نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 5-4-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5695
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق” [1]
الفصل الأول
… وإلا، فما جدوى السفر؟ (4)
………………….
………………….
23 أغسطس 1984:
انتقلنا فى الصباح إلى أثينا دون سيارة؛ نظرا لاتفاقنا أن يكون المشى داخل المدن هو وسيلة الانتقال (الأُولى). كان الأولاد هم المرشد لنا لسبقهم لنا بساعات أتاحت لهم استعمال الأتوبيس العام ومعرفة بعض أسماء الأماكن والشوارع، وكان عجبهم أن الراكب يضع أمام السائق ـ فى صندوق بجواره ـ بعض الفكة مما يعرف أنه تعريفة الركوب. بلا تذاكر ولا كمسارى ولا يحزنون، فمن أين للسائق أن يعرف أن ما وضع و”شخشخ”، هو المبلغ المضبوط؟. لابد من افتراض درجة من الأمانة. لابد أن هؤلاء الركاب ـ أو أغلبهم ـ أمناء. هذه حقيقة أخرى، وصدمة أخرى ذكّرتنا ببدهيات تقول: “إن الأصل فى المعاملات الأمانة، لا الشطارة (ولا الحداقة)، والأصل فى الحق أن يصل إلى صاحبه، وليس أنه “اللى ييجى منه أحسن منه”. وقد تدهورت عندنا القيم العامة، والانتماء إلى الدولة الواحدة، والحق المجرد، لدرجة بات معها كل واحد منا (أو كل أسرة أو كل فئة) دولة قائمة بذاتها، وأصبح التعامل بيننا لا يربطه قاسم مشترك، لا حق الله، ولا حق الناس، و لا حتى، حق النفس. لعل هذه المقارنة هى ما بهرت الأولاد وهم يكتشفون أن جليفادا وأثينا هما فى أوربا وليستا مثل مصر.
بالقرب من “سينتاجما” (مجلس الشعب تبعهم !! على الأرجح)، وجدنا الحَمام والتاريخ فى انتظارنا كالعادة. أصبح منظر الحمام، وهو يلتقط الحب وفتات الخبز من أيدى السائحين، منظرا مُقَررا فى كثير من بلدان العالم. أنت تجده هنا كما تجده فى ميدان سان ماركو بفينسيا، وأمام الساكركير فى باريس، والكنيسة الكبرى فى ميلانو وحول الكعبة المقدّسة. تقفز إلى وعيى أن فكرة الأشـُهر الحرم، ومنع الصيد فى أماكن بذاتها، وأوقات بذاتها، هى فكرة كامنة فى وجدان التكوين البشرى يصالح من خلالها إخوانه الأحياء، الذين استحل قتلهم بلا مبرر فى غير هذه الأماكن، فى غير هذه الأيام. أما منظر الجنديين ذوى الزى التاريخى، والخطوة البطيئة المرتفعة، وهم يقومون بدورهم، كديكور بشرى لـلفرجة والتذكـِرة، فهو منظر يبدو جميلا ـ لأول وهلة ـ بلا أدنى شك. وهو يتكرر فى المنشية عندنا بالإسكندرية، كما يتكرر أمام قصرالملكة فى لندن، وغير ذلك كثير من بلاد الله، لكن المعنى فى استعمال كائن بشرى حى للفرجة عليه، هو معنى يقلقنى كثيرا، حتى المهرج فى السيرك، وهو يقوم بدوره للفرجة، له عندى قبول أكثر من دور هذا “الجندى الديكور”.
يقترب السائحون من الجندى الواقف “زنهار” قبل معاودة سيره، ويلمسونه برقّة، فلا يتحرّك. هم يلتقطون الصور بجواره وتحت قدميه، ثم يعاود الجندى سيره واستعراضه. أتصوّر ،لأهدّئ نفسى، أن الجندى راضٍ بما يفعل، وأنه يكافأ مكافأة كبيرة لأدائه هذا الدور هكذا، وأنه لا يستمر هكذا ساعات طويلة؛ إذ لا بد أنه يُستبدل قبل الإنهاك، ولا بد أنه فخور وهو يتقمص تاريخ بلده، فخور بما يفخر به بنو وطنه، لكن كل ذلك لا يمنع الغصّة التى وقفت فى حلقى، وتسحبت منه حتى غمرت بدنى، فتكوّمتْ لتصبح قبضة تضغط على قلبى. حاولت أن أقــلد مشيته لأتقمّص شعوره، أبدا، قلت: الإنسان ليس ديكورا متحركا، وما عاد ينبغى أن يكون كذلك مهما كان الثمن والمعنى والرمز.
