نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 22-3-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5681
الأربعاء الحر:
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق” [1]
الفصل الأول
… وإلا، فما جدوى السفر؟ (2)
…………….
…………….
21 أغسطس 1984:
إلى ميناء الاسكندرية؛ لأستقل الباخرة بحافلتى الصغيرة، ومعى زوجتى، دون بقية أفراد الرحلة من أولادى الذين سبقونا بالطائرة إلى أثينا. الإجراءات غير معقدة، على الرغم من أن بعضها لم يكن ذكيا تماما. رحت وأنا أنتظر دورى للدخول بالسيارة إلى المركب، أتعرف على زملائى من المسافرين بوسائل انتقالهم الخاصّة مثلى، فوجدتُنى لا أشبه أيا منهم فى شئ.
فثـَمَّ رجل أشقر، فى غاية الأناقة والرقة، قد تخطى وسط العمر، يصحب زوجته (أو من تقوم مقامها، من أين لى أن أعرف) كما يصحب كلبه فى عربة مجهزة للرحلات (كارافان، منهّ فيه!). عربة هى والقصر المتنقل سواء. لا. ليس هذا. لسنا هما.
وثمة عربة “جيب”(أو كالجيب)، قوية الملامح، جسيمة التواجد، واثقة من نفسها كأنها تقود راكبها، وليس هو الذى يقودها. يمتطى صهوتها فتى وفتاة بلغ من تراكم التراب المختلط بالعرق بالبقايا، على جسديهما وملا بسهما، ما يوحى بأنهما خاصما الماء والصابون طوال رحلتهما التى لاتبدو لها بداية ولا نهاية، وأكاد أحك جلدى نيابة عنهما، وأقول: ولا نحن مثل هؤلاء.
وثمة مجموعة من “الموتوسيكلات” تربو على العشرة، أصحابها بين فتيان وفتيات، كلهم فى فتوة الفرسان، وعلى من يستكثر على المرأة الفروسية أن يلبس عينىّ فى تلك اللحظة، ليدرك معى أن هاتيك الفارسات بعضلاتهن التى لم تنتقص من أنوثتهن شيئا، وبوجوههن الحاسمة الرافضة كل سلبية أو اعتمادية، هن فارسات بكل ما تعنى الكلمة. فأين نحن- مصريين ومصريات ـ من الفرسان والفارسات والفروسية والشباب؟
وأنظر فى نفسى لأجدنى شخصا يقاوم الاستسلام وهو يطرق أبواب العقد السادس من عمره، وهو يجرّب من جديد بعض ما يمكن، ببعض ما توحيه إليه أفكاره التى أتعبته بقدر ما صدّقها.
ألمحتُ فى البداية أن بعض ما ورّطنى فى هذا الآن كان وعدا قديما لأولادى، ظللت أؤجّل الوفاء به تسع سنوات، حتى خطر ببالى أن الظروف قد سمحت، وبهذه الصورة. وحين اكتمل الإمكان بدأ التنفيذ، بغض النظر عن لياقتى الحالية، وما طرأ من تغييرات بمرور السنين، أعرف هذا النوع من المآزق: أن يعيش شخص مع أفكاره؛ باعتبارها واقعا ممكنا، ما دامت تبدو مفيدة أو واضحة. فيخاصم المنطق العام أو المألوف، وهو يحسب أن منطقه واضح بسيط مباشر، أكثر بساطة من كل ما يتصورون. وأنا أعرف أن من أهم مشاكلى، أننى أصدّق نفسى، وأتصور دائما احتمال تحقيق شطحاتى على أرض الواقع، وأتذكر كيف تورط فى مثل ذلك جوزيه أركاديو الكبير فى مائة عام من العزلة، حين راح يترجم أفكاره أولاً بأول، إلى مخترعات وأدوات، حتى خلق عالما “واقعياً”من الضياع الحالم، والحقيقة الواعدة معاً. أرجع إلى نفسى وأقول: ولو.. الحمد لله. لم أصل إلى هذه المرحلة القصوى بعد، ولا حتى إلى علاقة سارتر (فى بداياته على الأقل) بـ “الكلمات”. ربنا يستر.
