نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 24-1-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 5989
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق” [1]
الفصل السادس:
لابد من باريس، وإن طال السفر (3)
…………….
دربى بِكرٌ فوق حصاهُ تسيل دماءُ القدم ِالعارِى
يتبعنى الناسُ الـمِثلي،
ليسوا مثلي.
من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــهْ.
يحفرهُ بأنين الوحدهْ
يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ
– دوماً أولىَ –
يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ
16 ديسمبر 1985 (وقت الكتابة)
………………..
………………..
غامرتُ وذهبت أستعلم، و سألت وأجابت موظفة الاستقبال، ونبـّهتنى – ربما بعد التملى فى منظرى – إلى أن كذا ممنوعاً وكذا عيباً. كدت أحتج وأنا أتصور أنها اختصتنى بهذه التعليمات دون سواى. وحين أعلنتْ أسعار الإقامة فى الموتيل، تم قطع المفاوضات من فورنا، قُطعتْ قبل أن تبدأ، فقد كانت أكثر من ضـِعـْف ما تعودنا، بل ضعف فنادق باريس المتواضعة التى اعتدنا النزول فيها، ثم كل هذا الرقم من أجل ساعتين أو ثلاثة، ولكن.. أنا مالى؟ ما أنا إلا فرد من تسعة، وأنا الأقدر، فحملت الرقم ببراءة ظاهرة مطمئنا إلى نتيجة الصدمة على رفقتى محدودى الدخل (أو محدودى الهبة)، وتوجهت لتوى إلى أصغريْنا أحمد وعلى، وقلت لهما ـ على مسمع من الباقى ـ إن هاتين الساعتين سيكلفاننا “كذا” ـ وتم المراد بحكمة الأولاد فى التو والحال؛ فقد استدارا بعد أن وضع أحدهما يديه فى جيوب سرواله، ومط الآخر شفتيه، مضيا دون تعليق. ونظرت فى وجوه الباقى، وانفجرنا ضاحكين.
ألتقطُ ذلك السباب البرئ الذى وصفوا به الموتيل والقائمين عليه، وهو يتخلل موجة الضحك من أمثال تعليقات تقول إن “رزق الهبل… ” أو “بعيد عن شاربهم” ـ وهكذا جمعتنا العربة من جديد فى حنان لا يخلو من شماتة، وكأنها تقول “… كنتم ستتركوننى وتذهبون. فها أنتم عدتم صاغرين”. اعتذرنا لها صامتين، وجلسنا واستعددنا.
أدرت المفتاح فعاد صوت الموتور يعلن نوبة نوم جديدة، ولكنى تدخلت بسرعة متسائلا، بعد أن نظرت إلى الساعة: “والآن.. إلى أين؟” وكانت الإجابة البدهية “إلى باريس ياسيد”. مفهوم مفهوم. ولكن متى؟. ثم الاقامة، ونحن حتى الآن (رغم حلول الشتاء فجأة!!!) لم نقرر هل يقيم الأولاد فى باريس فى فندق فيكسرون شرط الرحلة منذ البداية، فما زالت فكرة “حتم التخييم:” تلاحقنى متصورا أنها تبرر لى ما أحاول أن أوصله للأولاد من فوائد التقشف وزيف الرفاهية. أحاول أن أبين لهم أن المسألة ليست بالساهل، لكن الدنيا برد، وأرد على نفسى: “برد..، برد، مثلنا مثل غيرنا، أعنى مثلهم مثل غيرهم” ويبدو أنهم قرأوا أفكارى فلم يستطع أحدهم أن يقترح النزول فى فنادق أصلا، وحتى هذا الفرض لابد من حسن توقيته، هل نظل فى الشارع حتى منتصف النهار، حتى لا تُحسب علينا الليلة، بلا ليلة؟ وهمست للصغيرين بالخسارة المحتملة، فما إن عبرنا بوابة الطريق السريعة حتى اقترح أحدهما، أو زوجتى (لست أذكر) ـ أنه “وماله لو نمنا فى السيارة هاتين الساعتين داخل العربة هنا، والصباح رباح، والنهار له عينان”، فوافق البعض، وزام آخرون دون تمييز. ولم تكّذب العربة خبرا، فمالت إلى جانب حتى اطمأنت إلى جوار المبنى الخاص بخدمات الطريق (مما جميعه)، فاعتبرناه لخدمتنا الخاصة، وتناوبنا، وعدنا، وتداخلنا فى بعضنا البعض نتقى البرد.
