نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 2-8-2023
السنة السادسة عشر
العدد: 5814
ترحالات يحيى الرخاوى
الترحال الأول: “الناس والطريق”[1]
الفصل الرابع: الحافة والبحر (1)
… ثم تبينت أن سيدنا بوذا هو الجالس وكرشه أمامه،
غريبة، دون صليب أو مصلوب، فهمتُ- دون سؤال طبعاً،
يا شطارتى!! – أن ثمة جالية هناك من البوذيين، أو أن
عدوى شرق أقصية خاصة أصابت بعض أهل هذه القرية،
وهات يا حرية، وهات يا بوذية، ولا أحد أحسن من أحد،
وكل شئ- وكل دين- جائز فى الولايات المتحدة (ما دمت
بعيدا عن السلطة يا أبا على، دع الناس تتسلّ)
17 يوينو 1985 (وقت كتابة هذا الفصل)
يخيل إلى أنى قطعت نصف “الطريق”، طريق الكتابة- هنا- لا طريق السفر، ومازلت أكتب كأنى “أحاول” لأول مرة؛ ذلك أنى أخترق مقاومة تكاد تمنعنى من التمادى فى هذا النوع من الاستكشاف بالقلم؛ خوفا… وخجلا، خوفا من أن أصل إلى المنطقة فى نفسى التى لا أحب- ولا ينبغى- أن أعلن عنها، وخجلا من عرض مظان هذه الرفاهية “الخاصة” على “عامة” الناس، ولسان حالهم، وحالى، يقول: “نحن فى ماذا يا هذا؟، (إحنا فْ إيه، ولا فْ إيه؟)، وكأن الحوار بين القادر والمحروم لابد أن يستمر تكتما وسرقة، أو كذبا وادعاء فيمارس القادر الرفاهية فى السر، وهو يعلن الشعارات الراشية والمسكـّنة جهارا نهارا، ويذهب يبرر لنفسه التميز والتملك مشهِرا فى وجه الناس كل القيم “الدينية” و”المذهبية” الواعدة المؤجّلة، ويظل التبرير والتأويل والادعاء يوسع المسافة ويطمس المسئولية،
فأقول لى:
أبدا، وليكن. وليظل القلم صاحب الحق بلا وصاية عليه حتى لو تباعد ما يخط عما يقدر صاحبه، فأزداد إقداما فى محاولة الاختراق لـلتواصل، فما عدت أجرؤ على التوقف أو حتى التلفت أو التردد، وذلك بعد ما هدد هذا السلوك، (التردد فالتراجع) بأن يصبح سمة من سمات نشاطى العقلى الحذر، بل ربما سمة تصف خطوات حياتى كافة،…نعم، أصبحت أرعب من وفرة البدايات وندرة التمام، حتى قررت أن أعدل عن ذلك جذريا بأن أكمل أيا مما بين يدى، مهما كان، وعلى حساب أية بداية أخرى واعدة، وخاصة إذا كان هذا الذى بين يدى، قد سرى وتشكل فأصبحت له طاقته الذاتية. نعم.. هو التوريط الذاتى، وهذه العملية (التوريط الذاتى)- رغم سوء السمعة- هى من أقوى أشكال “الإرادة الخفية”،
الناس تحب أن توهم نفسها بأنها تفعل ما تقرر، وأنها تقرر ما تريد، (يا سبحان الله!!)، مع أن من وُهـِب قدرا، ولو ضئيلا، من البصيرة، لابد أن يدرك بوضوحٍ ما، أن المسألة لا تعدو أن تكون صراعا شديدا فى محاولة الخروج من ورطة فى “موْحل” إلى ورطة فى “مِعْبر”، لكنها ورطة دائما، هنا وهناك، أليست الحياة نفسها ورطة كبيرة، سماها سقراط “مرضا” نشفى منه بالموت العظيم، واعتبرها أبو العلاء بعض جناية أبيه، ورآها الخيام إقحاما له فيما لم يختر.
