الوفد: 24/1/2002
تحديث الحل الثورى
استحالة الحل الثورى، وضرورة تحديثه
إذا كانت حكومتنا السنية قد وصلت إلى هذا الحد من طيبة القلب وهى تخاف علينا فتخفف من بلوانا بهذه الأرقام المتفائلة، والابتسامات المشرقة، فإن علينا أن نرد لها الجميل ونخاف عليها من أى مكروه لا قدّر الله يصبها فيصيبنا، ذلك أن المكروه مسموح أن يصيبنا دونها وليس العكس، أنها تعرف كل حاجة، وتمسك كل حاجة، وتتفضل بحل كل ما ليس له حل، بخطبة عصماء، وأرقام بيضاء، وقلب طاهر. ونخن نحتاجها لذلك، هذا صحيح، فأنا أعرف من بعيد كثيرا من رجالها، وأعرف عنهم كل خير ، لكن النظام الذي نعيشه (حكومة وأهالى) ، والذى لا أعرف له إسما محددا، هو الذى يضطر من يلى الأمر إلى أن تختفى صفاته الطيبة وراء ستار من البيانات “المكيّـفـة”.
ماذا تفيد” المناحة” التى تنصبها الأقلام – مثل قلمى هذا الذى أكتب به أو يكتبنى – إذا لم تساهِم فى حل عملى يمكن أن يخرج إلى حيّز الواقع بأى قدر مهما كان يسيرا؟
فى محاولة أن أبرئ ذمتى، وأزيد من مسئوليتى كمواطن مجتهد، نبّهتُ فى إحدى مقالاتى هنا على أهمية “الحل الفردى” جنبا إلى جنب مع مسئولية الجماعة وواجبات الدولة : اقترحتُ أن يبدأ كل واحد منا من موقعه، ويعمّق مسئوليته، ويقول كلمته، وحسابه على الله، كنت أحاول أن أتجاوز ذلك العجز الذى يصيبنى حين يصّاعد الألم ساحقا وأنا أتابع أحداث فلسطين قبل أن تحل مهزلة أفغانستان فتكِّمل علينا. كان الغرض من التأكيد على أهمية الإسهام الفردى حالا وليس بعد، هو أن نستعين بأنفسنا على قضائنا وقدرنا، وأن نستعين بالله على هذا وذاك، بما نعمل فعلا، وليس فقط بما ننصح أو نقول، نعمل فردا فردا، الآن وليس بعد. ثم تتجمع جهودنا وقتما تتجمع، وتنفرج الأزمة، تلو الأزمة، قال ماذا، ونتطور، و نتحضّر، ونتكامل (رأىتَ كيف؟).
نبّهنى بعض الأصدقاء إلى أننى بذلك أدعو للصبر المخدّر، فيتأجّل الحل الجماعى الضرورى، وأننى أساهم بذلك فى أن تستمرئ الحكومة المرعى، وكلام من هذا، وكدت أصدقهم وسألتهم عن البديل، فصرّح بعضهم ممن أعرف لهيب سخونته بأن البديل هو الحل الثورى، وأن أمثالي يعطلون هذا الحل الحاسم الفعّال ( كذا ؟!!!)