أدرت زرّ السماح بالنوم، فرحت ـ من فورى، بالغيظ فى زوجتى ـ فى سبات عميق.
الأربعاء 5 سبتمبر (1984):
استيقظت على فحيح التململ يلكزنى فى جنبى، يتبادل ذلك مع ضحكات ساخرة، وتعليقات متنوعة تعلن أنها كانت ليلة ليلاء، وهى لم تكن ليلة بل ساعتين وبضع ساعة، وكنت قد نمت وكأنى فى أفخم مخدع. فأنا طول عمرى أتمتع بالقدرة على الدخول والخروج، إلى هذا الجانب الآخر من وعيى بسهولة ومباشرة، سواء كان هذا الدخول لجزء من دقيقة، أم ليلة بأكملها. وفى الحال أقوم وقد شبعت بما يكفينى “لأواصل” حتى أستأذن من جديد، وهكذا، فلم أفهم لماذا كانت الململة واللكز والسخرية والتعليقات، ولكنى أخذت أدرك رويدا رويدا أن هؤلاء الأولاد لا يعرفون معنى التقشف، وربما لن يعرفوه أيدا، فهذا التقشف المخيماتى المصطنع، شئ وذاك الحرمان الحقيقى الذى يعيشه أغلب الناس شئ آخر، فهم لم يستطيعوا أن يتحملوا ليلة واحدة فى داخل سيارة، بل ساعات. وتعجبت من أحوالهم تلك؛ إذ لو أنى واصلت السير وهم نيام، لقاموا يتمطون بالرضا عن سائقهم الذى انتقل بهم إلى مرادهم دون إزعاج، أو على الأقل بلا نظرات سخط مثل تلك التى لكزتنى فأيقظتنى، كنت أشعر وكأنهم يتهمونى بأنى أتعبتهم، لأوفر ثمن سرير الليلة مثلا، على الرغم من أنى إذا كنت قد وفرت، فهو لهم، وليس لى (حسب قانون الاستقلال الرحلاتى الاقتصادى الذى اتفقنا عليه).
زادنى موقفى المتململ هذا تصميما على أن ينزلوا فى مخيم كنت أعرفه فى غابة بولونيا، اللهم إلا إذا كان هذا المخيم قد أغلق أبوابه بسبب البرد، هذا، وإلا فقد خاب سعيى فى تربيتكم من أوله، فيسمعون ما لم أقله لكنّه يصلهم فيصمتون، وتصفر وجوه وتسود وجوه، ثم يعلن الأصغر (والأشجع) أنهم أحرار، وأنهم قد ينامون فى فندق نصف نجمة، ولا يأكلون إلا خبزا “حافا”، وأنه ليس من حقى أن أنظم لهم إقامتهم ماداموا لن يطلبوا أية معونة إضافية، فأوافق من حيث المبدأ، ولكنى أصر على التعرف على ما تبقى مفتوحا من مخيمات، وبالذات فى غابة بولونيا، وقبل الدخول إلى باريس المدينة. من يدرى قد نحتاجه بشكل ما.
دخلنا من الباب الجنوبى لباريس، باب أورليانز، والتقينا قبيله بأفواج السيارات الداخلة إلى المدينة الحنون. فالروعة هناك أن الضواحى تمتد إلى سبعين ومائة كيلو، وكأن باريس للعمل فقط. أما السكن فأمر آخر. واتبعنا الإشارات إلى الطريق الدائرىة حول باريس، متجهين إلى غابة بولونيا حيث أشار كتاب دليل المخيمات الذى معنا، إلى وجود مخيم هناك على نهر السين. وما إن تخلصت من الطريق السريعة وزحام السيارات حتى هبت على روائح كدت أنساها. ستة عشر عاما بالتمام، وابتسمت حتى تخـللت ابتسامتى كل خلاياى إلى نخاع عظمى، فابتسمت لى الأشجار والخضرة الكثيفة والشوارع النظيفة والرجل العجوز الذى دلنا على الطريق إلى شاطئ السين حيث يخترق بولونيا وحيث سوف نجد المخيم فى الأغلب، وقد عدت أأتنس بهذه الحضارة الدمثة التى تجعل هذا الكهل يتوقف ويستمع ويلتفت ويشرح ويخطط، ويشير، بكل إخلاص وتواضع، لا يبغى جزاء إلا احترام الآخر وبذل ما عنده، طالما لا يعيقه، وكلما سألت عن المخيم بإصرار مطلق، سمعت الهمهمة تتعالى من ورائى تصك أذنى فى تصاعد يكاد يصل إلى الأنين المكتوم، ولسان حالهم يقول ما يعلنه بعضهم: “أنت وأمنا ستذهبون إلى الفندق حتما كما تعودنا منذ البداية، ومادمنا قد قررنا ألا نخيم فى هذا البرد مهما كان الإغراء، فلماذا تبحث لنا عن مخيم أيا كانت ظروفه؟ ولكنى أصر على أنه ليس من حقهم أن يقرروا “الرفض”، قبل أن يروا بأعينهم “ماذا يرفضون” و”لماذا”؟.