الشاطر من يدرك قواعد اللعبة ما أمكن؛ حتى يمكنه أن ينتقل من “الموْحل” إلى “المعْبر” ثم إلى حيث يجذبُه الأمام إليه، المهم ألا نستسلم لقدرية تضع اللوم على المجهول لتبرر الغوص فى الطين، أو نـُخدع بحرية وهمية تخفى عنا سخرة الخارج تحت غيامة مسخرة الداخل، وأغلبنا يصيح كالأبله: “أنا حر” وهو يدور حول نفسه فى رقصة الدوخة الكبرى.
ورطة؟…ورطة !، لتكن،
نعم، ورطت نفسى فى هذه الكتابة، مثلما ورطت نفسى فى أشياء كثيرة، وكل أملى أن أكون الآن على مِعبر (بكسر الميم) لا فى موحل، وسبحان المنجى.
الأربعاء 29 أغسطس 1984
قمنا من الكوخ فى نشاط ليس لنا فضل فيه، وفى خلال ساعة وبضع ساعة، كان كل شئ قد أُعـِــدّ، حتى الوظائف العبادية والبيولوجية تُــؤدّى بسرعة وإتقان، بحيث تتفق مع مراحل الرحلة وظروف الخدمات وفروق التوقيت (!!). وسبحان الله الذى جعل ركعتى الفجر فى السفر لا تدخلان فى رخصة الجمع والقصر، والذى جعلهما (ربما، بالذات) خيراً من الدنيا، وما فيها، ولكنى أتصور أن ثمة مواصفات لهاتين الركعتين لازمة لتكونا كذلك، (خيراً من الدنيا، وما فيها). ومن ذلك التصالح مع الخارج/ إلى الداخل، وأيضا أن نفهم “الدنيا” ليس فقط بمعنى الحياة الأولى (هذه الحياة)، كما أن التصالح عندى لا يعنى الاستسلام والتخدير، وإنما يعنى حوارا فاعلا يـُعقد كل صباح (كل فجر) يجعلنا نقبل التحدى، مستعينين بالفوق والتحت إلى الأمام، مهما بلغت لزوجة الموْحل.
قمنا، وتصالحنا، وشفينا، وشربنا الشاى، وأعددنا شاى الرحلة وتوكلنا. المرأة “المهرة” المسئولة عن المخيم تودّعنا، وكأنها تستقبلنا، بنفس الترحاب والدفء والطيبة، نفس الضحكة الرحبة، والصوت الممتلئ الخشن فى أنوثة قوية خاصة، وتساءلت. كم ألف بنى آدم يأتى هنا وكم ألف يذهب؟ كل عام، كل صيف، كل موسم…إلخ. وهذه المرأة ترحب بهم قادمين، وتودعهم ذاهبين، هكذا؟ صعب أن أفترض أن هذه الضحكة تعنى ما أتصور من قوة، ودعوة، وأمن، وتشجيع، ورضاعة، وهدهدة، و…، ولكن الأصعب أن أتصور أن هذه الضحكة ليست سوى قناع تلبسه لزوم الشغل فحسب، هذه امرأة تعيش ما تفعل، وتحب ما تقرر، وربما هذا ما يجعلها، وسيجعلها، دائمة الحيوية، حاسمة الردود، دافئة الجذب.
انطلقنا حسب تعليمات المرأة المهرة فى خط مستقيم إلى فينيسيا، ثم لاحت لافتات “بادوفا”، وكان مرشدى فى هذه المرحلة من الرحلة هو الإبن الأكبر، مصطفى، وهو على أبواب الجامعة حقيقة، لا تقريبا (هو الأكبر فى الرحلة فقط، لكنه أصغر أبنائى من ظهرى، فقد تركنا إبنى الأكبر “محمد” مجندا جدا فى الجيش) – وأنا لم أتعرف على مصطفى هذا بعد.