مراجعة نتعلم منها
ثم تواكبت أحداث الأرجنتين مع بيان حكومتنا السنية لتنبّهنا إلى أن المسافة إذا اتسعت جدا بين أولى الأمر وبين الناس، وأن الفساد إذا زاد حتى أصبح القاعدة، فإن أى شىء محتمل. وصلت رسالة الأرجنتين إلى معظمنا، وكتب بعضنا وحذّر، لكن حكومتنا الهادئة الواثقة، لم تهتز لها شعرة. فمن أىن لها كل هذه الطمأنينة؟
أقر وأعترف أننى ضد الحل الثورى الإنقلابى لسببين: أحدهما يتعلّق بشخصى، والآخر يتعلّق بتصورى معرفة طبيعة شعبنا الطيب، أما عن شخصى فأنا لا أجد مبررا موضوعيا للحديث عن نفسى بأى تفاصيل، خاصة وأن أسباب تخوفى من مثل هذه الحلول الثورية ليس مما يفخر بها أحد عادة، أما أسبابى العامة التى تحذرنى من الحل الثورى هذا فهى تتلخص فى أننا شعب يعرف الصبر (حتى على جاره السوء، حتى يرحل أو تأتى له مصيبه تأخده)، ثم إننا جرّبنا مسار ومصير الانقلابات العشوائىة، أو بالصدفة، فكانت النتيجة لا تسرّ، حتى بعد أن صدق الانقلابيون أنهم ثوار، وبعضهم استطاع فعلا أن يترقى من درجة انقلابى احتجاجا على انتخابات أعضاء مجلس إدارة ناد من النوادى، إلى ثائر يطبق نظاما اشتراكيا لا يعرف عن جوهره شيئا. جاءت النتيحة النهائية “ليست هى”، ولا داعى لتقليب المواجع.
لماذا التحريض؟ إلى أىن؟
بعد ما آل حالنا إليه، ينبغى أن ننتبه إلى أن التحريض على حكم ليس فى أساسيات نظامه ما يسمح بآليات التغيير السلمى، لن يؤدى إلا إلى تشنج جماعى غاضب، لا نعرف ماذا بعده، ولا من يرث نتائجه، ليس معنى ذلك أننا ينبغى أن نحافظ على الصبر طول الوقت، أو أن علينا أن نكف عن النصيحة حتى يأذن الله فى أمرنا وأمر حكامنا الأفاضل، لكننى أقصد أنه ينبغى علينا أن نحسن دراسة الموقف، وتدقيق الحسابات هذه المرة أكثر من كل مرة.
إن أى تغيير يتجاوز ما يسمى تداول السلطة السلمى (وهو أمر يبتعد أكثر وأكثر مع مرور الأيام واطمئنان الحكومة إلا ما لا يـٌطـَـمـْـئِن) لا بد أن يكون محـسوبا حسبة أخرى غير تلك التى كانت تصلح أوائل القرن، أو حتى بعد منتصفه بقليل. إن النتائج المحتملة لمثل هذه المغامرات، (مهما صاحبَها من فرحة “إزالة الغمّة من على قلب الأمّة”) ليست دائما أفضل مما قامت لهدمه . إن التغيير الجذرى دون إعداد ودون بنية أساسية قادرة على استلام المسئولية، ودون وعى جماعى ناضج وليس فقط منفعلا، لن يؤدى إلا إلى “تكرار النص”، وهو ما أشرت إليه فى المقال السابق حين نبّهت أننا لا نريد أن نعيد خمسين عاما بحذافيرها ثم نسمع بيانا مشابها لما نرفضه الآن. خسمون عاما امتلأت بالتجربة والخطأ (والصواب أحيانا) ، يتخللها سلسلة من الاعتذارات دون عقاب، وهزائم دون تعلم، ثم انتصارات دون مشاركة شعبية إلا بقدر ما يستعيد النظام توازنه . ثم “كما كنت”. ليعود الشعب إلى الصبر، ويعود النظام إلى النسيان. النظام يجرّب، والتكرار يتكرر، وبختك يا بو بخيت. أقول إنه إذا كان حكامنا لا يتعلّمون بدرجة كافية ، فعلينا نحن أن نتعلّم، لأننا – مرة أخرى – نحن الذين ندفع الثمن.