مازلنا فى 21 أغسطس 1984:
فى الباخرة الإيطالية، وأثناء تغيير العملات، يقف أمامى رجل أسود فى منتصف العمر، يتكلم الإنجليزية بلكنة أمريكية، ويمسك بيده رزمة كبيرة من الأوراق الماليّة المصرية يحاول تغييرها، فيحاول المسئول فى الباخرة، أن يُفهمه استحالة التعامل بالنقد المصرى خارج مصر(لاحظ التاريخ 1984) وأفهم من الحوار أن ثمة تعليمات غير واضحة قد وصلت إلى الأمريكى، فأحاول مبادرا أن أدافع عن الاتهامات التى تبادلها مساعد الربان الإيطالى، مع الأمريكى السائح الأسود، بأن هذه سرقة وابتزاز و.. و..، ويؤكد لى الأمريكى أن هذا مافهمه حين استبدل نقوده من أحد البنوك الرسمية، عند وصوله فى أول الأمر، فهم أنه يستطيع استبدال ما يتبقى معه من نقود مصرية عند مغادرته، مادام قد استبدلها بطريقة رسمية. ولعل هذا صحيح ـ لست أدرى ـ ولعل غموض التعليمات هى التى أوحت له أن ذلك ممكن فى الباخرة، أو فى أى بلد بعد مغادرته. ولعل عذراً ما معه، لكن ما أوقفنى وأثارنى ـ منذ البداية ـ هو هذا الاندفاع إلى اتهامنا بكل هذه التهم، والتصديق عليها من أمريكى وإيطالى معا. وتصاعد الغيظ حتى التدخل، ضد كل ما أوصيت نفسى به، وما نبّهتنى زوجتى إليه، وهو أن” أكون فى حالى”، وألا أحاول تعديل أخلاق الخواجات كما اعتدت أن أمارس ذلك مع أبناء بلدى، ولم تُذكّرنى كيف فشلتُ فى تعديل أخلاق المصريين، ناهيك عن أخلاقى أو أخلاق أولادنا، أوصتْنى زوجتى بكل ذلك دون أن تقوله، فكم قالته، بلا طائل. بدليل أننى تطوعت مقتحما وأنا أقول للأمريكى أن ثَـمَّ وقتا للعودة إلى البنك فى الميناء، ومحاولة استيضاح ما غمُض عليه، فيذهب، وقد تعجبت لمبادرته بسماع النصيحة. لكنه سرعان ما يعود ماطا شفتيه، فأرجح أنه استفسر من سلطة قريبة، فأسأله بإلحاح مشفق حذر عمّا حدث، فيقول: لا فائدة، لقد “أكلتـُها”. وتتم القصّة فصولا، بأن يبدل له مساعد القبطان (الإيطالى) قيمة ما يحمل من نقود مصرية، بأقل من قيمتها الرسمية بلا أوراق ولا يحزنون (تذكّر مرة أخرى أننا سنة 1984). وهكذا ينقلب الناصح الأمين تاجرا منتهزا، عينى عينك، وأقول لنفسى: لا لوم عليه وحده، وإنما اللوم علينا أيضا وقبلا. قليل من الوضوح والتعليمات المكتوبة منذ البداية ـ يحفظ السمعة. تلعب المصادفة دورها: إذ تجمعنى بهذا الأمريكى الأسود على مائدة العشاء، فى السفينة، فأحاول ـ من جديد ـ أن أوضح له الأمر، ولكنه ـ فى ثقة و غباء الأمريكى المتفوق!! ـ يؤكد أن هذه ليست إلا وسيلة “رسمية” للحصول على أكبر قدر من العملة الصعبة، وأنه ـ فور وصوله ـ سوف يبلغ سفارتنا ووزارة خارجيته بما حدث… وأنه… وأنه… وأرفضه بالقدر ذاته الذى ألوم فيه المسئولين عندنا عن احتمال عدم الوضوح.