وهل نحن – من عمق معيّن – غير ذلك ؟ إخرس يا جدع أنت هل هذا وقته؟
افترقنا: أولادى وزوجتى فى مجموعة، وأنا وحدى (فى مجموعة!!!)، على أن نلتقى ظهرا. فعلت ذلك كى أعفيهم من وجودى المرهِق الثقيل عليهم غالبا (أنا الذى أدّعى ذلك دون يقين) ولأعفى نفسى من التطلع بلا نهاية فى واجهات المحلات بشبق غامض.
كنت قد وضعت لأفراد الرحلة نظاما نقديا؛ بحيث يحمل كل فرد مبلغا محدودا يتصرف فيه باستقلال، يأكل على حساب راحة النوم، أو ينام نومة أفضل على حساب ما يشترى، أو يشترى على حساب النوم والأكل..إلخ. هو حر…يتصرّف فى حدود المبلغ الذى تسلمه فى بداية الرحلة، وحتى نهايتها.(أظن كان المبلغ خمسمائة دولارا للفرد طول المدة ـ 82 يوما ـ، وكانت قيمة الدولار فى السوق السوداء آنذاك 47 قرشا صاغا!!) ذلك أنه كان من ضمن أهداف الرحلة أن تكون رحلة كشفية معسكرية مخيمية أساسا، لا سياحية ولا استهلاكية. معنا الخيمتان والمواقد والأغطية وأحذية المشى والنقود المحدودة، وما قـــُــدّر يكون!!.
تركتهم، وتركت قدمىّ تقودانى كما عوّدتهما فى الأماكن الجديدة، واتفقنا على اللقاء بجوار الـ”سينتاجما” بعد ثلاث ساعات. تبعت قدمىّ البصيرتين ورحت أتجوّل كعادتى حولى وداخلى دون ترجيح أى كفة، فأجد عدد الناس أقل، وعدد الخدمات أكثر، وعدد الأصوات الزاعقة أقل، وعدد الزهور والخضرة فى الشارع والشرفات أكثر، وعدد العربات أكثر، وحجمها أصغر، وعدد الشوارع وسعتها أقل، وأكثر (المقارنة بما عندنا طبعا آنذاك).
أذهب لأبحث أولا عن خرائط للطرق التى سوف أقطعها عبرأوربا، فهذه أول مرّة أبدأ جولتى من الجنوب. اعتدت أن أتسلح بالخريطة والبوصلة بمجرد أن أضع نفسى فى سيارة الترحال، حتى حذقت اللعبة، ويقابلنى مكتب يوجوسلافيا بترحيب جيد، يذكرنى بأنها البلد الوحيد التى منحتنا تأشيرة دخول بلا مقابل (كانت أيامها يوغسلافيا بحق وحقيق). ولا أظن أن هذا فقط من باب تشجيع السياحة والدعاية، وإنما أعتقد أنه مبدأ أساسى من مبادئ الفكر الاشتراكى، وأحصل على ما أريد من خرائط بعد جهد متوسط لصعوبة التعبير، وأفرح بحاجز اللغة على الرغم من أنه شديد، فما أحوجنا أحيانا إلى الحديث بالوجه والإشارة باليدين، بعد أن أغارت الكلمات القديمة الجوفاء على عمق نبض وجودنا. أُفرغت كثير من ألفاظ الود والتواصل من وظيفتها. أفـرح حين أجد الحروف اليونانية ذات الرسم اللاتينى الواحد تُنطق بطريقة أخرى. أنت حين تَقرأ كلمة يونانية وكأنها إنجليزية أو فرنسية، سوف تـَـنطِقُ كلمة أخرى تماما. أدركت ذلك وأنا أقارن بين أسماء البلاد خلال الرحلة وهى مكتوبة باللغتين اليونانية والإنجليزية (أو ما شابه) فأجد حروفا غريبة علىّ، والأهم أنى أجد حروفا واحدة لها ذات الرسم إلا أن نطقها مختلف تماما،