القوة ضد الناس
الأمور تغيّرت محليا، وعالميا، السلطات المركزية تعملقت على حساب حركية الناس وإبداعاتهم. اتفق الحكام على الناس فى سائر أنحاء الدنيا، مع أن التاريخ يقول إنهم يحكمون لخدمة الناس . الذى حصل. تحالَف المال مع المال، وانفصلت الشركات العملاقة حتى عن الحكومات التى أجازتها ودّعمتها ، وانفصلت حقوق الإنسان عن الإنسان، ثم جاءت المصيبة الأخيرة فتأكد تحالف الحكومات مع بعضها البعض على حساب الناس الحقيقيين بمن فيهم ناسهم شخصيا (إلا الغوغاء المنفعلين منهم، حتى لو مثلوا الأغلبية المبرمجة بالإعلام المتحيز). الآن تقف قوة المال والسلاح بالمرصاد لبقية ناس العالم ، وهى جاهزة للتهذيب والإصلاح فورا دون محاكمة، السياسة انقلبت دروسا فى التربية العسكرية ، وتدريبات لترويض العبيد، فى سـِرْك مكافحة الإرهاب.
الثائر إرهابى
زمان، كان أى واحد يثور على حكومته، إذا ما نجحت ثورته لصالح ناسه، يعتبر بطلا، ورمزا، وقائدا، وكلاما من هذا، كذلك كانت قوى التحرير هى قوى التحرير، أو على أسوأ الفروض، قوى التمرد، من أول الجزائر حتى فولتا العليا مرورا بفيتنام ومصر، أما الآن فإن المرأة التى ترقد فى بيتها فى رفح وهى تحتضن أطفالها النائمين جوعى نتيجة لحصارٍ مجرم ، هى إرهابية أساسا، بشهادة كولن باول : ذلك لأنه بلغه، أن جنديا إسرائىليا لا يكذب (هذا رأى السيد باول) قد شاهد حجرا ينطلق من نافذة هذه السيدة ، فأبلغ رئاسته أن هذا البيت يؤوى إرهابيا، ولم تتأكد قيادته من أن هذا الجندى كان قد زوّد العيار حبّتين، ولا من أن ما شاهده هذا كان حلما أم علما، كما لم تتمكن هذه القيادة ، ولا ذلك الجندى الإسرائيلى (المسطول أو شبه النائم) من تحديد البيت مصدر التهديد الذى صوّره له خياله. النتيجة أن قامت السلطة الرسمية الإسرائىلية، وبأوامر من أعلى مستوى وزارى أمنى عسكرى معا، بهدم أكثر من خمسين منزلا وتشريد كل من فيهم فى درجة حرارة حول الصفر. فيسمّى وزير الخارجية الأمريكية الديمقراطية العولمية هذا كله “دفاعا عن النفس”، أما الرد على ذلك من الدول العربية، فهو حازم حاسم، وهو أن هذا العمل لا يفيد عملية السلام (هل قال أحد، حتى شارون نفسه أنه يفيدها؟)، وأن علينا أن نرجع إلى مائدة المفاوضات ، نرتشف حساء “ميتشيل” و مشهيات “بنيت”، قبل الطبق الرئيسى (الحل النهائى الشامل)، ولا عزاء للجامعة العربية والإسلامية وكافة منظمات حقوق الإنسان.
الجو العالمى الجديد
فى مثل هذا الجو الذى أصبحت فيه ذراع السلطة العولمية بهذا الامتداد، وهذا الصمم، وهذا العمى، وهذا البطش فى آن، فى مثل هذا الجو الذى غطس فيه ضمير العالم فى هذا السبات الآسِن، الذى اختلّت فيه كل الموازين التى كانت تصنف الناس إلى ثوار، وظلمة، أو إلى مستعمِرين ومستعمَرين، أو حتى إلى “حكومة وأهالى”، فى مثل هذا الجو انقلب تصنيف الناس إلى إرهابى وضد إرهابى، ثم فئة ثالثة تحت التصنيف هى”مشروع إرهابى”. أنت إن لم تكن أمريكى الصنع ، فأنت إما إرهابى أو مشروع إرهابى، ولا فرق بين الصنفين الأخيرين في نهاية النهاية، الإرهابى يُباد ويُـفنى بالشبهات، و “مشروع الإرهابى” يتم خصاؤه اقتصاديا وسياسيا تبعا للمبدأ الحكيم أن “الوقاية خير من العلاج” . الحكومة العالمية ليس عندها وقت للتحقق أو التحقيق.