كان مصطفى وهو صغير، شديد الطفولة صارخها، رقصا وفرحة واقتحاما، ثم شب صبيا، فأصبح شديد الإبداع “المنزلى”: أثاثا وطهيا!!. وفى الوقت ذاته، بالغ القوة العضلية، رفعا ونطرا!!، ثم صار يافعا (أحذّره مازحا من أن يشتط فيتجاوز طوله طولى إلا بإذنى) ثم بدا لى شديد الجهامة (أمامى خاصة) وراح يبالغ فى الالتزام (الدينى خاصة) وأيضا فى الصمت والحذر والحسابات والتردد، وقد بدا لى أن كل هذه الصفات ليس لى فيها يد مباشرة، بالإضافة إلى أننى أحسست مؤخرا أن المسافة تتزايد بينى وبينه، فتركتُها تفعل، وقنعتُ بتواصل حوار صامت لا أعلم تفاصيله، وإن كنت متأكدا من استمراره، وأحسب أنه يدرك بعضه فى مستوى ما من وجوده. أما مصير كل ذلك، سواء بالنسبة إليه أو إلى سائر أولادى، فهذا ما لا أعلمه.
ياليت الأهل يعرفون أنهم غير مطالبين بالتوجيه والإرشاد، بقدر ما هم مطالبون بإعلان “الحضور فى الوعى”، و “صدق المحاولة”. وما أصعب المهمة. ومن هذا المنطلق، كان دور ابنى هذا كمرشد فى أية فترة من فترات الرحلة صعباً علىّ تماما؛ حيث كنا نتبارز فى حدة يقظة مسنونة. أقول أو أسأل فيستجيب بانتباه مفرط؛ حتى أشعر بأشواك انتباهه تلكزنى فى جنبى، ليس انتباهاً هذا، ولكنه وقفة استعداد، وتوجّه الوعى على زناد الرد. هو يريد أن يثبت لى أنه لا يخطئ، وأن تعليماتى هى المسئولة عن أى انحراف فى الطريق “كذا”، أو “كذا”، وأنا أريد أن أثبت له أنه بهذا التحدى لا يحسن التلقى، فإذا أحسن التلقى فهو لايحسن التصرف، وأنه السبب، وتتصاعد حرارة الحوار الصامت حتى يتقد الجمر، وتكون النتيجة أن ننحرف عن الطريق السريع (الأوتوستراد) لنجد أنفسنا داخل “بادوفا” شخصيا، ونحن لم نكن ننوى أن نزورها أصلا. مدينة ككل المدن، ناسٌ وبيوت وشوارع وحوانيت وحاجات، هى هى، ونبدأ فى السؤال للخروج: ميلانو؟. أتوستراد؟. يا سنيور: ميلانو ولا مؤاخذة؟…والنبى ياعم أوتوستراد؟. ونخترق البلدة من أقصاها إلى أقصاها، فأفرح بالتعرف الاضطرارى عليها، وينفعنى ذلك عند العودة، لأننا بفضل صُدفة (مختارة!) قضينا بها ليلة عند العودة؛ ما كنت أحسب أنى سأفوز بها لولا هذه الغلطة، وقد سبق أن نبهت إلى أنه “لاتـَوْه فى سفرْ” حين يكون الحبل على الغارب بقصد الاستطلاع لا الوصول؛ لأن كل توه هو معرفة جديدة، مفاجِئة حتما.
ما زلت أذكر توْها رائعا حدث لى فى جوار سان فرانسيسكو قبل عام واحد، وأنا فى رحلة اضطرارية- إلى أمريكا، قبلتُها بقدرة “ابن سبيل” مشوق دائما إلى هذا السعى الملح وراء الشئ (نفس الشئ!! حتى لو خيل إليه أنه وجده، لكن: أبدا)..