أتذكر صديقا لى كان فى باريس، سوف يأتى ذكره مرارا فى الأغلب، كان نصفه إيطالىاً، ونصفه فرنسىاً. ضبطنى مرة، وأنا أكتب بالعربية، فوقف ينظر من خلف كتفى إلى الكتابة من اليمين إلى اليسار، وهى غير منتظمة فى أىة نمطيّة يعرفها هو، فأخذ يتطلع إلى ما أفعل والنقط تتراقص فى حرّية فوق بعض الحروف دون غيرها. وقف ينظر وكأنى فنان تشكيلى أقوم برسم لوحة ليس كمثلها شىء، وحين لاحظ أنى رأيت كل هذه الدهشة على وجهه صرّح لى بما يدور فى خلده، وأن فروق الكتابة ليست أقل دلالة على روعة اختلاف البشر من فروق الكلام الصوتى، ثم طلب منى أن أكتب له اسمه بالعربية، ففعلت، فأخذ يتأمله، ويقربه ويبعده، وهو فى دهشة غير مصدق، قائلا بالفرنسية ذات اللكنة الإيطالية إنه “غير معقول”. ويضحك، ثم ينظر ويضحك، ثم يضحك وهو ينظر، ثم يضحك فقط حتى اضطررت أن أشاركه فى طفولة رائقة فرضتها علينا دهشته البريئة، وحين ذهبنا للغذاء مع زوجته، أخرج من جيبه هذا اللغز المصوّر (اسمه مكتوبا بالعربية) وأراه لزوجته، وراح يضحك من جديد، حتّى أضحكنا من جديد.
تذكّرت ذلك مع الفارق، وأنا أشاهد لعب الحروف الجديدة ليس فقط برسمها، ولكن بنبراتها ورنينها أيضا، وتحرّك وعيى أرحب.
تقودنى قدماى إلى الأكروبول دون سؤال أو قصد محدد، فأتوجّه إليه منفردا ومجذوبا تلقائيا، وليس جزءاً من معالم سياحية مقررة مثل زيارتى السابقة الخاطفة له، أختار إليه ـ كالعادة ـ أضيق الشوارع وأقدمها.
منذ إقامتى قرب المونمارتر فى باريس ذلك العام (86 ـ 96)، وقبل ذلك منذ تعوّدى على الوصول إلى منزلنا فى قريتى من محطة قطرالدلتا مخترقا “درب الوسط” “(الملتوى كالثعبان، الضيق كنفق سرى) متجنبا داير الناحية، منذ هذا وذاك، أتصوّر أن تاريخ البيوت بدأ متقاربا فى مواجهة حميمة، وأن الشوارع قد ظهرت بينها فيما بعد، لتصبح ممرات قسرية شُقت للضرورة، وما أصبحت الشوارع ميادين، ولا حلقات سباق، إلا حديثا. لذلك فإننى أهتدى بحدسى وخبرتى أول ما أتجوّل فى أىة مدينة جديدة إلى هذه الشوارع الضيقة، ويا حبّذا تلك الشوارع التى يبلغ من ضيقها استحالة مرور العربات بها.
تحضرنى زياراتى لخالتى ـ رحمها الله – فى سوق السلاح بالقلعة، وأنا حول العاشرة. ما زلت أعيش الشوارع هناك بسلالمها المتآكلة. أتحسس كيف مازالت ماثلة فى كيانى مع شعورى بالخوف من أن أتزحلق على أطرافها، كلما خطرت ببالى من جديد. فَرِحْتُ مؤخرا حين وجدت أن هذا الشعور مازال يراودنى بطريقة أرق وأطيب وأنا أمر يوميا على سوق السلاح بعد أن انتقل سكنى إلى المقطم مؤخرا.