فى مثل هذا الجو العالمى الجديد (على وزن النظام العالمى الجديد) سوف يكون الأرجح أن تُعتبر أى ثورة، ولو محلية جدا، ولو مشروعة، ولو محدودة، نوعا من الإرهاب، ليس فقط ضد السلطة المحلية، ولكن ضد مصالح العالم الحر، وضد الديمقراطية، وضد حقوق الإنسان ، وضد التنوير. وضد الدماثة الحضارية، وضد السلام. كل هذا على شرط أن تكون الحكومة التي قامت ضدها الثورة مصنفة “صناعة أمريكية”. أما إذا كان الثوار أنصح من الحكومة التى ثاروا عليها، وسبقوا فحصلوا على شهادة الأيزو السياسية التى تفيد أنهم أولى بأن يكونوا هم الأحق بصفة “صناعة أمريكية ” (مثل تحالف الشمال فى أفغانستان، أو بن لادن وطالبان أيام احتلال السوفييت لأفغانستان) ، فإنه فى هذه الحالة الاستثنائية تكون الحكومة المخلوعة هى الإرهابية حسب القانون العالمى الجديد. (أىضا على وزن “النظام العالمى الجديد) .
هل معنى ذلك أن الاحتجاجات، والانقلابات، والثورات أصبح غير مسموح بها من خلال المخابرات المركزية ؟ لست متأكدا، لكن الملاحظ أن المخرج العالمي هذه الأيام يحب الحركة ،دون الخروج على النص، فهو يسمح لمن يحتج أن يحتج كما يشاء، ليس فقط منا، وإنما منهم أيضا، من داخل داخلهم، لينتقد من شاء كيف شاء، كل الكلمات مسموح بها على صفحات الصحف أو فى كتاب لا يعلم عنه أحد شيئا، حيث القراءة للجميع إلا للحكام، ليس لجهلهم – لا سمح الله -، ولكن لأنهم سبق أن قرأوا ما فيه الكفاية ، وشهادة الجندى الإسرائيلى، المسطول شبه النائم، لا تحتاج إلى قراءة، اللهم إلا إذا كانت قراءة الكف لمعرفة أى من نشطاء فتح كان ينوى أن يرهب ابنة خالة السيد شارون ليستحق حكم الإعدام من مجلس الوزراء شخصيا. مبدأ جديد يقول”إنما الإعدام بالنيات”، و الشهداء يدفعون ثمن أحلام وكوابيس جنود العدو .
فى هذا الجو الخطير المنذر بالقضاء على كل الإنجازات البشرية التطورية والحضارية والمدنية والإبداعية، على الناس أن تعيد حساباتها حتى لا يطمئنوالمن يلوّح لهم بالحلول الثورية التي تم تطبيقها فى سالف الأيام. التاريخ لا يعيد نفسه حرفيا، لكنّه يعيد نفسه فى طفرة نوعية تضع الظروف الجديدة فى الاعتبار.
طمأنينة مبررة
إن الطمأنينة التى حلّت بالسادة الحكام ، خصوصا المشاركين فى التحالف العالمى ضد الإرهاب، هى طمأنينة لها ما يبررها، فقد أثبتت الأحداث إن الحصول عليها لا يحتاج إلا لملء استمارة ع.ح. ض.إ : 2002( عالم حر ضد إرهاب -موديل ألفين واتنين).. إنها وصفة مضمونة المفعول واسألوا السيد بيريز مشرف الذى ولى حكم بلاده نتيجة انتخابات عسكرية مفاجئة ، هكذا اكتشفت أمريكا مؤخرا مدى انتمائه للعالم الحر وهو يقتدى بإسرائىل وأمريكا لتأديب الثوار، (آسف : الإرهابيين السفلة) . أصبح هذا المشرف فجأة حاكما ديمقراطيا بمجرد أن أظهر استعداده للتنازل عن كل شىء إلا عن الكرسى الذى اعتلاه بناء عن إصرار الشعب (الأمريكى) ( ما تِفرقْشِى أهى كلها شعوب). ظهرت أعراض هذا التوجه المطمئن أيضا في اليمن وهى تقدم فر وض الطاعة والسلام لسادة الحرية الكرام، كما يبدو أن الموقف سيتكرر فى أكثر من موقع ونحن نتابع باقات الصداقات وشهادات الولاء، تـُـقَدّم للبيت الأبيض وهى ترسل دون أى مناسبة (وهىّ أعيادك بمعاد ، دى كل أيامك أعياد).
