نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 10-1-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 5975
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]
الفصل السادس:
لابد من باريس، وإن طال السفر (1)
…………….
دربى بِكرٌ فوق حصاهُ تسيل دماءُ القدم ِالعارِى
يتبعنى الناسُ الـمِثلي،
ليسوا مثلي.
من مثلى لا يسلكُ إلا دربـَــهْ.
يحفرهُ بأنين الوحدهْ
يزرع فيهِ الخطواتُ الأولىَ
–دوماً أولىَ–
يَرْويهاَ بنزِيفِ الرّؤيْــةْ
16 ديسمبر 1985 (وقت الكتابة)
كلما جلست لأكتب هذه الرحلة، سافرتُ إليها من جديد، فعشتها بكل التفاصيل، والهمس، والاستطراد، والرسائل، والوعود، والتنشيط، والإحباط، والمراجعة،
حين أكتب: أسافر إلى ما اقتنَصَه وعيِى فبقى معى، لا أسرد ما كان حين كنت مسافرا، وكلما مضيت أبعَد فى السرد والكتابة، زدت اقتناعا بأن قدرة الإنسان على تمثل الخبرة الحقيقية دون وعى مباشر، هى أكثر بكثير جدا من فرص استيعابها الظاهر، ناهيك عن فرص التعبير عنها، التى هى أقل فأقل.
ثم أعود أتساءل: هل يصح أن ُيكتب ما يسمى أدب الرحلات بهذه الطريقة: بعد عام؟ ومن الذاكرة؟ ولكن ما لى أنا وأدب الرحلات، ليكن ما يكون.
الثلاثاء 4 سبتمبر (1984)
كان الاتفاق أن يحضروا “هم” “إلينا” فى الموتيل قبل السابعة صباحا، فيجدونا قد جهزنا، ذلك أننا كنا قد نوينا أن نقطع المسافة إلى باريس (أكثر من 900 كيلومتر) مرة واحدة فى اليوم ذاته، لهذا فقد عادوا إلى المخيم ليلة أمس فى الأتوبيس الصغير، وتعهدوا بلم الخيمة فجراً دون معونتنا؛ ليكونوا عندنا فى السادسة دون تدخل من جانبنا، وقد سارعت بالموافقة على نشاطهم وحماسهم واستقلالهم الواعد، تأكيدا واختبارا لما أردته من هذه الرحلة، وكراهية ًمنى للقيام بوظيفة “المسحراتى” التى تورطت فى ممارستها بثقل شديد منذ صغرى، وكأنى الموكل بإيقاظ سائر البشر بدءا بالأقربين من عائلتى، صغارا وكبارا. ماعدا أبى، نومى خفيف، وثقتهم فىّ كبيرة، وحبهم للراحة والدفء والاعتماد أكبر من قدرتى على دق طبلة السحور ـ بلا طبلة ـ على دماغ كل واحد حتى يتفضل بالاستيقاظ.
كانت أمى تثق فى قدرتى على إيقاظ سائر أفراد الأسرة للسحور فى رمضان، مع أنى أصغر “الصبيان” لماذا؟ لست أدرى، وكنت أسمع ما لا يسر من النائمين الذين أوقظهم، وهم نائمون، وهم يستيقظون، ثم بُعَيْد الاستيقاظ المؤقت، ثم قبيل معاودة خطف نومةٍ محتجَّة بعد تقلّب غاضب، ما ذنبى أنا؟ ثم لابد من المحاولة من جديد بناء على تعليمات أمى، أو على ثقتها فىّ، يا ذى الثقة. أحياناً كنت أكره رمضان خوفا من تورطى فى نفس الدور، وكثيرا ما أعلنت أمى أنى سوف أصوم دون سحور، فكانت لفرط ثقتها (لست أدرى لماذا) ترد أنه و”ماله يا حبيبى صحّيهم ونام”.
ثم إنى ظللت أقوم بهذا الدور لما كبرت، حتى مع أولادى. ومن فرط رفض دور المسحراتى هذا توقفتُ عن السحور نهائيا.
أظن أننى احتفظت ـ أيضا رغما عنى ـ بالجزء الأهم من وظيفة المسحراتى وهو الإيقاظ، فأتصور (الآن) أن كل ما أكتبه وأمارسه وأحاوله بكل أداة وشكل هو محاولة إيقاظ لنائم قد تطول نومته إلى غير عودة، أو هذا ما أوهم نفسى به على الأقل.
