الاهرام: 1-7-2002
تحسين الصورة أم تصحيح الأصل؟
نحن نتكلم عن ماضينا أكثر من اللازم، ثم نلتفت فنخاطب أنفسنا وكأننا نحاول أن نقنعنا، لا نقنعهم، بأننا أحسن جدا. لا الماضى عاد مبررا-فى ذاته – للاحترام. ولا هو يعود. ولا صورتنا فى المرآة، هى حقيقتنا الواجب تقديمها لهم، ولأنفسنا.
فى محاولات موضوعية جادة، يواصل كثير منا تجاوز هذا وذاك. (مثلا : د. وفاء إبراهيم، ود. نادية رضوان وعبد العزيز على حسن. الأهرام) هؤلاء يؤكدون على ضرورة التركيز على الجانب التنويرى الذى نمثله (دينا، أو ثقافة، أو قومية)، وأيضا هم ينتبهون إلى ضرورة حذق الوسيلة الإعلامية القادرة على توصيل ذلك، بما يشمل اقتراح قناة فضائية قومية، أو التحدث بلغاتهم المختلفة، ثم حذق أدوات الإعلام الحديث الشعبى المباشر: بالبريد الإلكترونى (والإنترنت) إلخ.
كل هذا طيب، وهام، وضروري، لكنه ليس مربط الفرس. إن غاية الأمل من مثل هذا الإعلام هو أن ننجح فى كسب تعاطف ما، أو تسيير مظاهرة أو حتى محاولة استصدار مشروع قرار فى مجلس الأمن قبل استعمال الفيتو، لكن المطلوب على المدى الطويل هو أخطر من هذا وأهم، وإن كان لا يقلل من ضرورة هذا المستوى المبدئى الذى يطلقون عليه ‘تحسين الصورة’.
ثمة شروط أساسية لا بد من احترامها إذا كنا نريد أن تصبح صورتنا التى نريد أن نحسنها أمامهم لائقة ومقنعة. ومن ذلك:
أولا : أن تكون الصورة التى نحسنها قريبة من الحقيقة، إن لم تكن معبرة عن كل الحقيقة.
ثانيا: أن تكون هذه الصورة ترجمة لحالة آنية وليست ماضية، (لم يعد يكفى حديثنا المعاد عن ابن رشد، وابن سينا، وصلاح الدين، وحتى محمد عبده)
ثالثا: أن تكون واعدة بمستقبل يمكن تحقيقه (لنا ولهم) بدءا بما يجرى الآن دون الاستغراق فى الحلم.
رابعا: أن تكون صورة قابلة للاختبار، وليست مجرد منظر براق أو جميل أو جذاب، مع أهمية كل ذلك.
خامسا : ألا نركز على ما يريدون أن يروه فينا حتى يرضوا عنا. مثلا : يريدوننا ديمقراطيين بنفس عيوب ديمقراطيتهم؟، حاضر هاكم إثبات أننا ديمقراطيون أكثر من أهل السويد، يريدوننا مدافعون عن حقوق الإنسان كما حددوها، خذ عندك، عندنا مثلما عندكم أو سوف سنكون كما تشتهون..إلخ. كل هذا لا ينفع، ولا يقنع.ثم إننا سوف نسقط فى سنة أولى إذا ما اختبرنا
سادسا: أن تتضمن صورتنا التى نقدمها لهم، نقدا ذاتيا متواضعا وحقيقيا. هم يعملون مثل ذلك طول الوقت برغم نجاحهم وتفوقهم . راجع مثلا ما قدمه المشروع القومى للترجمة مؤخرا: كتاب التحالف الأسود، عن دور المخابرات الأمريكية القذر، تأليف أ.كوكبرن- ج. سانت كلير، وكتاب فكرة الاضمحلال فى التاريخ الغربى تأليف آرثر هرمان.
سابعا : أن تكون صورتنا باعثة للاحترام من واقع الاختلاف الإيجابي، وليست مجرد دفاع عن النفس.
* * *
إن العالم لا يحترم إلا القوة مهما ادعى غير ذلك، صحيح أن تعريف القوة قد تغير، وأن وسائلها قد تحورت، لكن يظل الأقوى هو الأوفر إنتاجا والأكثر عملا ومثابرة ووعدا بفائدة تعم جميع العالمين. أما ما يحترمه العالم أكثر، ويحتاجه أكثر إلحاحا من القوة التى قد يساء استعمالها، فهو الإبداع. بدون هذين العمودين الأساسيين، ‘القوة’ و ‘الإبداع’ لن تكون صورتنا المحسنة إلا عملية تجميل قصيرة العمر. قد يربتون على أكتافنا شفقة، قد يبكون على ضحايانا، قد يتظاهرون من أجلنا، أو يتبرعون لمعونتنا، لكن تظل القوة والإبداع هما القادران على حضورنا فى وعيهم باحترام، ولمدة كافية.
تتركز قوة الشعوب فى اقتصادها أولا، بما يشمل مهارات أبنائها، المعلوماتية خاصة، واستغلال وقتها فى الإنتاج أساسا. كما تتمثل قدرة أمة من الأمم على الإبداع بمدى حرية أبنائها من جهة، وعمق وعيهم من جهة أخري.
الإبداع الذى أعنيه هنا لا يقتصر على ما يظهر فى التشكيل والموسيقى والمسرح أو حتى النظريات العلمية أو الفلسفية. وإنما هو ما يتجلى فيما تضيفه أمة من الأمم من جديد إلى نوعية الحياة :حياتنا ثم حياة كل البشر. إن الإنجازات الرائعة التى تسمى ناتجا إبداعيا ليست إلا مظاهر لموقف وجودى شامل يتفجر من كيان قادر على التجدد والتجديد والطزاجة والإضافة، كيان يتحرك فى مساحة من الحرية الحقيقية ما بين مستويات الوعى من جهة، وما بين الذات والآخرين والطبيعة من جهة أخري. يفعل ذلك وهو يمتلك قدرا كافيا من أدوات القوة، ووسائل التواصل.
هل عندنا هذه المقومات؟
نعم. نحن بشر، لم نتشوه تماما، نستطيع أن نبحث، وأن نعمل، وأن نحلم، وأن نكون، وأن نصير.
عندنا المواد الخام، ومعان أخرى لحقوق الإنسان، ونوعية مختلفة للعلاقة بالطبيعة، وللامتداد فى الكون، وللامتلاء بالآخر، وأمل فى عدل أرسخ. وغير ذلك كثير. ولهذا كله حديث آخر، ليس مني، وإنما من كل من يهمه أمر الناس، واستمرار وتطور هذا النوع البشرى.