيل، هذا هو ما فعله رجل الفندق (سعادة البيه) وصاحبه الشاب المتطوع. حين سألنا عن مخيم فى “بوليو” دلاّنا على مخيم فى “بوليو” ولم يفهم أى منهما أننا نقصد أى مخيم، فى أى مكان فى المنطقة، و”نيس” ليست بعيدة، والمخيمات ممتدة على طول الشاطىء، لكن الحق حق، أجابونا على قدر سؤالنا، هنا الكلام يقاس بالمسطرة ياعم صلاح يا جاهين، ولولا هذه الدقة وعدم التقريب الذى يتميز به الفرنجة لما أتيحت لنا هذه الفرصة للمشاهدة الجبلية من أعلى الكورنيش الأعظم، وجاء امتعاض المرأة البومة من فرحتنا باحتمال وجود مخيم على الشاطئ متناسبا مع خيبتنا المفيدة، وكأنها تقول: إذا كنتم تسألون عن مخيم على شاطئ نيس فما الذى جاء بكم إلى هنا؟. (وكأنك تذهب إلى ملوى، وتسأل عن شاليه فى كنج ماريوط).
نزلنا من هذه المغامرة الخاصة جدا فى طريق شديدة الانحدار، ولكنها أكثر استقامة واتساعا لأنها متجهة إلى “نيس مباشرة”، عبر مرصد نيس، وقلنا جميعا.. حقيقة، “إن من لايعرفك يجهلك”. لو كنا نعرف، كنا ذهبنا إلى نيس، وهى قريبة جدا، أولا ثم أخذنا هذه الطريق المختصرة!! لكن الله سلم.
اخترقنا نيس دون توقف، فإذا بها مدينة كبيرة، مزدحمة، قوية، نظيفة، لم أحبها لكنى لم أكرهها، فظللت طوال إقامتى بالقرب منها أكتفى بعبورها.
أخذنا نسير على الطريق الوطنىة المحاذىة للشاطىء، نعم هذا هو الكورنيش كما أعرفه فى بلدى، جموع الناس كثيرة جدا، ولكن ثَمَّ مكاناً لكل واحد، بلا استثناء، والحر بدأ يهل، ولكن ثمة نسمات منعشة تخترق عباءته فتهفهفها وكأنها تعتذر عن هذا الحر. وكنا قد قررنا- زوجتى وأنا- أن نستمر ليلة أخرى فى نفس الفندق بعد أن يقيم الأولاد فى المعسكر، كنوع من تثبيت الخبرة، وحتى “نبر”” أنفسنا. فنحن من الشغالة، ولسنا عالة على أحد. أما هؤلاء الأولاد… فلابد أن تكون المسألة محسوبة، قبل أن يتعودوا على الأخذ بلا مقابل، ثم إن فى ذلك ما يشير إلى رغبتنا فى الاستقلال عن الأولاد. تلك الرغبة التى ليس لها أدنى فرصة للنمو فى مجتمعنا. نحن نسمع عادة عن رغبة الأولاد فى الاستقلال عن ذويهم، ومقاومة الأهل لذلك، مع أن المفروض أن يترقب الأهل تلك الفرصة التى يستعيدون فيها استقلالهم عن عبوديتهم لهؤلاء الضيوف المستغلين من الأولاد العالة. ولا يعنى هذا تشجيعا لتفكك أسرى أو تشبُّها بأسرمفككة فى الغرب، وإنما هو تنبيه إلى أن قدرا هائلا من الضياع والجشع الذى يصيب الكبار، ويستعبدهم عندنا، إنما يتم تحت دعاوى “تأمين الأولاد”.
وجدنا المخيم فى بلدة وسط بين نيس وكان، اسمها فيل نيف Ville Neuve (أى: المدينة الجديدة). كان مخيما على مسافة خطوات من شارع الكورنيش، وهو دائرى منتظم، يتميز بأشجاره التى تحدد مربعات محددة، لكل نزيل به مربع مستقل بأشجاره المحيطة. وانتقينا مربعا خاليا، ثم ذهبنا إلى الإدارة على الجانب الآخر من الشارع حيث بعض الحجرات أشبه بموتيلات إضافية، وأمام باب الإدارة وجدنا رجلا فتيا فى غاية الصحة والاحمرار. وزوجته (فى الأغلب) تقف أمامه وهى فى نفس غاية الصحة والاحمرار، وبينهما أكل متنوع فى غاية الصحة والاحمرار (أيضا)، وهات يا عشق فيما يفعلون باستغراق رائع يحسدان عليه “بالهناء والشفاء” (بلا حسد والله العظيم!!)- وسألنا عن المدير ونحن نأسف لقطع هذا الاستغراق الفمّى المنهمك، فتحقق ظننا وقال الرجل الفتى الصحيح المُلتذ، وفمه ملئ بالهناء والشفاء: “أنا هو…”، ثم أضاف وهو يمضغ قضمة محترمة ” فيما بعد.. فيما بعد”، قالها غير ناظر إلينا حتى لا تنقطع متعة استغراقه فى مهمته الرائعة، فجعلت أبتعد وأنا أفكر.