كانت تلك هى مقدّمة حوارى مع هذا الأمريكى ـ بهذه المواصفات ـ أثناء العشاء، حوارنا فى السياسة والحياة. رحت أرسمه، وأنا أحاول طول الوقت أن أذكّر نفسى بالتحذير المبدئى القائل: إن هذا الرجل الأمريكى ـ ليس بالضرورة الممثل الرسمى لمن هو أمريكى. هو ليس أمريكا.
هو رجل شديد الثقة بما يقول، وخاصة إذا تحدث مع من يتصوره دونه (ويبدو أنه يعتقد أن كل من بالسفينة هم كذلك). هو يتكلم وكأنه يُفتى. يصدر أحكاما نهائية من منصّة علوية معصوبة العينين، وقد وجدتُنى رافضا لهذه الأحكام والفتاوى فى الكبيرة والصغيرة. الحرية ـ كما أتصورها ـ هى مقرونة بالتواضع والحيرة المسئولة، فاستدرجتُه ليحدثنى عن نفسه وبلده بعد أن حكيت له عن زيارتى الأخيرة لبوسطن ونيويورك وواشنطن، وسان فرانسيسكو، ولوس أنجلوس، فنبهنى أن هذا خطأ من يزور الولايات المتحدة، فمن لم يزر ولاية واشنطن state فى أقصى الشمال (لا مدينة واشنطن العاصمة D.C.)، ومن لم يزر فلوريدا فى أقصى الجنوب، فهو لم يعرف الولايات المتحدة. ولعله صادق، ولكنى بعد قليل تبينت أنه من فلوريدا، وكان يعمل ويقيم فى ولاية واشنطن تلك، ورجّحت أن كل فرد من ولايةٍ “ما”، يعتبِـرُ نفسه وولايته هما الممثل الشرعى لهذه القارة غير المتجانسة. وأمتلئ غيظا من هذا التوحد الاحتكارى الغبى.
ويذكرنى هذا بغيظى طفلا من واحدة لا أعرفها، لكننى أعرف أن اسمها “هانم”، أصرّ شاعر مولد الشيخ الرخاوى (هو عم لى، غير شقيق، كان عالما أزهريا، لكن ابنه قلبه بعد وفاته شيخا له مقام ومولد على طريقة متفرعة من الطريقة النقشبندية الجوديـّة) أصر هذا شاعر المولد هذا أن “هانم” هذه هى الممثلة الشرعية المعترف بها لما هو “امرأة”، وبالتالى فإن من ليس معه مال يمكـّنه أن يتفرج على هانم سوف يموت “قتيل المحبة، والسبب هانم”. كان يغنى:
“قلبى عشق بنت بيضا واسمها هانـم،
دقّه على صدرها محمل بـِسـَالاَلــــِمْ
واللى معاه مال ييجى يتفرّج على هانم.
واللى بلا مال، يموت قتيل المحـــــبّة،
والسبب هانم“
ولما كان مصروفى آنذاك ـ حتى أثناء المولد ـ لا يكفى لأتفرج على هانم هذه، فقد كنت أحقد على الشاعر وعلى هانم حقداً بلا حدود؛ لأننى كنت على يقين أنى سأموت ـ قتيل المحبة ـ دون أن ألمس امرأة؛ مادامت هانم هذه هى كل النساء. ولكننى رويدا رويدا أكتشف أن الدنيا مليئة بعنايات وزينب وست الناس وفتحية وفوقية، ثم أُلفت ومرفت ونُهى، ثم مارى وإليزابيث وديانا وصوفيا، وأتذكر كيف تحديتُ احتكارية هانم هذه وأنا أشاهد تلك اللقطة من 30 يوم فى السجن، التى تفتح لمن مثلى كل الأبواب وهى تؤكد أن كل النساء حلوات، وأن لكل واحدة مذاقها الخاص، “يا خى يوه يوه يوه”،،. فكان الريحانى – ومن بعده عادل خيرى- فاتحها على مصراعيها، خيارة، تفاحة، برتقالة، يا خِى يوه يوه يوه. وكلما شاهدتُ هذا المشهد فى المسرحية تمنيت لو بـُعث شاعر مولد عمى الشيخ الرخاوى فى قريتنا من غيبته؛ ليشاهد هذا التطور الخطير معى حتى يخجل مما أذلنّى به صغيرا.