لم أفرد خريطة أثينا ولا مرة واحدة، بدأتُ رحلة المشى حتى وصلت إلى ما أردتُ دون أن أحدده مسبقا، هذا هو، فأنا أسير فى مثل هذه التهويمات الحرة بالتوجّه التلقائى دون خريطة، بقدر ما أسير فى الاستكشاف المنظم بالخريطة والبوصلة. هناك حول المرتفعات المؤدية إلى الأكروبول، تقع المقاهى على الأرصفة فى جمال طبيعى، والمقهى فى “بلاد برّه”ـ فى أغلب الأحوال ـ هو مطعم ومقهى وبار وخدمات نظافية (للإخراج والغسيل)، وهى تحت أمر وإذن الرواد دائما ـ بل المارة أيضا. إلا أن ما زاد وميـّز أثينا هنا حول الأكروبول هو تلك الدعوة الحارة من النادل تلو النادل للمارة أن “يتفضلوا” بالهناء والشفاء، ورغم أنك ستدفع الثمن إلا أن الدعوة تبدو “عزومة” صادقة بشكل أو بآخر، وأنت تستطيع أن تقرأ خارج كل مقهى/ مطعم أسعار المشروبات والوجبات الكاملة، والطلبات المنفردة، تقرأها بالتفصيل قبل أن تتورط، وعلى الرغم من الحديث عن ملايين السياح فى اليونان، فإننى لم أشعر هنا بزحمة أو استغلال. فالأسعار بالمطاعم تقل عن ما يقابلها فى مصر (إن وجد ما يقابلها) بمقدار النصف أو يزيد، والبقشيش ليس ابتزازا مقررا، ولا فرق فى الترحاب والوداع بين من يعطى أكثر ومن يعطى أقل، ومن لا يعطى أصلا؛ ممن لا يستطيع، بل إنى حين اطمأننت إلى أسعار هذه المقاهى/المطاعم، ونوع المأكولات الحريفة من “محشى باذنجان”، و”مسقعة باللحم المفروم”،
قررت دعوة زملاء الرحلة لـلغداء، كنوع من البداية السمحة. تناولت مشروبا خفيفا، ولم أعط النادل بقشيشا لأرى، ورأيت ما ذكرتُ من ترحيب غير مشروط، وبعد لقائنا فى الميعاد ظُهرا جعل أولادى يتحدثون عن شدة الرخص هنا (بالمقارنة) بأسعار الملبوسات مع ارتفاع الذوق، وجمال التنويعات. فتألمت لأن مصر كانت دائما مضرب الأمثال فى الرخص والذوق معا، ودخل الفرد عندنا هو أقل حتما من هذا البلد، فما هى الحكاية؟ أكف نفسى عن التمادى فى هذا الاتجاه. أنا لم أحضر هنا لأضرب وأطرح، ولا هذا وقت السياسة التى أدّعى الفخر بأنى لا أفهم فيها إلا ما ينفرنى منها، تحدث الأولاد عن ذلك أيضا وكأنهم قرأوا أفكارى فزادونى غما ورفضا لـلتمادى فى هذه الدراسات المقارنة. هل هذا وقته أو مكانه؟ حدثتهم عن جولتى وعن دعوتى لهم على الغداء. فرح الجميع لتوفير ثمن وجبة واجبة الدفع من ميزانيتهم المحدودة، أو على الأقل لتخلّصهم من وجبة بديلة من العيش “الحاف، والحلو” بسكويت”!!.
حين ذهبنا إلى المقهى ذاته قرب الأكروبول عبر الشوارع الضيقة المثيرة، شرحت لهم كيف اكتشفته، وكيف هدتنى تلك الشوارع إلى الطابع الخاص للبلد الذى نزوره، وضحك أولادى الذين صحبونى فى مثل ذلك إلى جنيف القديمة، وتذكروا فرجتهم سابقا على سكنى بالمونمارتر، وشوارعه الضيقة الصاعدة باستمرار.
لم نعرف أسماء الأطعمة باليونانى (طبعا)، فدخلنا إلى الواجهة الزجاجية المحيطة بالعينات، وأشار كل منهم إلى النوع الذى يحبه، وحين سألنى النادل هل هؤلاء كلهم أولادى، أجبت بالإيجاب، دون أن أشعر أننى أكذب. وحين جاء وقت الحساب مال علىّ، وقال إنه مجرد عامل وليس صاحب المقهى، وكدت أقول له: إذن لماذا كل هذا الإخلاص والحماس والدعوة والدعاية والود والحرارة؟ كنت قد نسيت أنّ مَن أخذ الأجرة حاسبه الله على العمل، كما كان الأمر عندنا منذ سنين، وأن من أكل عيش اليونانى يضرب بسيفه (بعد التحوير)، قال الرجل، وهو يعتذر عن عدم استطاعته أن يعمل تخفيضا خاصا لى يناسب هذا العدد الهائل من الأولاد والبنات، أنه مجرد عامل، ثم أصرّ أن يتنازل عن “بقشيشه” إشفاقا على، بل إنه رغم هذه المقدمة والاعتذارات، عاد فتبرع عـلى مسئوليته وعمل تخفيضا خاصا فى نهاية الأمر دون طلب منى، وتكلف الواحد منا ما لم أتصوره فى بلد سياحى فى مكان سياحى، فى حضن الأكروبول.