أثناء انتظارى لهما حتى ينتهيا من هذه المعركة منتصرين بالسلامة على هذه الأحياء المائية (على قدر ظنى)…جعلت أتعجب من علاقة إنسان هذا العصر بالأكل أصلا.. والمسألة تختلف عندنا عن عندهم، لكن ثَمَّ وجه شبه، ذلك أنى أحسب أن أغلبنا لايأكل، وإنما ينقل الطعام من خارجٍ إلى داخلْ، حتى لو استطعمناه، فهو لا يزال منفصلا عنا. فبعضنا يستطعم الطعام (إذا وجده)، ولكن ليس بالمعنى الحسى الحَمْدى البسيط (حمد الله وتقبيل اللقمة – النعمة)، وإنما بمعنى الانتصار الافتراسى الغنائمى، وأحيانا يخيل إلى أن الأكل لا يُستعمل للاستكفاء بالطاقة عن طريق التمثيل الغذائى، وإنما هو يستعمل لإقناع من يمارسه، هكذا، بأنه ما زال حيا.
بل إنى اكتشفت ذات مرة، وفجأة، أن الخوف من الموت جوعا، يكمن وراء كثير من نشاطاتنا عامة، ونشاطنا الغذائى بوجه خاص، ومهما كبرت أرقام البنوك، وأحجام الثلاجات، وأكوام المخزون، يظل هذا الخوف من” الموت جوعا” كامنا وراء كل التصرفات، ويمكن أن يرجع ذلك إلى تاريخ تطورنا أصلا، أو إلى أخطاء إرضاعنا أحيانا. وكثيرا ما أتساءل: هل يملك الرجل الغنى جدا معدتين”، حتى يملأ إحداهما، كما يملؤها الناس، ثم يتميز عنا بملء المعدة الأخرى بالأطعمة الخاصة السرية المشفّرة على أمثالى بأسماء عجيبة صعب حفظها. وحتى هذه الأطعمة” المشفّرة” مهما ارتفعت أثمانها، فلن تستطيع أن تؤكد لهذا الثرى تميزه النقدى عن طريق تميزه الفمّى الملتهِم”، فللأكل- كما للصبر- حدود، إذن ماذا؟. ولماذا؟. ويسرى هذا الخاطر قياسا على أغلب اللذات الحسية من جنس، وخدر الدفء والدعة… إلخ، فلكل هذه الملذات – وسبحان المانح المانع – حدود لا تتخطاها. فما معنى- إذن- التهام وامتلاك ما نطمع أن نتخطى به غير الممكن؟ وما معنى أن نظل نضيف كل ما عدا ذلك، إلى ما لايسع إلا ذلك؟
ولكن لابد أن للمسألة بعدا آخر… ولا أحسب أن مشكلة “قيمة الأكل ومعناه” هى مشكلة خاصة بطبقة دون طبقة، فاحترام اللقمة إذا سقطت على الأرض يبلغ حد التقديس. هى نعمة مقدسة لابد أن تـُرفع، وتقبّـل، وتلمِس الجبهة ثم توضع فى حنو، بعيدا عن أرجل الناس. كل هذا له مغزاه عند الغنى والفقير على حد سواء، واستشعار طعم الأكل من عدمه هو هو: سواء كان بصلة خضراء طازجة، أو عود سريس، أو كان كافيارا معتقا أو ضلع غزال.
تصورت مرة وأنا فى أمريكا أتابع أحجام الأجساد المفرطحة (النسائية خاصة، وهن لابسات الجينز والشورت بالذات) أنها ظاهرة تمثل أرضية تدهورية تكمل وتبرر ظاهرة “العدْو وحيدا”، فبالرغم من زعم أن هذا العدو يؤدى إلى النحافة، وأن الأكل يؤدى إلى البدانة، فهما وجهان لعملة واحدة، فكل منهما يشير إلى الاستغراق فى دائرة ذاتوية لا تتعدى حدود الجسد الذى تألّـه حتى راح أغلبهم يعبدونه مستقلا عن كلية الوجود، ولو رأيت انتشار الآيس كريم فى نيويورك وبوسطن (مثلا)، ثم محلات أدوات العدو وملابسه، إذن لتوقفت تتعجّب من قدر التلذذ بهذه المبردات وكأنك أمام جمهور من الأطفال المخدرين بأبسط أنواع الضحك على البطون…(فالعقول)، يفعل الناس ذلك معظم الوقت ثم يحمل الواحد منهم همّ التخلص من آثاره الدهنية المترسبة فى خلاياه بالعدو وما إليه وهو يتفنن فى اقتناء الأدوات اللازمة لذلك.