كما كرهت وظيفة المسحراتى طفلا، تحفَّظت ضد وظيقة المسحراتى إبداعا ورؤية، لا أظن أن الإبداع يمكن أن يؤدى وظيفة الإفاقة والتحريك إذا كان بهذه المباشرة “المسحراتية”. النبوة وحدها هى التى نجحت فى هذه المهمة مباشرة، مع أن الذين ورثوها، مثل الثورات، قلبوها تنويما منظما، وليست تحريكا متجددا.
قفز إلى ذاكرتى نص تسرّب إلى إحدى تشكيلاتى التى ضمنتها ديوانى “أغوار النفس” “قراءة” فى عيون الناس والمرضى والأصدقاء”، يقول المقطع الذى حضرنى الآن ” واللى يصحّى الناس يا ناس أكبر غلط”. (أنظر الترحال الثالث إذا شئت)
يعرف الأولاد عنى كرهى لهذا الدور، دورالمسحّراتى، فتبرعوا أن يكونوا هم البادئين بالصحو، فالحضور إلينا حيث نقيم فى الموتيل الجديد، بعد أن يلموا الخيمة ويضعون الأغراض فى الحافلة، ولهذا أوصلونا هم إلى الموتيل، وأخذوا الحافلة وانصرفوا إلى المخيم. قلت لنفسى: “هكذا الكلام”، و”لسوف أرى”.
ولكنى لم أر إلا ما لا أحب.
ذلك أنهم تأخروا صباحاً بعد استيقاظنا بأكثر من ساعة، حتى حسبنا أن شيئا خطيرا قد حدث فأعاقهم عن الوصول سالمين إلى المخيم ليلة أمس. حول الثامنة صباحا بعد الميعاد بساعتين، قلت أذهب إليهم، قبل أن أسمح لنفسى بالانفجار غيظا، حتى الغيظ يحتاج إذناً!!. خفتُ من الانفجار فـىّ أو فيهم، فأخذت أعدو لأروّض أو أكسر حدة العدوان المتحفز قبل أن أصل اليهم، “شكمتُه قائلا: عند المخيم الخبر اليقين”. فإذا باليقين نائمٌ يغط غطيطا يصّاعد من داخل الخيمة إلى خارجها، والشمس تدفئه بالهناءة والشفاء، وحتى الأتوبيس خارج الخيمة كان فى سبات عميق، وقد مالت رأسه ناحية الخيمة، وكأنه يحرسها رغم غطيطه الهادئ المنتظم هو الآخر، ويرتفع الغيظ فى داخلى أكثر. أنا أعرف عن نفسى أننى حين أمتلئ غضباً إلى هذا الحد أسكن تماما حتى أبدو أهدأ الناس ظاهرا. رُحْت بهدوء – لا أعرف من أين أتانى- أوقظُ واحدا منهم، فواحدة، وكلما أيقظت واحدا قام فزعا وهو ينظر حوله للآخرين ويروح ينقل عينيه بين نور الشمس وظلام وجه العبد لله، ثم يلتفت إلى رفيق خيمته وهو بعُد فى سباته، ثم يقفز واقفا ناظرا إلى ساعته لاعنا المنبـّه المسطول،أو زميلته التى لا يُعتمد عليها، وغيرذلك.
أكاد أجزم أنه لولا أن إقامتى كانت على بعد أمتار منهم لقاموا قبل الفجر.
أنا لا أبرّئ نفسى من هذه الاعتمادية التى أنميها فيهم بثقل “حضورى”،اعتمادية تتغلغل إليهم مجتمعين حتى وهم نيام، ثم ألومهم على ذلك. أنا أتصور أنى أدفعهم إلى الاستقلال دون أن أتخلى عن واجبى، فيصلهم شعورى المضاعف بالمسئولية، فيتراخون حتى فى الاستيقاظ.
كنت ـ ومازلت ـ إذا ضقتُ ذرعا بهذه الاعتمادية أهددهم، أو أذكرهم، بموتى المحتمل، أو القريب، ويبدو أنى كررت هذا التهديد- هزلا وجدا- حتى أصبح سخيفا بحيث يستأهل فى هذا السياق أن يتصف بصفة “موتى المزعوم”،
علـّمنى ذلك ابنى/غريمى (زميل الرحلة: مصطفى)، وكان ذلك منذ عدة سنوات. فما إنْ هممت أثناء حوارى معهم بقولى: “لما أموت…” أو “.. اعتبرونى كأنى ميت” حتى قاطعنى بمزاح هو عين الجد، قائلا: “طب.. بس ياللّه”، فأفهمُ أنى كررت هذا القول حتى أمللتُ، وأنى ـ هكذا ـ قد أفرغت التهديد أو التذكرة من جدواها. أدركت ساعتها بيقين واضح – وحتى الآن – من أنى حين أموت، سيسير كل شئ على مايرام، وربما أفضل من كل تصور يبرر لى حياتى “هكذا” ومن هنا يصبح استمرارى، هو”أمر تطوعى”!!!
