نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 6-9-2023
السنة السابعة عشر
العدد: 5849
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]
الفصل الرابع: الحافة والبحر (6)
… ثم تبينت أن سيدنا بوذا هو الجالس وكرشه أمامه،
غريبة، دون صليب أو مصلوب، فهمتُ- دون سؤال طبعاً،
يا شطارتى!! – أن ثمة جالية هناك من البوذيين، أو أن
عدوى شرق أقصية خاصة أصابت بعض أهل هذه القرية،
وهات يا حرية، وهات يا بوذية، ولا أحد أحسن من أحد،
وكل شئ- وكل دين- جائز فى الولايات المتحدة (ما دمت
بعيدا عن السلطة يا أبا على، دع الناس تتسلّ)
الخميس 30 أغسطس 1984
أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله.
والله زمان!. الماء الساخن والصابون، والحمام الخاص والمرآة. سبحان العاطى… وأهم من كل هذا، أن الإفطار ضمن حساب الليلة،فنجلس فى مطعم شديد الأناقة، قال ثلاثة نجوم قال!!. قل مائة، أو ألف نجمة، وشمس وقمران!!. نعم.. الأكل هو الأكل، فالإفطار الفرنسى ثابت كما برج إيفل، الأهلة (المشلتتة) (الكرواسان Croisson) والقهوة باللبن، والزبد بالمربى، ولكن ليس هذا هو المهم. المهم هو ما يصاحب ذلك من ترحيب دافئ واحترام “حضارى”، وأتأكد من تميز هذه المطاعم/الفنادق المتوسطة فى المدن المتوسطة، إنهم لا ينظرون إلى كل من هو عربى باعتباره “زكيبة” أوراق مالية، يعلوها مخ ماسح يساوى بين كل شئ وكل شىء، حتى يساوى بين النقود والويسكى والكباب، فجعلنا ننظر عبر الزجاج النظيف إلى المراكب الشراعية وغيرها، ونتمنى أن يطول الوقت على الرغم من اليقين بحتم الرحيل، فبمجرد أن ينتهى الإفطار سوف نشد الرحال. ويا “عالـِم”!!.
فى مكتب الاستقبال، ونحن نتمم الحسابات، تشجعنا فسألنا: “سعادة البيه”(راعى الفندق) عن مخيم فى هذه البقعة الجميلة فمط شفتيه معتذراً فى أدب جم، (دون نفخ للهواء كما اعتدت من الفرنسيين). وحين هممنا بالانصراف، إذا بشاب يقفز إلى وسط الحجرة دون أن نشعر كيف دخل وكأنه هبط من السقف. كان مليئا بالفتوة والسعادة، ففرح به “سعادة البيه” حتى حسبناه ابنه عاد بعد طول غربة، ولكنه أشار لنا بحماسة أن انظروا، هذا الصديق يمكن أن يكون دليلكم، وفعلا كان الشاب السعيد رحّالة، لكنه يبدو أنه فى حالة إقامة مؤقتة، فهو من “هنا”، وقد أجاب الشاب على سؤال “سعادة البيه”- منتعشا- عن أنّ ثَمَّ مخيماً “هنا”، “فعلا” على “الكورنيش الأعظم” (الأعلى)، قلنا: خيرا. وانتعش الشاب أكثر من انتعاشته الأولى، وأمسك ورقة وقلما وهات يا رسم، وخطوط، وأسهم، ولم ينقص الشرح إلا “مقياس الرسم”، حتى تكتمل الخريطة. وكل ما فهمته هو أنى سأظل ألف وأدور إلى أن “ألاقى إشارة”، وثمة “بتاع” آيس كريم:) دكانته على ناصية حارة (!!،إلى أن أصل إلى الكورنيش الكبير. وحين سألته إن كان مخيم الكورنيش هذا رخيصا: قال: جدا. فقلت له. وما ميزاته، قال منظر جميل!!. ثم أجاب فى بساطة: إنه مادامت بغيتى هى مخيم فى “بوليو”، فهذا هو المخيم الذى فى “بوليو”.ولم أتبين ما يعنى إلا فيما بعد.فرِحنا، وتوكلنا ونحن نردد:دى وصفة سهلة،دى وصفة، هايلة.