أدركت من كل ذلك أنه ليس ثمَّ افتراض هنا أن السائح هو ثرى بالضرورة، وأنهم يدركون أن الشطارة السياحية ليست هى أخذ أكبر مبلغ من المال من هذا الغريب الذى لا يعرف شيئا عن حقيقة الأسعار، والذى قد لا يقابله الشاطر إلا مرة واحدة طول العمر. رجحت أيضا أن ما فعله معنا هذا النادل تلقائيا لا يمكن أن يكون تخفيضا لتكوين زبون، أو لكـسب لاحق منتظر منى، فهو يدرك تماما أن مثلى قد لا تخطو قدماه هذا المكان مرة أخرى، وإنما هى علاقات إنسانية مضبوطة بجوهر مصالح أعمق، فى إطار من حرارة ود البحر الأبيض، وهو التزام خلقى هو ـ فى النهاية ـ مكسب للجميع، الزبون والعامل وصاحب المحل والبلد المضيف والدعاية المستقبلية. نعم. ليست المسألة حذقا وشطارة عاجلة، بل هى بعد نظر، وانتماء واع، ومكسب مضمون عمره أطول.
استأذنت منهم، وحملت مشتريات أفراد الرحلة معى “وحدى”، عائدا إلى الفندق قبلهم؛ لأرتب خط سيرى غدا، وأعيد تنظيم أفكارى، تاركا لهم “بعد الظهر” لاستكمال ما شاؤوا من مشاهدة ومقارنة وتعلم وانبهار. كان الحمل ثقيلا؛ لأنه حوى بعض مهمات التخييم فى المعسكر، وسألت ـ بالإنجليزية ـ أحد المسنين الواقفين بمحطة الأتوبيس، عن رقم الأتوبيس الذاهب إلى المطار (حيث الفندق بالقرب منه)، فأجابنى بعد أن أطال النظر إلى وجهى، أجابنى بالعربية دون الإنجليزية، هكذا بحدس سليم. وكان أولادى قد حدثونى عن أصحاب المحلات الذين جعلوا يحدثونهم بالعربية عن ذكرياتهم فى الإسكندرية، وأغلبهم يذكر عبد الناصر ذكرا غير حسن، وقد تمادوا فى تفسير طردهم (هكذا صوّروا خروجهم من مصر) بأنه ـ الله يرحمه ـ كان يكره المسيحيين. وإذا كان معهم حق فى تفسير تضييق الخناق عليهم، حتى تفضيلهم المغادرة مما أسموه طردا، فإن تهمة التعصب الدينى لا تليق على عبد الناصر بالذات. راح عبد الناصر، وترحم الجميع على “أيام”، وأمِلوا فى “أيام”، وندموا على تصرفات، وبقى الود، والحلم.
قال لى العجوز اليونانى: كيف حال الناس فى مصر؟. قالها وكأنه يسأل عن أهله لا أهلى، قلت له: بخير”يجتهدون” ولكنهم كثير. قال: أعلم ذلك، قضيت هناك كل عمرى. لم يقل نصفه أو أغلبه، وكأنه يعتبر أن ما جاء بعد ذلك (بعد عودته هنا) ليس من عمره، أو هو شئ جديد لا يصح جمعه إلى ماسبقه، سألته ما رجّحته، هل كنتَ فى الإسكندرية؟. قال: بل “الكاهرة” ولم يقل مصر، مثلما نسمى نحن القاهرة، فهو يميز بدقة أصح ما بين كلمتى مصر (القطر)، والقاهرة (العاصمة). وظل يسألنى عن اسم الفندق الذى أريده، وأحاول أن أُفهمه أنى أعرف أنه بعد محطة المطار مباشرة، وأننى لست فى حاجة إلى أن يتعب نفسه بمحاولة إفهام السائق أن ينزلنى حيث ينبغى، ولكنه يذهب للسائق بمجرد توقف العربة وقبل أن أركب، ويرطن معه، ثم يأتى يطمئننى، وينظر إلى حمولاتى المخيمية الثقيلة، ثم يشفق علىّ – وكأنه أبِى حين كان يوصى سائق العربة الأجرة الذاهبة إلى بركة السبع أن ينزلنى فى الموقع السليم؛ حيث تاكسى طنطا. شعرت أننى استدفأت بأبوة حانية كنت أحسب أنى استغنيت