هكذا ابتعد الحل الثوري التقليدى بشكل مزعج.
تفريغ الناس من الوعى السياسى
ما العمل يا سادتى الكرام، ربنا يسترها معكم ؟ ما هو النظام الذى يحكمنا بالضبط وكيف يمكن تطويره؟ أو تعديله، أو جعله يستمع إلى النصيحة ؟ إذا كانت الحكومة هذه الحكومة، أو أى حكومة قبل، وبعد، وبدون أى تغيير، (كله واحد) هى التى تتولى وستتولى، ولسوف تتولى أمرنا هكذا طول الوقت، (حسبما يبدو فى الأفق المحتمل لشخص واقعى مثلى) وإذا كانت فى نفس الوقت لا تسمع للناس ، لا المخلصين ولا المغرضين. لا المضارّين، ولا المجتهدين، فما العمل ؟ هل يصحلنا أن نشك أنها اطمأنت هى الأخرى إلى أن بقاءها لا يحتاج إلى الناس بقدر ما يحتاج إلى تفريغ أى بدائل جاهزة لأى دور أكثر فاعلية وإنتاجا ؟ لا، لا يصح . ماشى لن نشك.
إن الخطيئة السياسية الكبرى التى نعيشها لا تتمثل فى أخطاء الحكومة ، فأى حكومة فى الدنيا تخطئ وتصيب ، إن الجريمة الحقيقية هى فى الفراغ السياسى الذى يتزايد يوما بعد يوم. إن ذلك يتفاقم كلما زادت طمأنينة الحكومة إلى عدم وجود بديل حقيقى قادر على أن يتولى الأمر، ولو فى حالة الضرورة القصوى، لا أريد أن أبالغ وأقول إن هذا الفراغ هو بفعل فاعل، وبصراحة : أنا لا أحسن الظن بفطنة وقدرة حكامنا لدرجة تصوّر أنهم قادرون على تفريغ وعى الناس بإرادة مبرمجة لتحقيق هذه الصورة التى آل إليها حال الناس. إن أخطر الخطر على أمّة من الأمم أن ينفك عقدها لأى سبب من الأسباب، وأن يمتد هذا الفك حتى يحل محل وعيها الجماعى (القومى أو الوطنى) فراغ سلبى يشفط كل ما يقترب منه فى دوامة بلا قرار.
وعى الناس حول هدف مشترك
فإذا كان الحل الثورى ليس قريبا، ولا هو مضمون النتائج حتى لو نجح مؤقتا، فلا بد من عمل شىء بديل، الآن وليس بعد، بدءا بى وبك (عزيزى القارىء) والحكومات سوف تلحق بنا مضطرة .
إن كل الجهود عبر العالم بدءا بالأفرد وغير منتهية بالحكومات لا بد وأن تتجمع مهما بدا السعى بطيئا، أصبح فى مقدور الأفراد عبر العالم أن يتواصلوا، أن يتبادلوا الأفكار ، أن يحافظوا عل الأمل معا..إلخ. سوف يتراكم وعى الناس الجماعى فى اتجاه إيجابى متزايد يسمح للجنس البشرى فى كل مكان أن يحصل على ناتج صبره بإبداع سبل ثورية أخرى ، الثورة القادمة لن تقتصر على وطن بذاته ، و إنما هى سوف تـنـقذ العالم كله مما يراد به، أو مما يتورط فيه. أصبح فى الإمكان أن تتجمع إشعاعات جهد الناس فى بؤرة مجهولة، بعيدا عن سيطرة هذه القوى المركزية العملاقة الصماء. سوف يصنع الناس عولمة حقيقية تحقق أمل الإنسان وتحافظ على نوعه.