كنت فى سان فرانسيسكو، بلد الربيع الدائم، والزلازل المغيرة المتكررة المهلِكة والمجدِّدة معا، وأيضا بلد الشذوذ الجنسى والحرية الجديدة !! قررت أن أستأجر سيارة، لا رغبة منى فى ذلك، ولكن استسلاما لإغارة دعاية ظلت تلاحقنى فى شكل إعلان يتحدانى فى كل مكان: فى حجرة الفندق المتواضع الذى يؤوينى، فأوراق الإعلان تلاحقنى على المنضدة الوسطى، وداخل الصوان، حتى تصورت أنها مكتوبة على لفافات الورق فى “دورة المياه”، وكلها تهمس لى : “أجِّر سيارة”، “أجِّر سيارة”، “أجِّر سيارة” Rent a car، ووقتى لا يحتمل مجرد التوقف للنظر فالاختيار، يومان ليس إلا، ولكن من يسمع فـُيسكت عنى هذا الإعلان الـلحوح؟ “أجِّر سيارة”، كلها ستة عشر دولارا وخمسة وسبعون سنتا (هكذا يقول الإعلان)، ولم أملك إلا أن أنهزم رغم خوفى من اختبار عنادى القيادى فى بلد لا أحبه،
أمريكا، بلد شديد اللاتجانس واللاانتماء، مما يثير فى داخلى رفضاً مخالفاً، فأصبح كالجسم الغريب، ولا أفلح عادة فى أن أروض نغمتى الخاصة مع لحنهم المجهول، فأظل نشازا طول إقامتى بها، فكيف أغامر بأنْ يمتد نشازى إلى سيارة أقودها فى محيط أرفضه، ثم إنى نادرا ما أنجح فى أن أفصل ذاتى عن سيارتى، وأنا فى السيارة- عادة- أقترب من الأرض أشم رائحتها، أسمع همسها، فأسير فى فلكها عليها، فكيف أفعل ذلك على هذه الأرض الجديدة التى لا أحبها ولا تحبنى، مُخاصمها أنا دون سبب ظاهر، لم أتعرف على أهلها بما يصالحنى عليها؟. ومع ذلك انتَصرَ الإعلان.
توجستْ زوجتى خيفة، وقد اعتدتُ توجسها المبدئى ثم رضاها الظاهرى حتى أصبح هذا “النص” (سكريبت) جزءا لا يتجزأ من أرضية قراراتى، فلم يعد يعوقنى. ذهبت إلى العنوان المبين بالإعلان، وكان على بعد بضع خطوات من الفندق، فوجدت شابا وحده يدير العملية (العمليات) كلها، يستلم ويسلم، ويكلم الجراج، ويكلمنى، ويكلم جارى، ويداعب -أو يرد- على أحد المارة، إحدى المارات، أمام باب المحل فى عجل، ويعود إلينا، لكنه لا يعود، ولم أكد أفتح فمى بكلمة “سيارة”، حتى مد يده إلى عدة أوراق وضعها أمامى وانصرف.
أخذت أقرأ، وأنتظر، وأنتظر، وأقرأ… والناس تدخل وتخرج، وهو لا يسأل فى صحتى، لأنى- فى زعمه -“حر”، وأخيرا فعلتها، وكتبت اسمى أمام كلمة “اسم”، وسجلت رقم جوازى، وانتظرت حتى فَرَغ َ من كل الناس، فهّم أن يتركنى ليكمل “سندوتشا” ظل ينتظر نصف ساعة وهو مقضوم منه قضمتين، ومازال ما تبقى منه ينتظر أن يلحق بمصيره المحتوم. ما زلت مستسلما أتفرج عليه وكأنى نسيت ما جئت من أجله. وكأنه نسينى هو الآخر، ألست زبونا مثل الآخرين؟ انتبهت فجأة. من أدرانى أن موجة أخرى من المؤجرين والعائدين لن تجتاحنى، وأنا مازلت أتهته فوق الأوراق؟!. توقف الشاب عن القضم فجأة وخاطبنى بنصف امتلاءه فم، ونصف لسان، ونصف انتباه، نظر فى الأوراق الناقصة بسبب جهلى، وقال بلهجة أمريكية إنه “أو. كى”، “أو. كى”، ما هذا الذى هو “أو. كى”، أنا لم أقل شيئا، ولم أكتب ما يفيد؟. فتناول منى جواز السفر، وأكمل ما أراد: أخرج نسخا، ووضع أوراقا، وطلب النقود بإشارة من يده.