ثم يأتى هذا الأمريكى الفلوريدى يقول لى إن الذى لم يتفرج على موطنه الأصلى، أو على مكان عمله شخصيا لم ير أمريكا، فيغيظنى الغيظ ذاته الذى يعترينى كلما قابلت صاحب فكر أو عقيدة، وقد احتكر الجنة لأهل دينه، واحتكر الصواب لمفردات عقيدته. واحتكر الإخلاص لطين وطنه، ولكننى أهدئ نفسى حتى لا أستسلم للتمادى فى الرفض؛ وأتذكر كيف أقع فى نفس الخطأ بدورى حين تعلّ علىّّ مصريتى، فأبالغ فى عظمة وخطورة الانتماء لها، هذا الانتماء الذى يغذى غرورنا ووجداننا حتى يجعل من مصر أم الدنيا فى كل العصور؛ ربما لأن الذى بناها كان فى الأصل حلوانيا قبل أن يقول مصطفى كامل قولته الشهيرة (بحسن نية ساذجة: إننى لو لم أولد مصريا..إلخ)، ويخطر على بالى أنه إذا كان صحيحا أن “اللّى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى”، فلا بد أن الذى بنى أمريكا كان فى الأصل “بتاع كشرى”.
ما زال هذا الأمريكى يحكى لى عن نفسه: قال إنه لم يبلغ الخمسين، وإنه متقاعد من سنوات، وإنه كان يعمل فى الجيش، وإنه أمضى خدمته فى السعودية (ولم أدر أين، ولماذا؟؟- كان ذلك قبل حرب الخليج طبعا)، وإنه الآن “يسيح” فى العالم هو وزوجته بعد أن استقل أولاده عنهما، فابنه البكر فى التاسعة والعشرين من عمره (!!!)، وبنتاه مستقلتان من سنين. وتعجّبت، فاستوضحت، متى تزوج؟. وقد كنت أحسب أنى عملتُها مبكرا مغامرا (72 سنة)، ولكنه أوضح لى كيف بدأ حياته الزوجية الكاملة وهو حول السابعة عشر. ويبدو لى أنه بدأ مبكرا لينتهى مبكرا، وكأن هدف البداية كان هو هذه النهاية، تصوّر أن يكون هدفك فى الدنيا هو “التقاعد اللذيذ”، أو حتى “التقاعد السائح اللذيذ”!! يا صلاة النبى! هدف التقاعد المبكر أصبح من معالم دورة حياة الرجل الأمريكى، حتى أننى تصورت أن شطارة الشخص هناك يمكن أن تقاس بمدى نجاحه فى التبكير بالتقاعد. ثم ماذا؟. لست أدرى. هذا الأمريكى الأسود قال لى إنه يمضى بقية حياته فى السياحة، وآخرٌ يقضيها فى التأمل فى كوخ بالجبل، وثالثٌ خلف سنارة صيد فى منتجع منعزل هادئ على شاطئ مجهول، وحسدتُه ابتداء، يا ليت،!! ثم رفضتُه فورا، ما هذا؟، فتصوّرى دائما أن تفجــُّـر وسط العمر، وإبداع الكهولة، هو النتاج الأبقى للبشرية. ومن غير المعقول، أن نربى أشجار البشر حتى تتطاول فروعها وتطيب ثمارها، ثم نحيلها إلى التقاعد، مكتفين بالظل، وعينات مجففة من طرحها القديم!!!. برنارد شو، وبرتراند راسل، ونجيب محفوظ، متى نضج عطاؤهم؟. وماذا لو كانوا قد تقاعدوا فى سن هؤلاء المتحضرين الجدد؟ المهم، حسدته على الرغم من كل هذا التنظير، وحسدته أكثر حين شاهدته بعدُ مع زوجته: امرأةٌ فتية نضرة شقراء دمثة، لا يفتأ فى رقّة ـ غير سوداء ـ يميل عليها ليعدل من ياقة “بلوزتها”، أو يمـسح لها بعض البقايا المتناثرة خطأ حول فمها، البقايا التى لا يراها أحد سواه، بقايا ماذا؟ لست أدرى. أنا مالى؟ ثم هو لا ينى يلثم أطراف أصابعها. متى تزوجتْ هذه السنيورة التى تمّ نضجها فى هذه السن المتأخرة دون أى تراجع، متى تزوجتِ من هذا الرجل؟ ولماذا؟. ليس عجبى لمجرد أن شقراء تزوجت رجلا أسود، فهذا أمرٌ ألـِفْتُه فى باريس ونيويورك وألف ليلة وغير ذلك، ولكن لأن هذا الرجل بالذات لم أجد فيه قوة السود، افتقدتُ فيه نبض أرضى فى أفريقيا، لم أتصور فيه فحولة الفطرة وجاذبية البداءة، وهى الصفات التى أتصورها تميز هذا الجنس الأصيل.