عنها من فرط ممارستى دور الأب دون الابن فى مهنتى وتدريسى وأسرتى جميعا، وتصورت أنه لم يبق أمام هذا اليونانى السمح، إلا أن يواصل الركوب معى؛ حتى يوصلنى إلى الفندق ليطمئن على، وهو يحمل عنى بعض أشيائى، وتساءلت ـ كما تساءل أولادى من قبل ـ لمَ يعاملنا الناس بكل هذه الرقة والدماثة؟. هل لأنهم كانوا عندنا؟. هل لأننا نذكّرهم بأيامهم الحلوة هناك؟. هل لأننا أكرمناهم فهم يردون الجميل؟. هل لأنهم هم هكذا ونحن الذين لا نعرفهم؟. وهل يا ترى نحن ـ أيضا ـ هكذا كما يصفوننا؟. أعنى هل مازال أغلبنا هكذا؟. أم حدث الشىء؟؟ بل حدث الشئ فى الأغلب: عنف النقلات تأتى من أعلى، بلا إعداد أو استعدادٍ تحتىّ أعم، مع التمادى فى قلة حزم الحكومة وقلة خدماتها معا، مع استيراد مظهر الحضارة دون روحها، مع تغير فئة القادرين ماديا بسرعة يصعب معها تغيير الأخلاق إيجابيا أولا بأول، ومع ذلك فالطريق طويل. ولا محل للتسرع فى الحكم. لولا أننا كرام بررة، لما تركنا كل هذا الأثر على هؤلاء الناس. وأتساءل كما تساءلت عن لبنان من قبل: هذا بلد غنى: زراعى صناعى إلى حد ما، سياحى ـ تاريخى ـ عريق، فلماذا كانوا يهاجرون؟ لا أكاد أصدق أن الحاجة المادّية هى التى كانت الدافع الأول أو الأساسى لهذه الهجرة إلينا خاصة. ولا أظن أن اللبنانيين قد هاجروا إلى أمريكا الجنوبية، فأمريكا الشمالية ونيوزيلندا مؤخرا للسبب المادى ذاته، وإذا كان المصريون حاليا يهاجرون لأسباب مادية فى الظاهر فقد يـُثبت التاريخ أن وراء هذه الهجرة شىئا آخر. على كل حال فقد عاد اليونانيون إلى بلادهم ورحلنا نحن وراءهم، إلى هناك، ومع أنى دخلت اليونان هذه المرة من باب مصرى سورى، إلا أنها ظلت متميزة بما هى، وقد كان الفندق السورى الذى أقيم فيه ـ على الرغم من تواضع إمكاناته ـ هو أغلى من مثله فى سان فرانسيسكو، وبوسطن وباريس ونيويورك، وقد منعتُ تصعيد الاحتجاج داخلى؛ اعترافا بجميل الأم التى رعت أولادى كل تلك الرعاية فى غيبتى. لكننى قارنت بين هذا التعجيل للكسب، وبين موقف الصينيين وأولاد عمومتهم (من كوريين ويابانيين..الخ)، حيث يبالغون فى الرخص، بالمقارنة بالأسعار المحلية، حتى يخيل إليك أنهم يخسرون، ومع ذلك يستمرون وينجحون. وهممت أن أنبه السيدة السورية (الأم) إلى أن هذا الموقف اللاهث نحو المكسب السريع، فيه قصر نظر على المدى الطويل، ولكنى خفت من سوء تفسيرنصيحتى. فالفندق نزلاؤه قليلون، والأعمال حولى تدل على أنها أعمال صفقات واتفاقات كبيرة لا أفهم فيها كثيرا، فما أدرانى أنا بما هم أنجح فيه وأقدر. ولكن شعور عابر سبيل مثلى يرى ويقارن، لا يمكن إهماله، حتى لو كان مثلى لا يفهم فى لعبة رجال الأعمال، إلا بمقدار ما يفهم صديقى “عم فتحى” الميكانيكى فى حل ألغاز الشطرنج. طيب بالله عليكم : أنا مالى؟
……………………..
…………………….
ونواصل الأسبوع القادم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق” (الطبعة الأولى 2000)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net