أخرجت له الستة عشر دولارا وخمسة وسبعين سنتا (الحق حق). وهنا فقط وجدت أمامى إنسانا فى كامل الانتباه، وبمتابعة لهجته الأمريكية بالكاد، استطعت أن أرد على تساؤله المتعجب المحتج من ضآلة المبلغ المدفوع، أليس هذا هو المبلغ المثبت فى الإعلان الذى ظل يلاحقنى فى حجرة الفندق الفلانى حتى كاد يظهر فى أحلامى؟ قال: نعم. ولكن هذا المبلغ هو لـلسيارة الفورد الكذا (لم ألتقط اسم الماركة الفرعية بالضبط، فأنا لا أفهم فى هذه المسائل)- قلت بيقين المصرى الفصيح”عليك نور، وأنا لا أريد إلا هذه الفورد بالذات، وإذا به يتأسف بأن هذا الـ… “بالذات” مؤجَّرة، وأن عنده ما هو أفخم وأحسن وأسرع (لعب أمريكانى لجر رجلى إذن!!)-وظل يستعمل أفعل التفضيل حتى لم أعد ألاحقه، قلت: الأمر لله، وما الفرق بالدولار (وليس بالكيلو سرعة) قال: بسيطة، تسعة دولارات وخمسون سنتا (قال يعنى!!)، فأخرجت، بمقاومة مشروعة، عشرة دولارات بالتمام، فى حين انقبضت أسارير زوجتى الواقفة- مسكينة- تتابع الحديث، وتبتهل إلى الله، هكذا ظننت- أن تفسد الصفقة من أصلها. ملأ الرجل الأوراق، وقمت بالتوقيع، وتصورت أنه لم يعد أمامى إلا استلام المفتاح، ولكنه ذهب غير بعيد، ومد يده إلى أوراق أخرى، من رف آخر، ثم عاد متبخترا وقد حلت “اللبانة” محل آثار السندوتش، وجعل يسألنى أسئلة لم تخطر على بالى أصلا: “هل تريد التأمين على السيارة؟. على نفسك؟. على زوجتك؟. لصالح من؟. وعنوانهم؟. و… و…؟”. وأنا فى حياتى لم أؤمن على شىء، ولا على أحد، ولا لصالح أحد، (اللهم إلا بضعة جنيهات سنويا ضد أخطاء المهنة، ومثلها التأمين الإجبارى مع تجديد رخصة السيارة)- قلت لـنفسى: “اللهم اخزك يا شيطان، ياعم قدِّم المشيئة”. فردّ صاحبنا وكأنه سمع حديثى مع نفسى وقد تجلـَّت عليه آثار الديمقراطية الأمريكية فى أتم تجلياتها، ردّ قائلا : “أنت حر” قلت لنفسى : “يا زين ما قلت، نحن فى بلد الحرية”. لكنه راح يذكرنى أنه لو أصيبت السيارة بأى شىء، فسوف أدفع الشئ الفلانى. قلت لنفسى: من أين يا حسرة، ونحن فى بلاد الغربة؟ المهم… كلمة من هنا وكلمة من هنا دفعت ثمانية دولارات (يا بلاش مقابل سيارة بأكملها فى حالة ما إذا…)، حسِبت أنه سيهمد ويسكت، ولكنه لم يفعل، فعاد يذكّرنى بما يمكن أن يصيبنى خلال هذه الساعات الأربع وعشرين (لــن يمر هذا اليوم على خير!!). راح يعدد – فى لطف جم- التَّذْكِرَة باحتمالات الكسر، ، والعجز، والشلل، والعمى، وجميع أنواع الأمراض والإصابات، حتى تصورت أنه لوح فى وجهى بأمراض السرطان والإدمان وضمور الأطراف