ما إن شعروا بى واحدا إثر الآخر، ثم جميعا، حتى نشطت موجة الاستيقاظ فى تصاعد هندسى، فراحوا يتقافزون وهم يستيقظون فزعين وكأنهم يقومون بنشاط تعويضى سريع وهم يتعثرون فى أمواج ما يشبه الخجل، ويتبادلون ما يشبه همهمة اللوم، أو مايشبه الاعتذار والشعور بالذنب، وأنا أزداد سكونا حتى ننتهى من التحميل،… وننطلق، نصطحب أمهم من الموتيل لنتوجه شرقا.
لم يجدّ جديد علينا، اللهم إلا زيادة تأكدنا من سماجة الطرق السريعة بالمقارنة بالطرق الوطنية الجميلة. وحين وصلنا إلى مفترق طرق، طالعتنا الأسهم المشيرة إلى مارسيليا، ومنها إلى أسبانيا، فنتذكر أصل الخطة، وتأشيرة أسبانيا جاهزة، وتتململ العربة من تحتنا منذرة أنها قد تبرمجت فى اتجاه باريس، وأنها غير مستعدة للعب الأطفال هذا، ويمزح أحدنا، أو يقلب مواجعنا، حين يقول: “… طيب لا لزوم لأسبانيا، ولكن ماذا عن مارسيليا؟ عندى عنوان اللصوص أصحاب العربة الفولكس”. فيرد آخر يرجّح أننا لن نجدهم، فلابد أنهم أجّلوا عودتهم حيث أن نقودنا فـَرّجت عنهم فأطالوا رحلتهم بالقدر الذى سمحت لهم به هذه الإعانة التى لا تـُرَدّ، والتى هى من تجليات الكرم العربى.
تنحرف العربة شمالا إلى ليون، فباريس، مشيرة إشارة الوداع والتحية لطريق مارسيليا فأسبانيا.
الجو صحو، والنهار، ممتد، ونصل إلى ليون حول العصر، ونجد ليون ـ وهى من المدن القلائل التى لم أزرها أصلا أثناء إقامتى فى فرنسا ـ مدينة كبيرة عتيقة، ثانى مدن فرنسا، ومع ذلك لم يشوهها بعدالتحديث الأمريكى كثيرا (مازلنا سنة 1984) . وتبدأ جولتنا العشوائية، ونعطى لها فى برنامجنا ساعة أو أكثر قليلا، فندخل فى شارع جانبى جدا؛ لنملأ السيارة بالوقود، فيخدمنا عامل مغربى طيب، لا يمكن أن نتفاهم معه إلا بالفرنسية؛ لاختلاف لهجته العربية حتى أصبحت بالنسبة إلينا لغة جديدة أصعب من الفرنسية. وأنسحب إلى مقهى ضيق كالممر، مظلم كالكهف، أستعمل حقى فى نظامهم ونظافتهم حيث القاعدة ـ كما ذكرت ـ أن كل مقهى لابد أن يحوى ما “يريح” رواده، فلا أجد مثل ذلك ظاهرا، على الرغم من أنى تورطت فى طلب شراب ما لا أريده، فاسأل عن مطلبى، فيعطينى الرجل مفتاحا كبيرا قديما، مشيرا بيده ـ يرشدنى ـ إلى مكان دورة المياه خلف المقهى، فى “حوش” أحد المنازل القريبة، فأتأمل المفتاح الكبير القديم، وأحسب أنى فى مكان أقرب إلى القاهرة القديمة، أو إلى “ميضة” السلطان حسن. وأبتسم، وأذهب وأعود أداعب رفاقى بالمفتاح الأشبه بالمفتاح الخشب لأبواب دور قريتنا، وألوح به، وكأنى أصبحت مالكا مؤقتا “لبيت راحة” فى بلاد الخواجات، يبدو أن القانون يحتم على كل مقهى توفير “راحة” زبائنه بأى وسيلة، حتى لو كان ذلك فى مبنى صغير فى حوش قريب!!!.
……….
………..
ونواصل الأسبوع القادم بقية الفصل السادس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – المقتطف من الترحال الأول: “الناس والطريق” الفصل الرابع: الحافة والبحر (الطبعة الأولى 2000)، وتتضمن ترحالات يحيى الرخاوى أيضا (الترحال الثانى: الموت والحنين ) و(الترحال الثالث: ذكر ما لا ينقال ) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net