أواصل السير فى بولونيا، وكنت أحسب أن غابة لفظ بولونيا هذه، هى اسم الغابة فقط، وإذا ببولونيا هى الضاحية التى تحتوى الغابة. أواصل السير فألمح شيئا أشبه بالخيمة الكبيرة، ولكنها على الجانب الآخر، وليست على الشاطئ مباشرة، وحين نقترب منها أجدها أكثر من واحدة، ومساحة كل منها عشرات الأمتار، فأتعجب لهذا المخيم الغريب، وأتصور أنه هو، وأنه معد هكذا اتقاء للبرد حيث لابد أن الخيمة الأصغر تقع فى داخل الخيمة الكبيرة، ويرتعد الأولاد خوفا من أن أفرض عليهم التخييم هنا؛ حيث لا عربات ولا كرافانات ولا خدمات، ولا ناس، اللهم إلا بضعة عمال يقومون بما يشبه الزراعة حول هذه المخيم العملاقة. أتوقف بالسيارة ـ وأكاد أسمع قلوب الأولاد تخفق خوفا وتوجسا، وأرى نظرات العدوان تطل من عينى مصطفى غريمى المتحفز، وكأنه يعلن أنه “للصبر حدود”، فأتغافل وأنزل من السيارة، وأنادى على أحد العمال فلا يجيب، فألف حتى أقترب أكثر، وأعاود النداء بإصرارى المعتاد، والجميع فى السيارة يستعدون لمعركتهم معى فى الأغلب ـ فيرد العامل، فأسأله: “أليس هذا مخيما للرحالة والمصيفين؟” فيبتسم فى شفقة، ويقول بالفرنسية السريعة التى ألاحقها بالكاد، ما أفهم منه أن هذا مشتل زهور أو ماشابه، وأن هذه الخيم تحمى الزرع الصغير من الصقيع والتقلبات (شئ أشبه بالصوبات التى عُرفت عندنا فيما بعد). وأرجع بخفى حنين، وتنفرج أسارير الجميع فيما يشبه الشماتة حين يقرأون فى وجهى ـ قبل أن أخبرهم ـ خيبة أملى، ويتصورون أنى همدت، ولكن: “أبدا”، وأعاود المسير بحذاء نهر السين، وأكرر السؤال بإلحاح، حتى تبدو لى من بُعد الألوان الدالة على خيام الرحل وسياراتهم ومقطوراتهم، وأقول فى نفسى متوعدا “لسوف أريهم هؤلاء المرفهين المدعين”، وينتقل الغيظ إليهم مع اقترابى المنتصر من ضالتى، ولا أفهم كيف يتصورون أنى سأفرض عليهم رأيى فى نهاية النهاية، ومع ذلك فكل شئ جائز، وأنا لا أضمن نفسى، فكيف يضمنوننى هم؟
……….
………..
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل السادس
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net
المقتطف / ( فأنا طول عمرى أتمتع بالقدرة على الدخول والخروج، إلى هذا الجانب الآخر من وعيى بسهولة ومباشرة، )
التعليق / مولانا الحكيم الحقيقة أني رأيت فيك هذا و كنت من الشاهدين فلولا هذا ما كان الذي تطلق عليه “الصنعة” بمعنى قدرتك على الدخول و الخروج فى وعي الأخر بحكمة شديدة الإتقان ، صنعة توقيت و كيفية الدخول و توقيت و كيفية الخروج أيضا و فعلا دا ما يقدرش عليه إلا صنايعي ماهر مثلك يا مولانا الحكيم
و كم تمنيت من الله أن يهبني أسرار الصنعة طالما أتاح لي أن أكون من الشهداء فى حضرة تتلقي العلم عن صنايعي ماهر مثلك تلقى السر عن…..عنه سبحانه العليم فوق كل ذي علم ……..