والإيدز !! فكدت أقتنع أن كل ذلك محتمل خلال يوم النحس هذا داخل سيارته الفخيمة؟!!. تلكأت حاسبا أن كل مرض من هذه المصائب له تأمين بذاته، نظرت إليه وعلى وجهى أسئلة لم أحدد بأيها أبدأ، فإذا به ينظر إلىَّ لائما ساخراً كأنه يعايرنى أنى أمّنت على السيارة، واستخسرت ذلك فى نفسى وزوجتى، وأنى- شخصيا- بذلك- لا أساوى سيارة. فاندفعتُ أمحو الإهانة، ودفعت، ودفعت، ودفعت، هذين دولارين، وهذه أربعة، وهذا لزوجتى اللطيفة (هو يقول…) ليس خسارة فى شبابها!!. وحين ملأ البيانات، وعرف سنى، وسن زوجتى (مع أن الله أمر بالستر) قال لى إنهم سيرسلون “المبلغ”- بإذن الله- إلى أولادى فور حدوث الحادث!!،
جعلت أتحسسنى من رقبتى حتى ساقى، وعلمت لماذا أنا لم أؤمن على حياتى قبل ذلك أصلا، فأنا لم أجد بعد تبريرا مقنعا ومنطقيا يبرر حق هؤلاء الأولاد فيما أملك، لا الآن، ولا بعد موتى، فكيف أستسيغ أن يقبضوا ثمن حياتى شخصيا، وليس فقط ما أملك؟. جعلت أتململ من عدم فهمى لكل الأنظمة التى لا أفهمها، وما أكثرها مهما كان مصدرها. وخطر ببالى أن أسأله بالمرة عن: كم سيقبض، هؤلاء المنتفعون أولادى، إذا ما أكرمهم الله بحادث مريع (أو: رائع) خلال الأربع والعشرين ساعة التالية فى سيارته المصونه؟ سألته فعلا، فذكر مبلغا كبيرا طمأننى على قيمتى وقيمة زوجتى، ياحلاوة، هكذا يكون “تكريم الإنسان”، ذلك الشعار الذى يوضع الآن عندنا على العربات القبيحة إياها بدلا من “عربة نقل الموتى”، وكدت أزهو بجهد والدينا منذ أكثر من خمسين عاما حتى أنجبانا لنساوى هذه الألوف المؤلفة، وبالعملة الصعبة !!. ولكنى سرعان ماتراجعت حين تذكر أن هذه- هى قيمتى “ميتا”، أما قيمتى حيا، فهذا أمر آخر لا أحسب أن أحدا يهتم به بنفس القدر. وحمدت الله أن أحدا من المنتفعين لم يكن معنا، وإلا لزادت احتمالات الحوادث، من يدرى؟. وقد فهمت أيضا لماذا سألنى هذا الشاب عن كل شئ إلا عن مهارتى فى القيادة، بل إنه لم يطـّلع على رخصة القيادة محل فخرى؛ إذْ أنها درجة أولى كما ذكرت، وحسبت مجموع المبالغ التى دفعتها فوصلت إلى 52 دولارا (قارنها بالرقم المكتوب على الإعلان!! 75،16 دولار). وحمدت الله أن جاءت على قدر هذا، ونويت أن أغيظه، وأظل ألف بالسيارة طوال الأربع والعشرين ساعة دون توقف؛ حتى للنوم، وذلك لآخذ بحقى انتقاما من هذا المقلب. نفس ما كنا نعمله فى سينما الكرنك فى شارع عبد العزيز فى الأربعينات حين كنا نستخسر أن نخرج فنرى الفيلم مرتين ما دام “العرض مستمرا”.
………..
………..
ونواصل الأسبوع القادم
_________________