أتذكر معنى الحديث أو الأثر عن الرأى فى امرأة زنت وتصدّقت ، والرد على فعلتها هذه أنه يا ليتها ما زنت ولا تصدّقت، على نفس القياس يحضرنى التعقيب على إنسان معاصر (أمريكىّ المعاصرة) وقد أكل هكذا- ثم راح يجرى (هو وكلبه !!- المنظر هكذا أحسن) ، فيا ليته ما أكل وما جرى .
ونعزم الأولاد ليلا على محل للآيس كريم فى مقابل الفندق مباشرة، وحين تكون فى بو ليو، فلتفعل مثل البوليويين. يقوم بالخدمة فى هذا المحل شاب وفتاة فى منتهى النحافة الجميلة، والرقة، والمداعبة، وأيضا فى منتهى التقبيل المتكرر. آسف” دعنى أستعمل تعبيرا أدق هو “اللثم على الماشى”، بل لعله “اللثم ماشيا”،( هل تذكر فتى وفتاة بلغراد اللذان خففا غم “بعد ظهر يوم سبت حزين- الفصل الثانى؟) نعم هذا هو:”اللثم عالماشى”، فالولد يميل على البنت وهو يعد الأشياء وكأنه “يوشوشها” لكنه يلثمها، ثم يأخذ الصينية وعليها الطلبات ويمر من أمامها فبدل أن توسّع له، تحاوره بشفتيها، تلثمه، ثم تدعه يمضى، وهكذا طول الوقت، هات يا لثم، إى والله… ولا أستطيع أن أتقمص صبرهم على مجرد اللثم، ولكن يبدو أن الفرق بين “التقبيل الأعشى المغترب”، وبين هذا “اللثم ماشيا” هو مثل الفرق بين هذه الرشاقة والنحافة المتناسقة، وبين تنافر ردفين ضمهما جينز كالعباءة القديمة، يتأرجحان استهزاء بكل مقاييس التواجد البشرى المهذب.
يقدم لنا أحد العصفورين كتيب الطلبات المصوّر، وبه صور باهرة، فنشير إلى إحداها، فينبهنا الفتى “الكناريا” إلى أنها تكفى ثلاثة، قلنا: أوفر، وإذا به يأتى لنا “بطاجن” من البللور، وفيه كمية هائلة من هذا الذى كان ذا صورة جميلة، فنجد أنفسنا لا نستطيع جميعنا أن نأتى على ما فيه، تحدٍّ هذا أم كرم؟ أم خيبة بليغة؟
أتذكر- وأنا أمد يدى إلى داخل طاجن الأيس كريم، كيف كنت دائما أفضل أكل اللبن “الرائب” من الطاجن مباشرة، وكيف كنت أعب الشرش من حافته “وهو ينساب” ما بين القشدة واللبن ليحمى عينى ويرحمنى من الششم الأسبوعى ليلة الجمعة،
ولكن شتان…، فهذا الشئ الماثل أمامنا هنا لا يصلح إلا فى مزرعة لتسمين البشر… فى مشروع لإعاقة تفكيرهم بأثقال الدهن والجشع. لكن كيف تتناسب هذه المؤامرة مع احتفاظ هذين العصفورين اللذين يقدمانها برشاقتهما الرائعة؟ وقلت: إن الحرب خدعة، فقد يكون فى وجودهما فى هذا الموقع الحرِج، ما يطمئن الملتذين فميا إلى عدم السمنة بدليل أنهما غارقان فى وسط معمعة “الآيس كريم” شخصيا ومع ذلك فهما مازالا عصفورين يتلاثمان..، ونكتشف على الجانب الآخر من المطعم مرآة، بحجم المطعم، فنشاهد بشاعة نهمنا بطريقة متحدية، فنستعيذ بالله من ألم الرؤية، لا من جشع الالتهام،
ونوصّل الأولاد إلى المخيم بعد أن حجزنا فى موتيل قريب منهم، ونتركهم وهم يودعوننا ويرجون لنا إفطارا يعرفونه، طالبين منا أن نذكرهم بخير حينذاك، لأنهم راجعون إلى الحساء العظيم بكل تباديله وتوافيقه.
………..
………..
ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم
ـــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net