أرجع إلى الحوار معه، فأنكشه فى انتخابات الرئاسة (الأمريكية سنة 4891) فيُفتى ـ دون تردد ـ أنها دائما أبدا لعبة محسوبة تُـولّى علينا من يقودنا دون فروق كثيرة بين الكاسب والخسران، ويسألنى: هل تعرف مغزى “لعبة البدّال”؟. ولم أفهم ماذا يعنى؟. قال “خدعة البدّال” تلك التى علمونا إياها صغارا؟ قلت له إننى لا أعرف عن ماذا يحكى، فقال لى إن راكب الدراجة يضع قدمه فوق البدّال، والبدال يرتفع، ولكن القدم دائما ترتفع أعلى منه، مهما ارتفع البّدال أو انخفض، فقدمُ الراكب فوقه أبدا، هكذا السياسة، هم فوق، ونحن تحت، دائما، مهما حاولنا، ومهما ارتفعنا، فأقدامهم فوق رؤوسنا بلا خلاص، يسرى ذلك على البدال الأيمن كما يسرى على البدّال الأيسر، جمهورى، ديمقراطى، نفس الحركة، ونفس النظام.
أعجبت بفكرته، وتراجعت عما ظلمته به من أحكام، ثم غمرنى يأس حين تجسّدتْ لى اللعبة المقابلة فى بلدنا، نحن لم نصل بعد إلى خدعة الحركة الزائفة (لعبة البدال) نحن نلعب مع السُّلطة (بكل أنواعها) لعبة “وابور الزلط”،
كنا فى طنطا، وكنت حول السادسة من عمرى، كانت الحرب العالمية الثانية، صفارات إنذار التجارب، تطن فى أذنى. كانوا يرصفون بعض الشوراع حديثا. حين كنت أشاهد العجلة الأمامية الضخمة لوابور الزلط وهى تزحف “تبطط ” كل شىء. أُرعب من أنها يمكن أن “تبططنى” شخصيا ضمن ما تسحق، مع أن خطواتى القصيرة الصغيرة كانت أسرع من حركة الوابور دائما، بل إننى كنت أتّصوّر أن وابور الزلط هذا يسير وحده دون سائقه الذى كانت ملابسه بلون الزفت الذى يسير فوقه، فكان من السهل أن يخفيه خيالى، فإذا فَرَضَ هذا السائق نفسه بصيحة تحذير مثلا، كنت لا أملك إلا الاعتراف به، ولكن باعتباره تابعا مقودا من الوابور لا سائقا أو قائدا له. ذلك أننى كنت أشعر أن وابور الزلط هذا كائن حى يمكن أن يتذكرّنى شخصيا، وأن يعدّ خطة سحقى، ولم أجرؤ، وإن كان قد خطر ببالى، أن أرشوه (الوابور لا السائق) بـ”ساندوتش” الصباح، فلا هو سوف يشبعه، ولا حشوه يستأهل.