كما نزلنا متزحلقين، صعدنا نتحسس الطريق من الكورنيش الأسفل إلى الكورنيش الأوسط. نفس طريق الأمس الثعبانى الأملس. وكلما خلا الطريق من المارة والعربات، خيل إلينا أننا لا بد قد تـُهنا. وكلما سألنا أحد المارة، وأريناه خريطة الشاب المنتعش، نظر فى وجوهنا، ثم إلى السيارة، ثم إلى حمولتها الداخلية والخارجية، ورفع حاجبيه، وهز كتفيه، وقال بشكل أو بآخر، “نعم هذا هو الطريق ” ثم يضيف ما لا نفهم مغزاه فى حينه: “… ولكن”، ثم يمضى مهذبا ماطا شفتيه بصوت أو بغير صوت، دون أن يكمل، لكن ماذا… ياهذا؟. وأخيرا حن علينا أحدهم وقال: ولكن “صعب”. ثم تنهد وكرر “صعب جدا”، ويبدو أن الذين كانوا يتوقفون بعد “لكن…” كانوا لا يريدون أن يتدخلوا فى “حريتنا”، حتى لو كانت حريتنا هذه هى جهلنا، أو كانت هى التى ستذهب بنا فى “ستين داهية”. نحن أحرار فى بلد حر، يا ذا المقلب، نحن لم نتعوّد هذا يا جماعة، وابتدأ الفار يلعب فى عبى وعب الصحبة المستسلمة لقيادتى. قلت لهم هل سمع أحدكم من أى “مسئول” سألناه أن الطريق مسدودة، أو ممنوعة؟ قالوا: “لا” فقلت بعناد قديم يعرفونه: إذن، “فلا صعب إلا التراجع” .
مازلـت أتصور- كما أوضحت فى بداية هذا الفصل- أن هذا المبدأ هو الأساس الجوهرى الذى حدد خطوات حياتى، لذلك كانت انسحابات عبد الحكيم عامر وعبد الناصر سنة 1967، مهما زعمنا فى تبريرها، من أقسى ما عانيت فى تاريخ أمتى.
ومضيت أواصل قيادة العربة الطيبة بإصرار الحياة ذاتها، وجعل الطريق يصعد، يصّاعد، فيصعد، ليصّاعد من جديد، وهو يضيق، ويضيق، ثم يوصل إلى ما هو أضيق. لم يكن مثل كل الطرق السابقة؛ لأنه إذا اجتمع الضيق الشديد مع الإنحناء حتى الدوران، مع الصعود حتى الوقوف، فسبحان منقذ المعانـِد من غباء عناده، وهكذا انقلبت الطريقه الأفقىة رأسيا، والسيارة تكاد تقف على قدميها الخلفيتين، وكأنه لا تربطها بأرض الطريق إلا الجاذبية الأرضية، بقدر ما يـُربط رأس دبوس بسطح مغناطيس ضعيف لم يستطع أن يجذب طرف الدبوس الأبعد إلى التماس الملاصق، ولا أستطيع أن أنقل الفتيس إلا على “الأول”… وهات ياطلوع…. ولم يعد الرجوع اختيارا مطروحا أصلا، فلا مكان للانحراف المتأنى، ناهيك عن الاستدارة إلى الخلف، ولو لم يستجب الترس الأول للصعود بكل الحمولة، فسننهار لنرجع بظهرنا إلى حيث لا ندرى. واستعمال الفرامل محظور تماما فى مثل هذه المواقف يا بطل. وفجأة – فعلا فجأة- ينطلق الغناء من كل من فى السيارة، إلا أنا:
والنبى لاهِشـّهُ
يالعصفور.
وانكش له عشه
يالعصفور.
ولا أجد مناسبة، وأكاد أحتج فى سرى، هل هذا وقته؟. وأبحث عن أغنية أخرى معارضة قد تؤدى إلى التلطيف والطمأنينة، فلا تأتينى إلا أغنية أبعد ظاهريا، فلا أنطق بها أصلا. ولكنها تدور فى ذهنى عناداً فىما تقوله المجموعة. تقول الأغنية فى ذهنى:
حلفت ما البس حديدة
إلا ملاية جديدة
وأزور بيها سيدى إبراهيم
إلـلى بلاده بعيدة
ولكنى وأنا أكتب الآن، ولأول مرة، أتصور أن ثمة علاقة بعيدة كانت فى قاع الوعى، فلعل الأولاد بأغنيتهم تصوروا – حدْسا- أننا فى صعود حتى نصل إلى عش عصفورٍ “ما” هناك فى أعلى عليين، وأننا بهذا الصعود المعاند نتحدى الاستقرار فنهش الراقد، نهز كل مستقر.(داخلنا أو خارجنا) إذ ننكش عش العصفور أعلى الكورنيش الأعظم، أما أغنيتى السرية التى خطرت ببالى فلعلّى كنت أعنى – دون قصد- أننى أقسمت أن أتخلص من كل قيد “حلفت ما البس حديدة” أتخلص من أى “حديدة” تستطيع أن تقيّدنى فتثقل خطوى، لا حديدة الخوف، ولا سلاسل التقاليد، ولا خزائن الحسابات. وأنه علىّ أن أخلعها جميعا لأنطلق. بوعى جديد، أتجدد من خلاله، لأزور بلادا بعيدة، بما يعنيه سيدى إبراهيم، أصل النبوة الأحدث، أو أصل الوعى الأرحب،
هل يمكن أن نتصور أنه لا شئ بالصدفة إلى هذه الدرجة ؟ حتى الأغنية التى تبدوغير مناسبة؟ وكذا الرد عليها بأغنية صامتة أقل تناسبا؟
لست متأكدا. فعلا.. أنا لست متأكدا.