إن هذ الهدف العام الضام لأحلام البشر ليس بديلا عن الأهداف الصغيرة الخاصة بكل مجموعة على حدة، هو ليس بديلا عن المشروع القومى، ولا عن الاستقلال الاقتصادي لمجموعة من الدول، ولا عن تحرير أرض مغتصبة لشعب محتل مسحوق، ولا عن توجه المتدينين – كل من موقع دينه – نحو وجه الله سبحانه وتعالى – هدف الوجود الأعظم- ، إن هذا الهدف العام هو النتاج الطبيعى لمسيرة كل هذه الأهداف الفردية ، فالجماعية، فالقومية فالعالمية المتوجهة معا إلى وجه الحق سبحانه، بعيدا عن، وبالرغم من : وصاية القوى الحاكمة الأعظم.
أغلب مثل هذه الأهداف تنبع من الناس لا تهبط عليهم من الحكومات، إن الذى يشكل وعى الناس معا فى نسيج واحد هو خطر مشترك، خطر يصل إلى كل واحد بشكل مباشر ومن ثم فإن إخفاء الخطر على الناس تحت زعم إرضائهم، أو طمأنتهم، قد يسهم فى مزيد من السلبية. من هنا جاءت أهمية فهم أحداث سبتمبر فهما إنسانيا منذرا عاما، لا فرديا ثأريا.
إن الذى يمكن أن يشكل وعى الناس معا هو أمل مشترك يعيشه الناس وهم يحاولون تحقيقه، كل على حده، ويزداد حرصهم على تحقيقه وهم معا، إن الذى يشكل وعى الناس معا هو عدو مشترك، يتحداهم، أو يهينهم، فيرفضون الإهانة معا، قبل مرحلة الانسحاق بالتنازلات تلو التنازلات. علّمنا التاريخ أن طريق التنازلات، قهرا من جانب واحد، ليس له نهاية. إن الذى يشكل وعى الناس “معا” هو احترامهم وإشراكهم فى أمورهم بحيث يتخذون قرارهم معا، فيتحملون نتائجه معا،مما يسمّى الديقراطية أحيانا ولا مؤاخذة.
إن كل هذه الشروط ضرورية إذا كنا نعدّ أن يرث الأمر من يستطيع أن يتحمّل المسئولية أكثر. إن ما وصلنا إليه من فراغ وتفريغ هو أول ما يحذرنا من المبالغة فى التحريض دون إعداد هذا التراكم الإيجابى الذى يجمع الناس معا، وإلا فلا أحد يعرف من الذى سوف يرث نتيجة هذا التحريض، جماعات دينية متناثرة أكثر تخلفا، أم جماعات كلامية متشنجة، أم جماعات ثللية ثقافية متفرجة، أم جماعات هيبية (من الهيبيز) متفسخة ؟
إبراء ذمـة
أرجوا ألا تكون حساباتى هذه سببا فى أن تطمئن حكومتنا الغالية إلى إطالة عمرها الافتراضى، لا أريد أن أصدق أنها وصلت إلى درجة يمكن أن توصف بأنها “حكومة استغنت عن شعبها” . إن صحّ ذلك – لا قدّر الله – فإنه يفسر كيف استغنى الناس بدورهم عن الحكومة فتناثروا هنا وهناك ما بين المنتجعات المرفهة المعزولة، والبيوت المتناثرة العشوائىة ، والحراسة الخاصة، والمدراس العالمية (والمعولمة) والمدراس التغشيشية المزيفة.