قلت فى نفسى: إذا كان تبادل السلطة عند هذا الأمريكى المتغطرس تمثل لعبة البدّال، الحاكم فوق والناس تحت، دائما أبدا، مرة يمينا ومّرة يسارا، فهذا أمرٌ طيب، هى حركة والسلام، أما عندنا فالسلطة مثل وابور الزلط، ونحن: أطفال فى السادسة.، نخاف أن يبططونا دون ذنب.
أوقفـْتُ خيالى قسراً. أنا مسافر لأستريح، لا لأجتر الهم، لعبة البدال عندهم، ولعبة وابور الزلط عندنا، ماشى، هذه مجرد اختلافات ثقافية يا عزيزى!!!
ما هذا الذى أبدأ به رحلتى هذه؟!!، فاقتحمتُ سخريته ويأسى بخبطة واحدة سائلا: إذن ماذا؟. إذا كانت المسألة دائما واحدة على الجانبين، مع اختلاف الأحزاب والمرشحين والرؤساء، إذن ما العمل؟. ويتعجب لسؤالى، ويرفع حاجبيه، ويمـط شفتيه، معلنا أنه “….وأنا مالى؟” (هو ماله!!!)، فأشعر باطمئنان كاذب لتوارد الخواطر، وكأنى به يقول: لم يعد لنا فى الأمر شىء، وتقاعدى ليس تقاعدا عن عملى فقط، ولكنه تقاعد عن مسئوليتى تجاه ما يحدث، مما ليس لى فيه يد، ولا رأى، رغم أوهام الديمقراطية، وتكرار الانتخابات. ومع ترجمتى هذه للسان حاله، أصررت على مواصلة الحوار، وأصرّ هو على أنه لا حل، ومع ذلك ـ ولعجبى الذى يتجدد بلا أدنى مبرر، لأننى على علم مسبق طول الوقت بشيوع هذا الموقف المريح ـ بدا لى جليسى مطمئن البال، قرير العين لهذا “اللا حل”. ولم أحاول أن أستمع أكثر من ذلك، فقد تعلّمت أنَّ هؤلاء الناس استقرّوا “بشكل ما”، على “شئ ما”، هم لا يدرونه فى الأغلب. فقد رُسِــم لهم بدقة بالغة، من نظام شديد الإحكام (بدأ غربيا وانتهى عالما والعياذ بالله). هو نظام شديد التعقيد أيضا. لا أظن أن أحدا يعلم من الذى يديره (كان هذا الظن قبل شيوع تعبير “النظام العالمى الجديد الذى لوّح بما زاد الأمر غموضا). من أهم أهداف هذا النظام ـ على ما أظن ـ هو العمل على تحييد رجل الشارع، تحييد الناس، كل الناس، بقية الناس، (اللهم إلا أثناء الانتخابات بما لها وما عليها) يبقى بهذا الشكل الأمر، أى أمر، مع من بيده الأمر، الذى هو بدوره يقع فى يد أعلى هى التى تدبـر “الأمر”، فيصاب الشخص العادى بمرض “الحكمة المُعدى”، يحمى نفسه من مسئولية التساؤل. من أهم مظاهر هذا الهرب أن يظل الواحد متفرجا طول الوقت بلا فاعلية، ولكن بانتباه شديد. هو يتفرّج حتى وهو يدلى بصوته بين الحين والحين، لكن لا خوف منه، ولا من صوته، ما دام من بيده الأمر (لا من يهمه الأمر) يلوّح له بشعار الديمقراطية وحقوق الإنسان طول الوقت.
إيقاع لعبة السلطة فاق بكثير قدرة الشخص العادى على متابعة الأحداث، فضلا عن الإسهام فى صنع القرار. ومع ذلك لم أستطع أن أمنح نفسى حق مثل هذا الانسحاب الحكيم. أتصور من فورى ـ وبطريقة خاطئة حتما ـ أننى “شخصيا” مسئول عن تعديل كل ذلك، وكلما كان الأمر واقعا أكثر، كانت مسئوليتى (الإبداعية!!) أعمق وأخطر (ما هى حكاية الإبداعية هذه؟). أقول لنفسى مخادعا فى الأغلب: إذا كنت لا أملك بديلا واضحا، فلا أقل من أن أعيش خبرتى مهما طالت وآلـَـمَت، لعلها تولّد قلقا خلاّقا. أما أن أقف ساخرا راضيا عالِــما حكيما متفرِّجا، فهذا ما لم أنجح فيه حتّى تاريخه. كنت، ومازلت، أحسب ذلك التظاهر بالرضا والتسليم، أو “الأناماليّة” رفاهية، لا حقَّ لى فيها.