ينظر “الخواجات” بدهشة إلى حافلتنا ذات الأرقام العربية والحمولات التى تشبه قفف عمال التراحيل، وتزداد نظراتهم عجبا أو إشفاقا بما يتجاوز مجرد أرقام السيارة العربية، فكان علينا أن نحدس أننا فى طريقنا إلى السر الأعظم الكامن فيما فوق قمة هذا الجبل الذى لا يريد أن ينتهى صعودا.
فجأة يعتدل الطريق رغم استمرار ضيقه، فإذا بنا أمام لافتة مهملة، وإشارة مترددة إلى أن هنا مخيم “كذا”. وننظر فى الورقة، فإذا هو اسم المخيم الذى نبحث عنه، وإذا بنا أمام مجموعة من الخيم المتخاصمة، وأمامها بشر هم أقرب ما يكونون إلى تماثيل شمع متصلبة، بلا حركة، ولا صوت، ولا حياة، ولاشىء، مخيم هذا؟ أم منفى اختيارى؟. وهؤلاء الناس التماثيل: ما الذى أتى بهم إلى هنا؟ ونسأل عن الأسعار والمواصلات، فنجد الأسعار زهيدة، لكن المواصلات هى مرتان فى اليوم لا أكثر، 6صباحا، و7مساء (ثم: على ما أذكر، بزيادة مرة ظهرا يومى السبت والأحد). ونحسب أننا سنسلك نفس الطريق عائدين، وهذا مستحيل، ويضع الجميع أيديهم على قلوبهم خشية نزوة عناد مفاجئة يترتب عليها أن ألزمهم بالتخييم “هنا”، من باب التحدى، وإيذاء النفس (لتقويمها طبعاً!! تبريرٌ جاهز مرعب يعرفه الأولاد جيدا). ويخيل إلى أن حافلتنا الصغيرة الذكية قد استدارت وحدها أثناء حديثنا متجهة إلى طريق آخر، فأغمز لها أنْ “حاضر”، ولكن لا تعلنيها الآن”، وأطلب من المرأة (لماذا دائما امرأة؟) المسئولة عن هذا المخيم والواقفة منزعجة كالبومة المهجورة، أطلب منها أن نشاهد الخدمات أو نتجول قليلا، ما دمنا قد وصلنا حتى هنا، وتعرف بخبرتها وقراءة وجوهنا قرارنا الذى وصلنا إليه، قبل أن نصل إليها، فتقول: تشاهدون ماذا أكثر من هذا؟ هذاهو المخيم لا أكثر. وكأنها تقول: أنتم لستم “وجه” ذلك، وفعلا، لأن ذلك ليس كذلك. فأنا أتصور أن هؤلاء النزلاء هنا لا يخيّمون بالمعنى الذى ألفته، هم يمارسون نشاطا آخر يقطعهم عن العالم، شيئا أشبه بالخلوة فى غار، أو على جبل يعصمهم من العامة. طيب حلال عليهم، ونحن؟ ما لنا نحن؟
أتذكر قسوة المجتمع المعاصر واغترابه وإغارته على الوعى الفردى، وعلى الإبداع، وعلى التلقائية، بل وعلى الثورات. فحتى الثورات لم تعد تغييرا حقيقيا، بقدر ما هى نقل للسلطة وإعادة التسميات. أحترم هذه “الهجرة” (فاعتزلوا الناس)- متذكرا الهجوم العنيف على ماسمى بجماعات التكفير والهجرة، وأتذكر واقع المجتمع “المر” الذى رمى جيم جونس إلى غابة جوايانا فوقع فى “الأمرّ منه” (عكس المثل الشائع)،
أرفض الهجرة إلا إن كانت سوف تحمى صاحبها من الجنون أو الانتحار.
وحتى الجنون والانتحار قد يكون مواجهة أقسى وأخطر، لكنها أشجع وأكثر نذيرا من الهجرة الهروب.
المتألم أو المنتحر وسط الناس يلقى بتحدى فشله وفشلهم معه فى وجوه الجميع.
أما هذا الانسحاب الآخر بالهجرة فلا يُقبل إلا إذا كان مثل النوم الذى تعقبه يقظة، أما النوم الدائم كبديل عن آلام ومسئوليات اليقظة، فأبدا.
……….
………..
ونواصل بقية الفصل الأسبوع القادم
ــــــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
ممتع جدًا وحقيقي جدًا لدرجة اني قادرة على تخيل كل مشهد كإني احد افراد الرحلة، واتمنى لو كنت
” وحتى الجنون والانتحار قد يكون مواجهة أقسى وأخطر، لكنها أشجع وأكثر نذيرا من الهجرة الهروب.”
لكن الشجاعة أهم ولا إنهاء المعاناة اهم؟ الجنون مواجهة قاسية وشجاعة بس يائسة ونهائية مفيش فيها امل ولا غاية. الهارب مستني يتطمن او يتغير او تتغير مسؤولياته ويمكن يرجع… بيحاول يسكّت الألم بدل ما يسكت هو، مش دي شجاعة؟