أواصل الحديث مع الأمريكى الأسود ناسيا ما نبهـّت نفسى إليه حالا، فأنكشه ـ مرة أخرى ـ موجها الحديث إلى دور القس جاكسون (لاحظ التاريخ)، مرشح الرياسة السابق الذى فشل فى تعضيد حزبه له، وكان فشله معروفا مسبقا، ولكن مجرد محاولته كان لها دور ـ بالنسبة لى على الأقل ـ فعندى أنه أدى دورا، وقال كلمة. فيتحمس جليسى بغير روح، ويقول إن جاكسون هذا كان سيفعل شيئا آخر، ولكنه لا يقول لى ـ ولا لنفسه، ربما ـ كيف كان سيواجه الحاكم السرى الحقيقى لبلده العملاق، الغافل عن مصيره/ مصيرنا.
أشعر فى نهاية الحوار أننى أمام “أمريكى فقط”، و ليس إنسانا أسود حطّ أجداده ظلما وخطفا فى هذه الأمريكا، إنه لا يعلن بسواده رائحة الطين، وقوّة الأبنوس، وشموخ الـليل، كما يعنى لى كل ما هو أسود. هذا “البنى آدم” الذى هو أمامى هكذا: لا هو بالثائر الواعى الذى يتعصّب لـلونه ـ ولو مرحليّا ـ، ولا هو بالمنسحب الفنان المبدع الذى يرى رؤية مستقبلية؛ ليساهم فى إظهارها مهما صغـُـر دوره. هو مجرد أمريكى، تصادف أنّه أسود، فتزوّج من بيضاء جميلة، فرضىَ بهذه النقلة “السرية” إلى الجنس الأرقى، أعنى الجنسيّـة الأرقى (!!)، فماتت قضيته قبل أن تبدأ.
قبل أن أغادر مطعم الباخرة الذى كنت أجالس فيه هذا المتقاعد الأسمر (بهـُتَ سوادُه!!)، يحدث فصل بارد إذ يتقدّم النادل منى بالحساب، فأُخرج له “كوبون” العشاء الذى صرفوه لنا مع التذاكر، فيبتسم فى استعلاء مهذب، وأن هذا الكوبون خاص بمطعم “إخدم نفسك على الواقف”. أما هذا المطعم، فهو اختيارى، وبمقابل. فأحاول أن أمنع حبّات العرق من أن تظهر أمام جليسى الذى تصوّرت أنه لا يـُخفى امتعاضه منى، وأدفع بالتى هى ألْــسَـع، وأقول لنفسى: ولو. نحن أبناء الأصول قبلا ودائما، والذى لا يعرفك يجهلك. وأبلعُ ريقى، بعد أن كتمت عرقى، وأمضى ليتجمع سخطى على الأمريكى، أكثر من تجمعه تجاه النادل، أو تجاه النظام العالمى القديم، (لم يكونوا قد جدّدوه بعد ليبدوا جديدا)، أو تجاه خيبتى وقلة خبرتى.
ثم أهدّئ نفسى بحكمة متأخرة مكررة معا، فأقرص أذنها محذرا مجددا من التعميم. هذا الرجل ليس هو أمريكا، وهذا النادل، ليس إيطاليا، وأنا لست مصر؟.
………….
………….
ونواصل الأسبوع القادم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: الترحال الأول: “الناس والطريق” (الطبعة الأولى 2000)، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، والكتاب موجود فى الطبعة الورقية فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية، كما يوجد أيضا حاليا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط www.rakhawy.net